كثير من الكتاب التفتوا إلى معارك طه حسين الفكرية طوال مسيرته، لكن مال البعض إلى تقييدها فى إطارها المحدود الذى يبرز المعركة من جانب أحادى البعد، ألا وهو ماذا قال عميد الأدب العربى "طه حسين"، وقلت النظرة للجهة المقابلة لعميد الأدب العربي. هذا له ما يبرره باعتبار أن طه حسين لا يُبارح خانة المجدد وهذا قول حق لا خلاف عليه. معارك "طه" لم تقترب من المهادنة فى شيء، بل تتسم دومًا بالعناد الفكرى بمعناه الحسن أى التمسك بالرأى المبنى على أسانيد وبراهين تاريخية وحقيقية. وفى قراءة معارك طه حسين الفكرية يجب النظر إليها فى ظرفها الزماني، فحقبته كانت سلطتها الأولى ثقافية وكان على أثر ذلك هيبة للمثقف لا يضاهيها هيبة.
"فى الشعر الجاهلي" أكثر المعارك شراسة
تأتى معركة عميد الأدب العربى التى أشعلها كتابه "فى الشعر الجاهلي" فى المرتبة الأولى لشهرتها وليس بترتيبها الزمنى بين معاركه الفكرية التى خاضها، وأجبر متلقيها على التفاعل معها سلبًا وإيجابًا، بتقدمه خطوات فكرية فى أراض لم يطأ قدم أحد قبله عليها، حيث أنه كان يربط بين الثقافة المصرية والأوروبية بوشائج تاريخية وجغرافية قوية، وهذا التوجه إلى الشمال كان يغضب الكثير من حوله.
فى كتابه يبدأ "طه حسين" حديثه فى الصفحات الأولى بالحديث عن المنهج الذى اتبعه قائلا: "أحب أن أكون واضحا جليا، وأن أقول للناس ما أريد أن أقول دون أن اضطرهم إلى أن يتأولوا ويذهبوا مذاهب مختلفة فى النقد والتفسير والكشف عن الأغراض التى أرمى إليها"، وهنا يشير "طه" إلى استخدامه المنهج الديكارتى القائم على الشك.
والمقصود بنظرية المعرفة أو المنهج الديكارتى هو المنهج الجديد فى الفلسفة -وقتذاك- وبسببه سُمى ديكارت بـ"أبو الفلسفة الحديثة"، ويقوم المنهج الديكارتى على أساسين، هما البداهة أى التصور الذى يتولد فى نفس سليمة منتبهة عن مجرد الأنوار العقلية، ثم الاستنباط أى العملية العقلية التى تنقلنا من الفكرة البديهية إلى نتيجة أخرى تصدر عنها بالضرورة.
ويترجم الشك المنهجى عند ديكارت بالقواعد الأربعة التى وضعها، وهي: قاعدة البداهة، وقاعدة التحليل، وقاعدة التركيب، وقاعدة الإحصاء أو الاستقراء، أما قاعدة البداهة، فهى تعنى أن لا يذعن الفكر إلا للبداهة فقط، وهى بداهة المعانى العقلية لا بداهة الأشياء الحسية، أى بداهة المعرفة الواضحة البيّنة.
ويتسم الشك الديكارتى بمنهجيته، باستخدام الشك بوصفه أداةً للوصول إلى معرفة معينة من خلال تمييز ما لا يمكن الشك فيه، وتُعتبر قابلية الخطأ فى البيانات الحسية تحديدًا موضوعًا للشك الديكارتي.
وبهذا الفهم للمنهج الذى طبقه عميد الأدب العربى منحنا عبور عتبة هامة لفهم عقلية تنويرية خاضت معارك فكرية طاحنة ـتقريباـ فى كل مراحلها الفكرية.
