السبت 01 يونيو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ملفات خاصة

مصطفي بيومي يكتب: غسان كنفانى.. و«رجال فى الشمس»

غسان كنفانى
غسان كنفانى
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

ليس مثل رواية "رجال في الشمس"، التي نُشرت طبعتها الأولى سنة ١٩٦٣، في التعبير الناضج فكريًا وفنيًا، عن رؤية عميقة للتوابع والآثار الكارثية المترتبة على نكبة ١٩٤٨، حيث هزيمة الجيوش العربية بعد تدخلها في أعقاب الإعلان عن قيام دولة إسرائيل.

عشر سنوات تمر، حافلة بالركود والعجز عن التحرك الإيجابي، يتوزع خلالها اللاجئون الفلسطينيون في محطات الشتات والمنفى، وتغيب المقاومة الجماعية المنظمة القادرة على مواجهة التحدي الخطير ورسم خارطة طريق العودة.

يقدم غسان كنفاني في روايته ثلاث شخصيات فلسطينية مقهورة معذبة، ينتمون إلى أجيال مختلفة متكاملة متتابعة، يبحثون عن الخلاص الفردي عبر حلم السفر غير الشرعي إلى الكويت، فهناك يتبلور طموح العمل والثراء والتخلص من لعنة الهموم المدمرة التي تحاصرهم وتحيل الحياة إلى جحيم لا يُطاق.

"أبو قيس" و"أسعد" و"مروان" يختلفون في الكثير من الملامح والسمات والرؤى، وتتباين دوافع تفكيرهم في الهجرة، لكن جوهر الاتفاق الأساس بينهم هو الاقتناع اليقيني الحاسم بأن الكويت هي الحل، والمشترك الثاني الذي يوحدهم يتمثل في استقرارهم على اختيار السائق "أبو الخيزران" وسيلة للخروج بهم من المأزق الذي يكابدونه جميعًا. السائق الماهر الماكر هو الأفضل في المقابل المادي المطلوب مقارنة بغيره، ولا بأس عندهم من تحمل مشقة الاختباء في خزان الماء الخالي لفترة قصيرة حتى يتسنى عبور الحدود.

يهربون من مخاوف الموت بأيدي المهربين التقليديين، إلى الموت بمعرفة ابن وطنهم. ليس شيطانًا يتعمد إلحاق الأذى بهم، وسر المأساة كامن في المناخ العام الضاغط، الأكثر تعقيدًا مما يتوهمون، ويتوهم، وعندئذ تبدو النهاية الكابوسية قدرًا لا مهرب منه ولا نجاة.

* أجيال الهاربين *

قبل عشر سنوات من بداية أحداث الرواية، يفقد أبو قيس وطنه وبيته وشجرات الزيتون التي يملكها. لا شيء في حياته بعد النكبة إلا الخواء وهيمنة الشعور بالضياع، والانتظار العقيم عمله الوحيد في المخيمات التي تخلو بالضرورة من المعنى والجدوى. استعادة الماضي القريب، بكل مفرداته الوردية المندثرة، هي الحلم الذي يتشبث به ولا يتخلى عنه، وفي هذا السياق الحلمي لا يبدو مستغربًا أن يحسد الأستاذ سليم، المدرس الذي يموت قبل يوم واحد من سقوط القرية في أيدي اليهود: "يا رحمة الله عليك يا أستاذ سليم!.. يا رحمة الله عليك. لا شك أنك ذو حظوة عند الله حين جعلك تموت قبل ليلة واحدة من سقوط القرية المسكينة في أيدي اليهود.. ليلة واحدة فقط.. يا الله! أتوجد ثمة نعمة إلهية أكبر من هذه؟.. صحيح أن الرجال كانوا في شغل عن دفنك وعن إكرام موتك.. ولكنك على أي حال بقيت هناك.. بقيت هناك ووفرت على نفسك الذل والمسكنة وأنقذت شيخوختك من العار.. يا رحمة الله عليك يا أستاذ سليم.. ترى لو عشت، لو أغرقك الفقر كما أغرقني.. أكنت تفعل ما أفعل الآن؟ أكنت تقبل أن تحمل سنيك كلها على كتفيك وتهرب عبر الصحراء إلى الكويت كي تجد لقمة خبز؟".

لا تعاسة تفوق أن يُحسد الموتى المدفونون في أرض الوطن قبل ضياعه، أما السؤال عن قرار الأستاذ بشأن السفر ولقمة الخبز فلا ينتظر إجابة، والأمر أقرب إلى التنفيس. يعي أبو قيس، والآلاف من أمثاله، أن الكويت ليست وطنًا بديلاً مشبعًا بقدر ما هي الخلاص المتاح من لعنة الفقر والحاجة. قد يكون صحيحًا أنها تخلو من الأشجار، العلامة الأبرز والأجمل في الوطن الضائع، لكنها الأداة الوحيدة لاستعادة بعض ملامح العالم المندثر.

