لا شك أن التدريبات العسكرية الأخيرة التى نظمتها الولايات المتحدة والفلبين من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى وبطريقة أكثر إثارة للإعجاب، فى المياه المتاخمة لتايوان، لا يمكن إلا أن تتسبب فى قلق العالم وتسبب مشاكل على الساحة الدولة، حتى أن الجانب الروسى الصينى لجأ إلى ما يسمى بطريقة «الكل على سطح السفينة» فى السفن العسكرية، مما يعنى الاستعداد الكامل لهجوم وشيك واسع النطاق.
تألفت هذه التدريبات الصينية الأخيرة فى بحر الصين الجنوبى ممما يرقى إلى التدريبات على الغزو المعلن منذ فترة طويلة، لذلك تخشى اليابان والدول المجاورة الأخرى مثل الفلبين وأستراليا من عواقب التوسع العسكرى الصينى الإقليمى، وحاليًا، فإن اليابان هى بالضبط الدولة الآسيوية الوحيدة التى احتلت بدورها فى القرن الماضى، فى تاريخ الإمبراطورية الصينية الوسطى السابقة، والمعروفة بإسم «الوسط»، كإمبراطورية نفسها، جزءًا مهمًا من الصين يُطلق عليه آنذاك «منشوريا»، وذلك فى سياق الحرب العالمية الثانية. اليابان، التى تسرع الآن لإعادة بناء نظام دفاعى قادر على مواجهة الاصطدام مع الصين، قد حُرمت لعقود من جيشها، وذلك بعد هزيمتها ضد الولايات المتحدة فى الحرب العالمية.
وفى الحقيقة يعتبر الوضع فى بحر الصين الجنوبى معقدًا لدرجة كبيرة بسبب مطالبات الصين العديدة بجزر متعددة فى بحر الصين الجنوبى، إما فى المياه الدولية أو تابعة لدول مجاورة أخرى، وفى واحدة من هذه المناطق بالتحديد، جرت التدريبات الأمريكية، والتى كانت بمثابة تحضير لغزو الصينيين.
تعتبر القيادة العسكرية الأمريكية الحالية غزوًا صينيًا لتايوان أمرًا معقولًا وواقعيًا بحلول عام ٢٠٢٥، وهو ما سيتزامن بالتالى مع الولاية الرئاسية المقبلة للولايات المتحدة ومع الولاية الرئاسية التايوانية المقبلة. قد يكون زعيم تايوان القادم، وفقًا للعديد من الخبراء، نائب الرئيس الحالى شين شين جين، وهو صعود ربما يتزامن مع بابا فلبينى صينى جديد محتمل، الكاردينال لويس أنطونيو تاغل، الذى هو نفسه من أم صينية.. بعد أوكرانيا وأوروبا الشرقية، أصبحت آسيا فى المركز، وذلك أكثر من أى وقت مضى.
وبصرف النظر عن هذه الاعتبارات، من الواضح أن السؤال التايوانى يبدأ من مسافة بعيدة جدًا، أى من الانقسام بين الشيوعيين الصينيين والمعادين للشيوعية، فى منتصف القرن العشرين، وقت مسيرة «ماو» الطويلة. فى ضوء ذلك، يبدو من الصعب أن نفهم، من وجهة نظر المنطق الغربى، أن سكانًا يبلغ عددهم ٢٤ مليون نسمة فقط، ويقيمون على جزيرة صغيرة، يمكنهم أن يقاوموا لفترة طويلة عدوان أمة يقارب عدد سكانها مليارى نسمة، والتى لديها أيضًا أحد أقوى الجيوش وأكثرها تقدمًا فى العالم. جنبا إلى جنب مع الجيش الأمريكى، فإن الجيش الصينى هو بالفعل أقوى قوة عسكرية فى المحيط الهادئ، وفى الواقع، فى العالم بأسره.