إذ ترتب على نشر الكتاب "فى الشعر الجاهلي" سنة ١٩٢٦، الكثير من الأحداث التى نالت من "طه" فقد كُفر من التيار الإسلامى باعتبار كتابه طعنا صريحا فى المقدسات الإسلامية. رغم تخرجه فى الأزهر وحمل لقب شيخ لم يحمه من استنكار جارف لأنه خلص فى كتابه إلى أن الشعر الجاهلى منحول، وكتب بعد وجود الإسلام ثم نسب للشعراء الجاهليين.
وجاء فى الكتاب: "كل الشعر الجاهلى قد وُضع بعد الإسلام ممن اعتنقوا الإسلام، ثم نسبوه إلى العرب فى العصر الجاهلي، وكان السبب فى هذا الوضع وانتحال العديد من الأسباب السياسية والدينية، كأن تحاول قريش الإعلاء من شأنها بين القبائل الأخرى، أو محاولة الأمويين إثبات أنهم الأحق بكل شيء فى أمور الحياة، أو محاولات إثبات أمر من أمور الدين حسب تفسيرهم وأهوائهم، ما جعلهم يحاولون تأليف الشعر الذى يُثبت ما يذهبون إليه، ثم ينسبونه فيما بعد إلى العرب فى الجاهلية، وإن الكثرة المطلقة مما نسميه شعرا جاهليا ليست من الجاهلية فى شيء، وإنما هى مُنتحلة مُختلقة بعد ظهور الإسلام، فهى إسلامية تُمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تُمثل حياة الجاهليين، وأكاد لا أشك فى أن ما بقى من الشعر الجاهلى الصحيح قليل جدا لا يمثل شيئا ولا يدل على أى شيء، ولا ينبغى الاعتماد عليه فى استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي، وأنا أُقدر النتائج الخطرة لهذه النتيجة، ولكنى مع ذلك لا أتردد فى إثباتها وإذاعتها، ولا أضعف عن أن أعلن إليك وإلى غيرك من القراء أن ما تقرأه على أنه شعر امرئ القيس، أو طرفة، أو ابن كلثوم، أو عنترة ليس من هؤلاء الناس فى شيء، وإنما هو انتحال الرواة أو اختلاق الأعراب أو صنعة النحاة، أو تكلف القصاص، أو اختراع المفسرين والمحدثين والمتكلمين، وأن الشعر الذى يُضاف إليه الجاهليون يمثل حياة غامضة جافة بعيدة عن الدين، بينما القرآن يمثل لنا حياة دينية وعقلية قوية، ويمثل لنا القرآن الكريم أيضا اتصال العرب بغيرهم من الأمم المجاورة، كما يصور حياة العرب الاقتصادية، فى حين يخلو الشعر الجاهلى من ذلك كله".
كما ذهب "طه" إلى أن "الأدب الجاهلى أيضا لا يمثل اللغة الجاهلية، لاختلاف اللغة الحميرية عن اللغة العدنانية جد الاختلاف، والمأثور من شعر الشعراء القحطانيين مروى باللغة العدنانية مع أنهم لم يكونوا يتكلمون بها، ولم يتخذوها لغة أدبية لهم قبل الإسلام كما حدث بعد الإسلام، ما يدل على انتحال هذا الشعر وسواه من فنون الأدب على هؤلاء القحطانيين، كما أن اختلاف اللهجات العدنانية أمر ثابت لا شك فيه، ولا نجد أثرا لهذا الاختلاف فى الشعر الجاهلى المأثور، ما يدل على انتحال هذا الشعر، وأنه قد حمل حملا على هذه القبائل بعد الإسلام، فليس من المعقول أن يكون الشعر الجاهلى بالكامل على لهجة واحدة من لهجات العرب وهى لهجة قريش فقط".