لا شيء يستحق الذكر في سنوات العذاب العشر إلا الحنين وأحلام اليقظة، ومغامرة السفر غير مأمونه العواقب ضرورية لتحقيق التوازن المفقود. الموت ليس أسوأ من الحياة التي يعيشها أبو قيس في المخيمات، وبتعبير صديقه سعد الذي يحضه على السفر: "تموت؟ هيه. من قال إن ذلك ليس أفضل من حياتك الآن؟ منذ عشر سنوات وأنت تأمل أن تعود إلى شجرات الزيتون العشر التي امتلكتها مرة في قريتك.. قريتك! هيه!".

أين هي القرية وأشجار الزيتون؟. لا مكان لهما إلا في الخيال. ما أكثر الأحلام التي يمكن تحقيقها بعد السفر والعمل وتكوين ثروة صغيرة تؤّمن مستقبل الابنين، وتتيح امتلاك بيت وقطعة من الأرض: "وقد نشتري عرق زيتون أو اثنين".

إذا كان أبوقيس، في معاناته وأحلامه، هو التعبير الأفضل عن الجيل القديم العجوز، فإن "أسعد" ينتمي إلى جيل الوسط. يهرب من الأردن إلى العراق في تجربة مؤلمة مرهقة، ثم يشرع في هروب جديد إلى الكويت. لا يتردد العم في إقراضه، ليس لدوافع وأسباب عاطفية عائلية، بل من منطلق المصلحة الشخصية الأنانية التي تسيطر عليه وتتحكم في قراره المحسوب: "شد على النقود في جيبه وفكر: سوف يكون بوسعي أن أرد لعمي المبلغ في أقل من شهر. هناك في الكويت يستطيع المرء أن يجمع نقودًا في مثل لمح البصر..

- لا تتفاءل كثيرًا، قبلك ذهب العشرات ثم عادوا دون أن يحضروا قرشًا.. ورغم ذلك سأعطيك الخمسين دينارًا التي طلبتها، وعليك أن تعرف أنها جني عمر..

- إذن لماذا تعطيني النقود إذا كنت متأكدًا من أنني لن أعيدها لك؟

- أنت تعرف لماذا.. ألست تعرف؟ إنني أريدك أن تبدأ.. أن تبدأ ولو في الجحيم حتى يصير بوسعك أن تتزوج ندى.. إنني لا أستطيع أن أتصور ابنتي المسكينة تنتظر أكثر. هل تفهمني؟..

أحس الإهانة تجترح حلقه ورغب في أن يرد الخمسين دينارًا لعمه يقذفها بوجهه بكل ما في ذراعه من عنف وفي صدره من حقد، يزوجه ندى! من الذي قال له إنه يريد أن يتزوج ندى؟".

صفقة علنية لا يمكن إخفاؤها ويصعب استيعابها والتسليم بها لفرط ما تتسم به من جفاف وغلظة، والقرض المقدم من العم بمثابة القيد الذي يكبّل ابن أخيه ويعكر صفو الحياة التعيسة من البدء، ولا يملك أسعد أن يتمرد ويتحرر. الإهانة التي تطوله حقيقة موضوعية راسخة جارحة، ولا شيء يفوق إهدار الإرادة وتدمير الكرامة على هذا النحو. لا يحب ابنة عمه، ولا يرحب بالزيجة الأقرب إلى قدر مفروض: "يريد أن يشتريه لابنته مثلما يشتري كيس الروث للحقل. شد على النقود في جيبه وتحفز في مكانه.. ولكنه حين لمسها هناك في جيبه، دافئة ناعمة، شعر بأنه يقبض على مفاتيح المستقبل كله..".

"المستقبل" هنا تعبير فضفاض مراوغ لا يمكن الإمساك بمفاتيحه، و"الحاضر" التعيس البغيض يفرض قوانينه القاسية الجائرة التي لا متسع فيها للرحمة والمشاعر الإنسانية وكل ما يتعلق بالعواطف وحق الاختيار بلا ضغوط.

مروان، الذي لم يتجاوز بعد عامه السادس عشر، ثالث الهاربين من الجحيم إلى الجحيم. إنه الأصغر سنًا والأقل خبرة مقارنة برفيقيه في رحلة الموت، والشعور الطاغي بالظلم الفادح الذي تتعرض له أمه هو محور حياته وجوهر الأزمة الطاحنة التي يتعذب بها. الأب صانع المأساة بزواجه الجديد، وإدانته تختلط بنزعة مثالية تتوافق مع حداثه السن ومحدودية التجارب: "إنه يستطيع أن يفهم بالضبط ظروف والده، وبوسعه أن يغفر له.. ولكن هل بوسع والده أن يغفر لنفسه تلك الجريمة؟.

أن يترك أربعة أطفال. أن يطلقك أنتِ بلا أي سبب، ثم يتزوج من تلك المرأة الشوهاء.. هذا أمر لن يغفره لنفسه حين يصحو، ذات يوم، ويكتشف ما فعل. إنني لا أريد أن أكره أحدًا، ليس بوسعي أن أفعل ذلك حتى لو أردت.. ولكن لماذا فعل ذلك، معك أنت؟ أنا أعرف أنك لا تحبين لأحد منا أن يحكي عنه، أعرف.. ولكن لماذا تعتقدين أنه فعل ذلك؟.