وقد حدث وضع مماثل فى كوبا، حيث حاول المنفيون الكوبيون المناهضون للشيوعية الإطاحة بحكومة كاسترو، دون جدوى، وفى أوروبا، خلال سنوات الصمت السياسى فى الشرق، والحرب الباردة، والستار الحديدى، دفعت الهجرة الجماعية، كل أولئك الذين لا يريدون الخضوع لإمبراطورية ستالين السوفيتية.
نعود إلى تايوان
علاوة على ذلك، فإن تايوان لها عيوبها ومزاياها: لقد كانت لفترة طويلة ديكتاتورية عسكرية، تحت نفوذ تشانج خاى شيك، ديكتاتورية مكافئة ومتماثلة لنظير حزب «ماو» الوحيد وخلفائه. على العكس من ذلك، فإن تايبيه اليوم ديمقراطية، صحيح أنها جزئية وغير كاملة، لكنها أكثر حرية وانفتاحًا من بكين، ومع ذلك، فإن تايبيه، مثل هونج كونج، تخاطر بإعادة استيعابها من قبل الصين الكبرى وفقدان المزايا المكتسبة بمرور الوقت بالإضافة إلى عناصر الحرية المهمة التى تم الحصول عليها.
وفى ذلك الأمر، تشبه حالة تايوان حالة أوكرانيا، وهى حالتا الدول الموالية للغرب التى تحميها الولايات المتحدة وتشكل تهديدًا للصين وروسيا، على التوالى، على وجه التحديد لأنهما ديمقراطيات خطيرة، مع مواطنين أحرار وبدون ديكتاتوريين، رغم وجود محمية غربية أمريكية واضحة تحديدًا وحلف شمال الأطلسى.
من المعروف أن تايوان احتلت مكانة الصين فى الأمم المتحدة حتى أوائل السبعينيات: وتلك مفارقة تاريخية تم حلها لاحقًا من قبل الدبلوماسى الواقعى هنرى كيسنجر، وسياسة الانفتاح، وبينج بونج تجاه الصين فى نهاية عهد «ماو» الشمولى. فتحت هذه السياسة موقف أمريكا من الغموض الاستراتيجى بشأن هذه القضية وأدت إلى مفارقة الدعم العسكرى والاستراتيجى الأمريكى لتايوان المصحوب بتنازل للنظام الشيوعى الصينى، بجعل بكين الممثل الوحيد للصين فى الأمم المتحدة، ومما نتج عنه أن ٩٦٪ من دول العالم وجميع الدول الغربية قامت بسحب سفاراتها الرسمية فى تايوان والاعتراف بمبدأ «الصين الواحدة»، أى بكين، ومع ذلك، فإن «ماو» نفسه وخلفائه، حتى شى جين بينج الحالى وأكد زعيم بكين ماكسيمو، عدم تمكنه من إيجاد حل سلمى وتفاوضى لقضية تايوان من الممكن أن يحسن الوضع الراهن. حلًا ربما يكون مستحيلًا، بالنظر إلى التناقض بين تايبيه وبكين، والذى يذكرنا بالانقسام بين موسكو وكييف.
ومع ذلك، فإن المشكلة الحقيقية الناشئة من أزمة بحر الصين هى شيء آخر.
هذه المرة، لا يمكن تجنب الصدام بين أمريكا المتدهورة والصين الصاعدة، وهو الأمر الذى يتزامن مع الخطة الصينية لإنشاء، بحلول عام ٢٠٤٩ - نفس العام الذى شهد الذكرى المئوية لميلاد الصين الماوى الجديد - نظام دولى بديل بقيادة الصين إلى حد كبير. لذا، فإن تايوان، مثل سراييفو فى عام ١٩١٤ وبيرل هاربور فى عام ١٩٤٠، هى العامل المحتمل الذى قد يسبب الحرب، وهذا بالتآزر مع الأزمة الأوكرانية، وبالتالى نقطة البداية لحرب عالمية معاصرة جديدة... لكن روسيا والصين متحدون الآن، مع شركائهم الرئيسيين الآخرين، من خلال محور ليس لديه ما يميزه عن ذلك المحور الذى وحد اليابان وألمانيا وإيطاليا خلال الحرب العالمية الثانية، أو مع القوى المناهضة للوفاق فى القوى المركزية لألمانيا والنمسا ثم تركيا التى اندلعت خلال الحرب العالمية الأولى ثم انهارت بعد الهزيمة.
