لم تكن نكسة 67 بالأمر الهين أو اليسير على كل العرب سواء ذلك عندما شن العدو الصهيونى حربا دامت 6 أيام سميت فيما بعد بـ«حرب الأيام الستة» على كل من مصر والأردن وسوريا كان من نتائج هذه الحرب خسائر بشرية ومادية كبيرة، كما تم احتلال أجزاء واسعة من الأراضى.
محمود درويش يحارب بـ«أشعاره» اليأس ويزرع الأمل.. وسميح قاسم يرسم «الطريق» لمقاومة العدو
أدباء فلسطين «يد واحدة» فى مواجهة المحتل.. ترحل الأجساد ويبقى الأثر
الوطن هو السكن والسكينة والشعور بالأمان، ومهما بلغت قسوته علينا، نظل نحبه وندافع عنه، ولن ننشغل عنه حتى لو عشنا فى جنات تظل صورة الوطن أمامنا، فلا نشعر بأى سعادة أو نجاح وإلا ونحن داخل أوطاننا.
وماذا إذا كان هذا الوطن «فلسطين الحبيبة» المسلوبة، وماذا إذا كان الواصف والمتحدث عن الوطن هو شاعر مرهف الأحاسيس، فيرى الوطن بعيون غير العيون، ويعبر عنه بحروف غير الحروف وبكلمات تلهب القلب وتشعل الحماس، ولهذا ظهر ما يسمى بأدب المقاومة والذى خرج من جعبته مئات الألوف من الكلمات التى عبرت عن الثورة والوطن ووصفه ولوعه فقده وافتقاده.
أدب المقاومة
ويقول غسان كنفانى، فى كتابه أدب المقاومة، والذى لم ير أنه أقل أهمية من المقاومة المسلحة ولكنها مقاومة لا تحمل السلاح، بل إنها تحمل فى يد صاحبها بضع كلمات لكنها كلمات ليست كالكلمات، فهذا الأدب كان لديه القدرة على إشعال الحماس داخل قلوب الجميع، حيث يقول: «ومثل هذا النوع من المقاومة يتخذ شكله الرائد فى العمل السياسى والعمل الثقافى ويشكل هذان العملان المترافقان اللذان يكمل أحدهما الآخر».
ويتابع: «ومن هنا فغناء الشكل الثقافى فى المقاومة يطرح أهمية قصوى ليست أبدا أقل من قيمة المقاومة المسلحة ذاتها، وبالتالى فإن رصدها واستقصاءها وكشف أعماقها تظل ضرورة لا غنى عنها لفهم الأرض التى ترتكز عليها بنادق الكفاح المسلح».
وشدد “كنفانى” على أن أدب المقاومة لم يكن أبدا ظاهرة طارئة على الحياة الثقافية الفلسطينية، وأن المقاومة الفلسطينية قدمت على الصعيد الثقافى نماذج مبكرة ذات أهمية قصوى كعلامة من علامات المسيرة النضالية العربية المعاصرة.
وقد حظى الأدب، وخاصة الشعر، بنصيب الأسد فى القضية الفلسطينية وأدب المقاومة على وجه الخصوص، ولم يقل أدب المقاومة أهمية عن المقاومة المسلحة فى حياة الشعب الفلسطينى، وهناك أسماء لامعة فى عالم الشعر والذين استطاعوا أن يعبروا عن القضية الفلسطينية بجمال الكلمات الممزوجة بنزعة الفقد والمقاومة فى الوقت نفسه، ومن بين تلك الأسماء التى ظهرت جليا وتم تصنيفهم بشعراء المقاومة وفقا للتقسيم الذى قدمه الشاعر اللبنانى محمد على شمس الدين إلى فرعين أساسيين، وهما شعراء المقاومة محمود درويش، سميح القاسم، وتوفيق زياد، وشعراء الثورة وهم عزالدين المناصرة، مريد البرغوثى، أحمد دحبور.
وفى الواقع إن الأسماء السابقة قد أصبحوا «علامات مركزية» ليس فى الأدب الفلسطينى وإنما فى الوطن العربى، وقد تأثير جيل كبير من الشعراء العرب بهم، ولعل أبرزهم درويش والمناصرة والقاسم، فقد كانت كلمات قصائدهم بمثابة البارود قد تناثر فور إطلاقه من إحدى بنادق المقاومة.