ولأن الكتاب يقدم أسلوبًا نقديًا جديدًا للغة العربية وآدابها واجه تلك الهجمات المعارضة له، لمخالفته الأسلوب النقدى القديم المتوارث، ولا يمكن إغفال دور الكاتب مصطفى صادق الرافعى فى إشعال نار المعركة بمقالاته التى انتقد فيها طه حسين ومنهجه، ومن ثم أثارت حفيظة رجال الأزهر وحددت وجهتهم، واتهم "طه حسين" بالإلحاد، وترتب على ذلك سحب الكتاب من الأسواق، كما قامت وزارة إسماعيل صدقى باشا عام ١٩٣٢ بفصله من الجامعة كرئيس لكلية الآداب، فاحتج على ذلك رئيس الجامعة أحمد لطفى السيد، وقدم استقالته، ولم يعد طه حسين إلى منصبه إلا عندما تقلد الوفد الحكم سنة ١٩٣٦.
وفى نهاية الأزمة تم حفظ التحقيقات مع الدكتور طه حسين، وأعاد طبع الكتاب بعنوان "الأدب الجاهلي" بعد أن رفع منه الفصول الأربعة التى أثارت الرأى العام، ولم ينتصر أحد فى هذه المعركة من الأطراف المتصارعة بالأحرى كان النصر للمطلعين عليها.
رسالة الغفران
وبين عميد الأدب العربى طه حسين وبين صاحب العبقريات عباس محمود العقاد معركة فكرية بدأت حينما نشر "طه" كتابه "حول فلسفة أبى العلاء المعري"، كتب "العقاد" مقالا قال فيه:ـ
كتب العقاد حول فلسفة أبى العلاء المعرى وتحديدا عن الخيال فى عمله الأدبى "رسالة الغفران" التى كانت ترصد حال النعيم والسعير والشخوص مقالا قال فيه:ـ
"إن رسالة الغفران نمط وحدها فى آدابنا العربية وأسلوب شائق ونسق طريف فى النقد والرواية وفكرة لبقة لا نعلم أن أحدًا سبق المعرى إليها، ذلك تقديرى موجز لرسالة الغفران". استفز طه حسين من تلك الكلمات، ولم يعجبه، ليكتب مقالا يسخر فيه "العقاد" قائلا: "ولكن الذى اختلف العقاد فيه مخالفة شديدة هو زعمه فى فصل آخر أن أبا العلاء لم يكن صاحب خيال حقًا فى رسالة الغفران، هذا نُكر من القول لا أدرى كيف تورط فيه كاتب كالعقاد، أما أنا فلن أنخدع له، فهو ينكر على أبى العلاء أن يكون شاعرا عظيم الحظ من الخيال فى رسالة الغفران، (سنة سودة) كما يقول العامة، وهل يعلم العقاد أن "دانتي" إنما صار شاعرا نابغة خالدا على العصور والأجيال واثقا من إعجاب الناس جميعا بشيء يشبه من كل وجه رسالة الغفران هذه".
ويشى التاريخ المعاصر بعدم توقف انتقادات "طه" لـ"العقاد" إطلاقًا سرا وعلنا، ففى حوار متلفز بثه التلفزيون المصرى وبحضور ١٠ من الأدباء كان من بينهم "نجيب محفوظ، يوسف السباعى وأنيس منصور وعبد الرحمن الشرقاوى ومحمود أمين العالم وغيرهم" سأله أى طه أنيس منصور حول أدب العقاد، فصمت "طه" لبرهة ثم رد على السؤال بقوله: "وهل تفهم منه شيئًا"، ليجيبه أنيس منصور: "نعم أفهم لا أستطيع أن أقول أننى لا أفهم"، فرد عليه "طه": "أنا لا أفهم منه شيئًا" وضحك. ولكن المفارقة فى هذا الصراع تتحقق حينما نعلم بدفاع العقاد عن طه حسين إبان محنته بكتاب الشعر الجاهلي، وخالف رأى حزبه حيث كان عضوًا بارزًا فى الوفد، وبعد سنوات عندما تحول طه حسين إلى الوفد جامل العقاد وأهداه كتاب "دعاء الكروان".
لقمة العيش
تسع سنوات كاملة كانت الإطار الزمنى لصدام طه حسين مع زكى مبارك ١٨٩٢-١٩٥٢ وكان اصطداما شديد العنف، فى البداية كانت المواجهة بين الرجلين فكرية بحته ثم تحولت إلى خلاف شخصى حاد، واشتهرت فى الأدب العربى بمعركة لقمة عيش.