ومع ذلك، يبدو أن الحل السلمى للنزاع الدولى حول بحر الصين وتايوان ضرورى.
تمامًا كما هو الحال فى أوكرانيا، تساوى الدبلوماسية بالنسبة للبعض الوضع الإشكالى لدبلوماسية ميثاق ميونيخ لعام ١٩٣٨ أو دبلوماسية ما قبل الحرب لعام ١٩١٤، أى عدم الدبلوماسية التى تتقاطع مع كلا الجانبين، لاستخدام تعبير هابرماس، «أزمة العقلانية». لا يمكن أن تفشل هذه الأزمة فى أن تؤدى إلى ما عرَّفه بوتين نفسه منذ بعض الوقت فى دافوس: «بالانزلاق البطيء نحو صراع عالمي». وتحدث آخرون، مثل المتحدثة الرسمية باسم الشؤون الخارجية، ماريا زاخاروفا، عن «حالة اللاعودة»...
لا يبدو أن الصين، على الرغم من واجهتها الدبلوماسية والخيرية، قد تعلمت دروس التاريخ: إن عملية الحرب العالمية التى قادتها الصين وروسيا المتحالفتان ضد أوكرانيا وتايوان، معرضة فى الواقع لخطر التحول إلى عنصر ضعف وليس قوة. إن الديمقراطية والحرية لا ينفصلان بالفعل، حتى مع مراعاة مطالبتهما بإيجاد نظام أكثر عدلًا، وأكثر تعددية، وبالتالى سيكون متعدد الأقطاب بصورة أكبر، وإصلاح شامل لهيكل الأمن العالمى.
من المؤكد أن العالم يحتاج إلى توازن متعدد الأطراف للديمقراطيات، ولكن ليس للديكتاتوريات.
مثلما لا يمكن اعتبار حلف وارسو بديلًا لحلف الناتو الديمقراطى والسلمى القائم على الحريات، كذلك الأمر مستحيل بالنسبة لتحالف عالمى للديكتاتوريات الشرقية والعربية اليوم. فى الواقع، إذا كانت العولمة القسرية القائمة على «الرأسمالية التوربينية» خطأ، فإن «عولمة الديكتاتوريات» تعمل بطريقة روبسبير بالترادف الروسى الصينى، أى مع الإرهاب العالمى، لأن هذا أيضًا تكون العودة إلى العصور الوسطى العالمية الجديدة. لذلك، فإن الصين مدعوة، فى شخص الرئيس XJ، إلى التخطيط لمستقبلها فى سلام ؛ لقيادة العالم من خلال التحول التدريجى إلى ديمقراطية وفقًا للمعايير الشرقية، بالطبع، وليس بالضرورة الغربية، من أجل الانفتاح على الحرية.
والأكثر إيجابية، فى رأينا - بالنسبة للتوازن الدولى ومستقبل الصين - هى فكرة التغلب على زعامة العالم من خلال تأسيسها ليس فقط على التعددية ولكن أيضًا على السلام والديمقراطية والحرية. سيكون التقدم غير العادى ممكنًا إذا نجحت الصين فى التغلب على الواقع الذى عفا عليه الزمن لنظامها الشمولى مع «زعيم مدى الحياة»، وحزب واحد، ونموذجها للشيوعية الثورية والرأسمالية فى نفس الوقت، والذى يناقض نفسه، ويصبح شيئًا فشيئًا، سوقا اقتصادية مالى حر، مرتبط بانتقال ديمقراطى...