درويش.. شاعر الحب والمقاومة والأمل
الجميع بلا استثناء لقبه بشاعر المقاومة، ونحن نطلق عليه «شاعر الحب والمقاومة معا» هو محمود درويش، فكان يرى فى الوطن الحبيبة التى لم يستطع الجلوس معها، ويرى فى الحبيبة الوطن الذى لم يستطع تحريرها من قيودها ويرى فى المقاومة أمل الضعيف للتحرير: « بل لأن الأمل قوة الضعيف المستعصية على المقاومة، وفى الأمل ما يكفى من العافية لقطع المسافة الطويلة من اللامكان الواسع إلى المكان الضيق، أما الزمان الذى لم نشعر به إلا متأخرين، فهو الفخ الذى يتربص بنا على حافة المكان الذى جئنا إليه متأخرين، عاجزين عن الرقص عن البرزخ الفاصل بين البداية والنهاية»، فأى كلمات تلك التى تشعل نيران الأمل بداخل النفوس الضعيفة وحثها على النضال والمقاومة مهما كنا نشعر بالضعف والوهن والانكسار.
كيف ساق الاحتلال الشعراء إلى السجون؟
كانت دوريات الشرطة للعدو الصهيونى تجوب شوارع الوطن المغدور فى مطلع شهر يونيو عام ١٩٦٧ والجميع يعرف ما يسجله هذا العام فقد لقب بنكسة ٦٧، كانت تلك الدوريات تجمع الأدباء والشعراء العرب فى فلسطين المحتلة وتقوم بإيداعهم داخل السجون؛ وكان من بين هؤلاء منصور كردوش وصالح برانسى وهو أحد الشبان الذين أسسوا حركة «الأرض» والشاعر حبيب قهوجى، والشاعر سميح القاسم، والشاعر محمود درويش، والشاعر سالم جبران، والشاعر توفيق زيادة، والأديب فرح نور سلمان، وفؤاد خورى وغيرهم فالقائمة طويلة، والأحداث مليئة بالعنف والجبر وتحديد الإقامة والضرب المبرح والتعذيب.
«غرفة التأديب»
فخلف تلك اللافتة التى حملت عنوان «غرفة التأديب» ذاقوا هؤلاء السابق ذكرهم وغيرهم الكثير شتى أنواع العذاب فبين الإهانة والضرب المبرح، والضرب الجماعى لبعضهم، والضرب بالنعال فى جميع أنحاء أجسادهم، وظلت آثار تلك الجروح محفورة على أجساد هؤلاء، بل لم يتوقف الأمر عند هذا الحد وإنما ظهر ما يسمى بـ «الاعتداءات الشعبية».
وهنا نستحضر ما قاله سميح قاسم فى تعليقه على مؤتمر الأدباء العبريين والذى انعقد فى القدس المحتلة فى ١٧ أبريل عام ١٩٦٨: «قال شيخ الأدباء العبريين يهودا بورلا فى كلمته افتتاح المؤتمر، إن أدباء إسرائيل يعملون على تعميق الوعى القومى والقيم الإنسانية لدى الشبيبة ولدى الشعب».
وأضاف قاسم، أن المؤتمر انعقد ولم نسمع كلمة احتجاج واحدة على الاضطهاد الذى تعرض له، فتم اعتقالنا وسوقنا فى الشارع مكبلين بالقيود، والاعتداء على حرياتنا اليومية والفكرية، كتحديد إقامتنا واعتقالنا فى منازلنا وفرض الرقابة على إنتاجنا وطردنا من أعمالنا ومحاولة عزلنا عن الجماهير بموجب القوانين الموروثة عن الاستعمار البريطانى، كل تلك الأمور لم تحظ بكلمة واحدة من مؤتمر الأدباء العبريين ذى القدسين.
مشاعر الغضب فى قصائد المقاومة
ويقول غسان كنفانى: «ففى ذلك الوقت المبكرة كانت الكارثة الفلسطينية لا تزال حارة، وكان الغضب المجرد، بصورة فاجعة ومذهلة، يطفو إلى السطح، شأنه فى ذلك شأن ما حدث فى أعقاب ٥ يونيو ١٩٦٧، فى البلاد العربية حين مضى عدد من الكتاب والشعراء يصبون غضبهم على جبهة جزئية، إلا أن ذلك الغضب ما لبث أن تبلور فى صيغة موقف، ومما لا شك فيه أن محمود درويش وسميح القاسم هما طليعة لافتة للنظر فى هذا الشأن».
ويتابع كنفانى: «بالنسبة لمحمود درويش، فإن محور المقاومة، كمعركة مباشرة، هو من الوضوح والرسوخ بحيث يطوع موقفه الاجتماعى دون مساومة، وعلى صعيد فنى، فإن العائلة، عند محمود درويش هى ذاتها الوطن، وكذلك الحب، والمسألة برمتها، فى أبعادها المختلفة التى تكون جوهر حقيقتها، تنسكب فى شعره بصورة موحدة راسخة البناء».
