انا أحب تنسم تاريخ مصر، وكلما ذهبت بالسنوات للخلف، تلمست أسماء رواد أفنوا حياتهم ليضعوا إجابة عن سؤال يتكرر في كل حقبة زمنية مع أي احتلال أو انكسار.. أين مصر؟.
هذا السؤال الذي وضعته قصور الثقافة كمدخل لسلسلة "الهوية"، وأخذت حكايته من قلم توفيق الحكيم حينما كتب أنه بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وهزيمة الدولة العثمانية، ذهب زعماء مصر يسألون الإنجليز عن وضعهم! فسألهم الأنجليز عما يقصدون؟
فقالوا: زوال الاحتلال البريطاني،.
فسألهم الإنجليز وماذا بعد؟ هل تعودون إلى الدولة العثمانية المنهزمة؟ نحن لا نعرف شيئا اسمه القطر المصري.
أين مصر.. وما هي شخصيتها؟
كان السؤال مؤلمًا وكانت الإجابة عسيرة وتحتاج إلى جهد شاق فراح الجميع يبحث عن هويتها في الأدب والمسرح والسياسة والاقتصاد والتاريخ والجغرافيا.
واحد من هؤلاء الذين أوجعهم السؤال صاح في وجههم بقصيدة ألقاها في عام 1921 قال مجيبا عن استفهامهم:
أنا تاج العلاء فى مفرق الشرق
ودراتـه فرائـد عقــدي
إن مجــدي فى الأوليات عــريق
من له مثل أولياتي ومجدي
أنا إن قدَّر الإله مماتي
لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدي
نعم ذلك الشاعر هو حافظ إبراهيم، الذي جمع أحرف قصيدته صاحبة ال57 بيتا على مدار سنوات طوال قبل أن يودعها كاملة في ديوان بذاكرة مصر، لتأت بعدها بسنوات كوكب الشرق وتختار 17 بيتا تشدو بها ردا على نفس السؤال.
في عام 1951 طلبوا من ثومة ان تغني قصيدة وطنية على وجه السرعة ومن المحتمل أن ذلك كان في مرحلة شحذ الهمم وتهيئة وإعداد الشعب لثورة 52 فاختارت ثومة كلمات حافظ إبراهيم، وعندما قامت ثورة يوليو كانت تلك الأغنية بمثابة نشيد وطني يتكرر مع كل بيان في الإذاعة.
ربما كان حافظ إبراهيم يرمز بعدد هذه الأبيات إلى سنوات جمعه للكلمة، فقد تسير أنت إلى الكلمة سنوات ولا تصل إليها، وقد تسير إليك الكلمة دون أن تشعر وتصل إليك في موعدها ليكتمل بها حظك ومجدك وكل هذا فقط لأنك يوما حفظتها ولو من قبيل الصدفة.
أول حرف كان على صفحة النيل في عوامة بديروط، هناك حيث كان الميلاد، وكعادة الأطفال في مصر أول حلم لهم أن يكبروا ليكونوا ضباطا في الجيش، وقد شاءت له الاقدار ان يذهب مع الجيش في السودان فشكل مجموعة قوامها 18 من الضباط الأحرار ضد الإنجليز، حتى انكشف أمرهم فتم فصله من الجيش، ذاق حياة الصعاليك قبل تعيينه في دار الكتب وظل عشرين عاما منطويا حزينا متسكعا لا يعرف غير الندوات وصديقه الإمام محمد عبده، الذي قال عنه:
" صاحبت حافظ إبراهيم 40 سنة لم أتمكن من هدايته ولم يتمكن من ضلالي".
ووصف حافظ إبراهيم حالته الصعبة التي عاشها في بيتين شعر لخصا ما عاناه إذ قال:
سعيت حتى كدت انتعل الدم
وعدت وما حققت إلا التندم
عمهله في دار الكتب ومحررا في الأهرام، زاد حرفه ألقا وزادت رائحة الكتب عبقه، وزادت ندوات الشعر التي كان يحضرها لباقته.. فزادت جماهريته واقترن اسمه بنابغة عصره أحمد شوقي وأصبحت له جماهيريته، ولقد كان شعره بالفصحى سهل على العوام وكلماته تسكن قلوبهم قبل عقولهم، فها هو مع كل المرثيات التي كتبت في الزعيم مصطفى كامل يخلد أجمل مرثية ببعض الكلمات إذ قال عند قبره في مناسبة الأربعين:
مصطفى
يا مصطفى
لما لا تجيب وقد نديت مرارا
ألا يكفيك ان تغيب أربعين نهارا؟
وربما كان حب شوقي لحافظ نابع من أنه وجده رجلا مصريا شعبيا صابرا مقاوما متألما ساخرا..ولا ادل على ذلك من تلك السجالات الشعرية بينهما والتي نسوق منها أنه حينما كان شوقي في المنفى أرسل قصيدة جاء فيها:
هلا بعثتم لنا من ماء نهركم شيئا
نبل به أحشاء صادينا
كل المناهل بعد النيل آسنة
ما ٱبعد النيل إلا عن أمانينا
ليرد عليه حافظ بأجمل ما قيل:
عجبت للنيل
يدري أن بلبله صادن
ويسقي ربى مصر ويسقينا
لن تنأى عنه وإن غادرت شاطئه
وقد نأينا وإن كنا مقيمينا
اختيار ثومة لقصيدة حافظ إبراهيم لم يكن صدفة ولكن كان عن قصد ومعرفة وقراءة، وقد قالت هي أنها أرادت أن تشارك بتكريمه حينما غنت له "مصر تتحدث عن نفسها" وقد كان أحلى حديث تمنيناه ونتمناه دائما.
وقف الخلق ينظرون جميعا
كيف ابنى قواعد المجد وحدى
وبناة الاهرام فى سالف الدهر
كفونى الكلام عند التحدى
انا تاج العلاء فى مفرق الشرق
ودراته فرائد عقدى
إن مجدي في الأوليات عريق
من له مثل أولياتي ومجدي
انا ان قدر الاله مماتى
لاترى الشرق يرفع الراس بعدى
ما رمانى رام وراح سليما
لم يكن لأحد غير السنباطي ليلحن تلك الملحمة ويخلد ذلك التعاون المقدس فكأنه استدعى حافظ إبراهيم من مرقده ليتشاركا في تضفير الحرف واللحن قبل أن يضعناه درر في ثغر ثومة لتنشد وكأن مصر قاطبة اجتمعت في حنجرتها.