فى القرن الحادى والعشرين، انتقام الديكتاتوريات من الديمقراطية، وانتقام ما بعد الشيوعية من الرأسمالية الناضجة، والانتقام من الشرق فى الغرب، ليس حلًا بل يعد مشكلة. فى الوقت نفسه، تواجه الصين، مثل روسيا، تناقض دورها البارز فى مجلس الأمن.ولا يستطيع أن يربط الأمم المتحدة نفسها بمصالحه الحزبية، ولا بمصالح التحالف السياسى والاستراتيجى والعسكرى والمالى الناشئ بين الصين وروسيا (صداقة بلا حدود) وإيران وكوريا الجنوبية والشمال والحلفاء لبريكس، مثل الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا وحلفاء سريون مثل الإمارات العربية المتحدة.
ينصب تركيز الصين على السيطرة على البحر، لدرجة أن الهيمنة التقليدية للبحار لا تزال تظهر كعامل تكتيكى إستراتيجى حاسم. ما عليك سوى التفكير فى الهيمنة الصينية على بحر الصين، وعلى المحيط الهادئ والتى بنتها روسيا على البحر الأبيض المتوسط، كما هو الحال على بحر البلطيق والأزمة المستمرة فى السودان، فيما يتعلق بالسيطرة على طرق النفط إلى أوروبا.
الدبلوماسية «البديلة» لتايوان وأنصارها
إن النشاط المفرط للسياسة الخارجية لتايوان ورئيسها تساى إنج وون، مع التبادل المستمر للزيارات مع الولايات المتحدة وغيرها من الحلفاء المباشرين وغير المباشرين، يشبه إلى حد كبير جهود الدبلوماسية العالمية البديلة التى اقترحها زيلينسكى، لكنها تشترك فى حدودها. فى الواقع، إذا تخلى الأمريكيون عن تايبيه وكييف لمصيرهم فى حالة الانعزالية الأمريكية الجديدة، مع انتخابات رئاسية فى العام المقبل، فإن العالم سيواجه خطر «سيناريو أفغانستان» مزدوج فى كل من تايوان وأوكرانيا. لا يبدو أن المفاوضات السرية بين الرئيس السابق لتايوان، ما جينج جيو، والصين، فى شنغهاى وأماكن أخرى، قد أدت إلى تأثيرات ملموسة للمصالحة، بل على العكس من ذلك، فهى تدفع الصقور الصينيين إلى التحرك بسرعة. على العكس من ذلك، زادت الصين من الضغط العسكرى على تايبيه، وقد يكون الحل الوحيد للتايوانيين هو مزيد من الانزلاق، وبالصدفة أيضا، انزلاقا لأوكرانيا إلىالغرب، وذلك نتيجة وكرد فعل للتوسع الصينى والروسى.
ما هى الخلاصة؟
وبعد كل ذلك نرى أن الصداقة بين الصين وروسيا معلقة فى الميزان وبمعنى أكثر تحديدا بين مواجهة الحروب العالمية الجديدة أو الاختيار العقلانى للتنمية الاقتصادية القائمة على الدبلوماسية الاقتصادية. وحقا، آمل أن تصبح تايوان، المستعمرة البريطانية السابقة لهونج كونج، وبكين- عدوها الحالي- يومًا ما ديمقراطية عظيمة جديدة من خلال الاتحاد السلمى، مما يجعل هذه الوحدة تتزامن مع إضفاء الطابع الديمقراطى على الصين. يمكننا أيضًا أن نحلم دائمًا بأن تتطور روسيا يومًا ما نحو ديمقراطية يمكن دمجها، فى اتحاد اقتصادى أوروبى آسيوى، فى إطار السلام مع أوكرانيا وأوروبا.. الآن يقف التاريخ فى مفترق طرق؛ فى كل من أوروبا وآسيا.
معلومات عن الكاتب:
ليوناردو دينى، مفكر وفيلسوف من أصل إيطالى.. كانت أطروحته للدكتوراه حول نظرية السياسة وفلسفة القانون، له العديد من الكتب والدراسات، كما كتب الرواية إلى جانب القصائد الفلسفية.. يستعرض، فى هذا المقال، رؤيته لأبعاد أزمة» تايوان.