وربما كان هذا المقطع يلخص الموقف: «خبئى عن أذنى هذى الخرافات الرتيبة.. أنا أدرى منك بالإنسان.. بالأرض الخصيبة.. لم أبع مهرى.. ولا رايات مأساتى الخصيبة».
ولكن محمود درويش يعرف أن هذا الموقف لا يزال جزئيا، ولا بد من استكماله، فيتابع بانسياب تلقائى، واضعا للبعد الاجتماعى أساسه الأعمق: «ولأنى أحمل الصخر.. وداء الحب، والشمس الغريبة.. أنا أبكى!.. أنا أمضى قبل ميعادى، مبكر عمرنا أضيق منا.. عمرنا أصغر أصغر».
ويتابع درويش قصيدته بدعوته للمقاومة والثبات وأن يخلعوا من داخل صدورهم تلك السياج التى تكلبهم من الخوف لنجده يقول: «فاحموا سنابلكم من الإعصار.. بالقدم المسمر.. هاتوا السياج من الصدور.. فكيف يكسر؟.. اقبض على عنق السنابل.. مثلما عانقت خنجر! الأرض والفلاح والإصرار!.. فالفلاح لا يترك أرضه مطلقا إلا بعد أن يحصد ثمارها ويجنى خيرها.
وعلى طريقته الخاصة فقد استطاع سميح القاسم أن يجسد حركة المقاومة والنضال والتى تجلت من خلال قصيدته «الطريق».
ويقول فيها: «أبدا على هذا الطريق، راياتنا بصر الضرير، وصوتنا أمل الغريق، أبدا جحيم عدونا، أبدا، نعيم للصديق، بضلوع موتانا نثير الخصب فى الأرض اليباب، ونرد حقلا شاخ فيه الجذع، فى شرخ الشباب، بدمائنا نسقى جنينا فى التراب، ونرد حقلا شاخ فيه الجذع، فى شرخ الشباب، ونصب فى نبض المصانع، للمربى، والحقائب، والثياب نبض القلوب المؤمنات.. بكل أقداس الحياة».
وفى هذا المقطع البليغ لإحساس المقاومة الذى وصفه «القاسم» تظهر أمامنا ومن داخلنا موسيقى على إسماعيل وصورة الفنان محمود المليجى فى فيلم «الأرض» وهو يمسك بثمار القطن وجذوعه يرفض الرحيل، ويفضل أن تروى الأرض بدمه قبل أن يتركها.
المقاومة والقصيدة
لم تكن مجرد قصائد باح بها الشعراء وإنما هى قائد تعبر عن حالة وطن وأحزانه وكيف يمكن أن يقاوم، فنجد سميح قاسم جسد ذلك المعنى فى ديوانه «دمى على كفى» إذ يقول:«قصائدنا، موقعة على الفولاذ، والأخشاب والصخر، وأمتنا تحث الزحف، ما زالت تحث الزحف للفجر».
ونجد درويش يعمق هذا المعنى ويؤسس للعلاقة بين القصيدة والمقاومة ونجده يقول فى قصيدة «الشعر»: «قصائدنا، بلا لون بلا طعم.. بلا صوت!.. إذا لم تحمل المصباح من بيت إلى بيت!.. وإن لم يفهم البسطا معانيها.. فأولى أن نذريها.. ونخلد نحن.. للصمت!!».
ويتابع: «لو كانت هذى الأشعار.. إزميلا فى قبضة كادح.. قنبلة فى كف مكافح!.. لو كانت هذى الأشعار!.. لو كانت هذى الكلمات.. محراثا بين يدي فلاح.. وقميصا.. أو بابا.. أو مفتاح».
ويقول سميح القاسم عن المقاومة والكلمات: «ما دامت فى بلدى كلمات عربية.. وأغان شعبية.. ما دامت لى عيناى.. ما دامت لى شفتاى.. ويداى.. ما دامت لى.. نفسى.. أعلنها فى وجه الأعداء.. أعلنها.. حربا شعواء.. باسم الأحرار الشرفاء.. عمالا.. طلابا.. شعراء.. أعلنها.. ما زالت لى نفسى..وستبقى لى نفسى..وستبقى كلماتى..خبزا وسلاحا.. فى أيدى الثوار».
وهنا يتجلى المعنى الذى تطرقنا إليه مرارا وتكرارا وهى أن الكلمة سلاح فى أيدى الثوار وأن مقاومة الأدباء والشعراء كانت تتجسد فى كلماتهم وأشعارهم وقصائدهم والتى كانت شعلة وسلاحا فى أيدى المقاومة المسلحة.
المقاومة ونكسة ٦٧
لم تكن نكسة ٦٧، بالأمر الهين أو اليسير على كل العرب سواء، ذلك عندما شن العدو الصهيونى حربا دامت ٦ أيام، سميت فيما بعد بـ«حرب الأيام الستة» على كل من مصر والأردن وسوريا كان من نتائج هذه الحرب خسائر بشرية ومادية كبيرة، كما تم احتلال أجزاء واسعة من الأراضى.