ويرجع الخلاف الفكرى بين "طه حسين" و"زكى مبارك" إلى أمرين، الأول كان يرى طه حسين أن العقل اليونانى هو مصدر التحضر وأن عقلية مصر هى عقلية يونانية ولا بد لمصر أن تعود إلى احتضان ثقافة وفلسفة اليونان، فى حين كان "زكى مبارك" ضد هذا التوجه والنزعة اليونانية واتهم طه حسين بنقل واتباع آراء المستشرقين.
أما الأمر الثانى فيتعلق بأطروحة النثر الفني، فكان يرى زكى مبارك، أن أصل النثر الفنى عند العرب يمتد إلى ما قبل عصر الإسلام، على عكس "طه حسين" الذى ذهب مذهب المستشرقين ودافع عن الرأى القائل: إن النثر الفنى فن اكتسبه العرب بعد الإسلام ولم يعرف إلا فى أواخر العصر الأموى حين اتصل العرب بثقافة بالفرس.
وبعد عودة "طه حسين" إلى الجامعة المصرية بعد أزمته السياسية التى واجهته فى كتابه "فى الشعر الجاهلي"، تحول هذا الخلاف الفكرى إلى صراع شخصى برفض تجديد عقد زكى مبارك وفصله من الجامعة. وتوهجت نيران الصراع حينما أشار طه حسين إلى كتاب زكى مبارك "النثر الفنى فى القرن الرابع" إشارة عابرة بعبارة قاسية ومؤلمة فى حق الكاتب والكتاب حيث قال: "كتاب من الكتب ألفه كاتب من الكتاب"، متجاهلا عنوان الكتاب واسم الكاتب.
وكان أثر ذلك ووقوع هذه الجملة كالسهام القاتلة على "زكى مبارك"، وخصوصا أنه كان تلميذ وصديق طه حسين، وأيضا سانده ووقف بجانبه فى محنته أثناء أزمة كتاب "فى الشعر الجاهلي" المشهورة، ولهذا كرس "مبارك" جل مقالاته للرد على "طه" ولم يترك مناسبة إلا وهاجم فيها "طه" هجوما عنيفا.
حتى وصلت العداوة بأن يقول زكى مبارك "ولو جاع أولادى لشويت طه حسين وأطعمتهم لحمه".
صهيونية "طه" المزعومة
فى سياق آخر اتهم طه حسين كذلك بمحاباة الصهيونية، حينما أصدر مجلة "الكاتب المصري" فى أكتوبر سنة ١٩٤٥ بتمويل من شركة تملكها أسرة "هراري" اليهودية المصرية، وكانت آنذاك متخصصة فى الطباعة وأجهزة تصوير المستندات وبيع الآلات الكاتبة وغيرها، وبعد أن صدرت الأعداد الأولى من هذه المجلة وبدأت حرب الإشاعات ضد طه حسين ومجلته، وتوقفت المجلة فى شهر مايو ١٩٤٨، وهو الشهر الذى شهد اندلاع الحرب العربية الإسرائيلية الأولى، بعدما شنت عليه الحملات من منافسيه تتهمه بأنه يصدر مجلته بأموال الصهيونية التى هضمت فلسطين.
ولد طه حسين فى ١٥ نوفمبر سنة ١٨٨٩، بمغاغة فى محافظة المنيا، وتوفى فى ٢٨ أكتوبر ١٩٧٣سنة بالقاهرة، وفى قصيدة رثاء لعميد الأدب العربى طه حسين قال الشاعر "نزار قباني":
"ضوء عينيك
أم هما نجمتان
كلهم لا يرى وأنت تراني
ارم نظارتيك
كى أتملى كيف تبكى شواطئ المرجان
أيها الأزهري.. يا سارق النار
ويا كاسر حدود الثواني
عد إلينا
فإن عصرك عصر ذهبي
ونحن عصر ثاني".ً