وكان للهزيمة أثرها البالغ فى نفوس الأدباء والشعراء وخرجت أشعارهم وكلماتهم غير مصدقة لتلك الهزيمة وتدعو لاستمرار النضال والمقاومة.
فبين مشاعر الحزن والخسارة نجد “درويش” يقول غير مصدق للهزيمة وغير مستسلم للحزن ويبث روح النضال والإصرار على الاستمرار: «خسرت حلما جميلا، خسرت لسع الزنابق، وكان ليلى طويلا، على سياج الحدائق، وما خسرت السبيلا»، ويستكمل قصيدته «يما مويل الهوى، يما مويليا، ضرب الخناجر ولا، حكم النذل فيا!».
أما سميح القاسم فيستقبل تلك الهزيمة بقصيدة الفدائى والتى بث من خلالها روح الفداء والنضال والتضحية والتى قالها على لسان أحد الشهداء: «يا من ورائى، لا تخونوا موعدى، هذى شرايينى، خذوها وانسجوا منها، بيارق نسلنا المتمرد».
أما توفيق زيادة فاستقبل تلك الكارثة بقصيدة يقول فيها: «يا بلادى! أمس لم نطف على حفنة ماء، ولذا لن نغرق الساعة فى حفنة ماء!»، ويقول أيضا للعدو فى قصيدته «كلمات عن العدوان» والتى يدعو من خلال أبياتها إلى الاستمرار والمقاومة واستكمال البناء، فيقول: «إنكم تبنون لليوم وأنا لغد نعلى البناء، إننا أعمق من بحر وأعلى، من مصابيح السماء، إن فينا نفسا، أطول من هذا المدى الممتد فى قلب الفناء».
وخرجت قصائد الهزيمة إلى قصائد نضال وبناء ومقاومة وأمل فى التحرير والتحرر من القيود، فالمهزوم الحقيقى تلك القوات التى تخيلت أنها من الممكن أن تقصف بالأقلام كما قامت بقصف الأسلحة والمعدات، فالكلمة لا يمكن أن تسكر ولا يمكن أن تحبس ولا يمكن أن تضرب أو تعذب أو تهان.
رسائلهم من داخل السجون
كما كانت أشعارهم من داخل السجون تعبيرا آخر عن المقاومة والنضال والتحدى والإصرار، لم يكن التعذيب الجسدى قادرًا على إسكات أفواههم وقصف أقلامهم، بل كان السجن أداة لنحت أقلامهم وسنها لتخرج كلمات كالسهام المطلقة فى أعين العدو.
فمن السجن كتب «درويش» أروع قصائده وأكثرها توهجا بالأمل والإصرار والتحدى: «من آخر السجن طارت كف أشعارى.. تشد إيديكم ريحا على نار.. أقول للمحكم الأصفاد حول يدى: هذى أساور أشعارى وإصراري.. فى حجم مجد كم نعلى، وقيد يدى.. فى طول عمركم المجدول بالعار.. فى اليوم أكبر عاما فى هوى وطنى.. فعانقونى عناق الريح للنار!».
ويستكمل قائلا: «قال للناس حوله: كل شىء، سوى الندم.. هكذا مت واقفا.. واقفا مت كالشجر!».
أما سميح قاسم فكانت لديه قصيدة بعنوان «رسالة من المعتقل» يقول فيها: «أماه! كم يؤلمنى! أنك تجهشين بالبكاء.. إذا أتى يسألكم عنى أصدقاء.. لكننى أومن يا أماه.. أومن.. أن روعة الحياة تولد فى معتقلى.. أومن أن زائرى الأخير لن يكون خفاش ليل مدلجا، بلا عيون لابد أن يزورنى النهار.
كما لـ «القاسم» أيضا قصيدة طويلة اسمها «من وراء القضبان» والتى قام العدو الصهيونى بحذف المقطعين الثانى والثالث منها، ومن بين أبيات القصيدة يقول سميح القاسم: «يا بيتنا الوديع.. يا شباكنا المضاء، ما أجمل السلام فى حلقة أصدقاء، يطالعون الشعر، يشربون، يرون من النكات، ما يضحك الأحياء من بلية الحياة!، محارب مخضب لواء، سلاحه.. أشعار، تقطر من حروفها الدماء! وداهمت مجلسهم دورية البوليس، لتلقى القبض على محارب وجهته النهار».
هكذا كان الشعر وهكذا كانت المقاومة، ولهذا استحق هؤلاء الشعراء وبجدارة لقب «شعراء المقاومة».