لقد مضى كل شيء الآن وراح ولا أمل لنا بأن نستعيده مرة أخرى.. ولكن لماذا فعل ذلك؟ دعينا نسأل، لماذا؟".

أسئلة تنم عن الحيرة، وتكشف عن التعاطف مع الأم، لكن مروان نفسه يعي أن الإسراف في التحامل على أبيه ليس منطقيًا، ذلك أن الرجل بدوره ضحية للفقر والعوز وقلة الحيلة وثقل المسئولية التي يتحملها، ولا يمكن القول إنه ظالم بالمعنى الدقيق للكلمة. زواجه من امرأة "شوهاء" مقطوعة الساق، لا ينبع من شهوة حسية بطبيعة الحال، فهي لا تمثل مغنمًا من المنظور الجنسي. الاختيار الصادم غير السوي وليد الحصار المادي الخانق الذي يزداد استفحالاً وضراوة بعد امتناع الابن الأكبر زكريا، الذي يعمل في الكويت، عن الاستمرار في تقديم الدعم المادي الشهري: "كان زكريا يرسل لنا من الكويت كل شهر حوالي مئتي روبية.. كان هذا المبلغ يحقق لأبي بعض الاستقرار الذي يحلم به".

زواج الأب من المرأة الشوهاء مردود إلى البيت ذي الغرف الثلاث الذي تملكه، ولأن والدها من أصدقائه القدامى، ويريد أن يطمئن على مستقبل ابنته، فإن الصفقة تتم بسلاسة ويسر، وتتحقق من خلالها مصلحة الطرفين: شفيقة تجد زوجًا، ووالد مروان يجد بيتًا ومستقرًا: "لقد فكر والدي بالأمر: لو أجر غرفتين وسكن مع زوجته الكسحاء في الثالثة إذن لعاش ما تبقى له من الحياة مستقرًا غير ملاحق بأي شيء.. وأهم من ذلك.. تحت سقف من إسمنت"!.

مثل هذه الزيجة النفعية الغرائبية ليست إلا صفقة، مثل تلك التي تُعرض على أسعد فيرضخ مضطرًا دون نظر إلى ما يسكنه من ضيق ورفض. في ظل الهيمنة الطاغية للفقر، والتكاثر غير المحدود في أعداد الفقراء، تزدهر مثل هذه الصفقات التي تنبئ عن الخلل من ناحية وتكشف عن حقيقة الضعف الإنساني من ناحية أخرى.

* أبو الخيزران*

السائق الماهر "أبو الخيزران" فلسطيني مأزوم على الصعيد الشخصي، يعمل في خدمة تاجر كويتي ثري، والتوافق كبير بين اسمه وهيئته: "فهو رجل طويل القامة جدًا، نحيل جدًا، ولكن عنقه وكفيه تعطي الشعور بالقوة والمتانة. وكان يبدو لسبب ما، أنه بوسعه أن يقوس نفسه، فيضع رأسه بين قدميه دون أن يسبب ذلك أي إزعاج لعموده الفقري أو بقية عظامه".

يستقر الهاربون الثلاثة على اختيار "أبو الخيزران" ليتولى مهمة قيادتهم إلى محطة "الحلم الكويتي"، وسيارة الماء التي يقودها هي الأداة التي يستعين بها في عمله الإضافي المربح. في أجواء القيظ الملتهب، يتحول الخزان الفارغ إلى جحيم حقيقي يفوق طاقة البشر على الاحتمال، لكن ترف الاختيار ليس مطروحًا، وتلعب كلمات السائق المنمقة دورًا مهمًا في تهوين المصاعب وبث رسائل الطمأنينة: "لا تجعل من القضية مأساة، هذه ليست أول مرة.. هل تعرف ما الذي سيحدث؟ ستنزلون إلى الخزان قبل نقطة الحدود في صفوان بخمسين مترًا، سأقف على الحدود أقل من خمس دقائق، بعد الحدود بخمسين مترًا ستصعدون إلى فوق.. وفي المطلاع على حدود الكويت، سنكرر المسرحية لخمس دقائق أخرى، ثم هوب! ستجدون أنفسكم في الكويت!".

نقطة التحول الحاسمة في حياة "أبو الخيزران"، تقترن بالحادث الذي يطيح برجولته. انفجار مروع وهو يركض مع عدد من الرجال المسلحين، وتتطلب الإصابة الجسيمة عملية جراحية عاجلة، تنقذ حياته وتذهب بقدرته الجنسية: "مرت عشر سنوات على ذلك المشهد الكريه.. مرت عشر سنوات على اليوم الذي اقتلعوا فيه رجولته منه، ولقد عاش هذا الذل يومًا وراء يوم وساعة أثر ساعة، مضغه مع كبريائه، وافتقده كل لحظة من لحظات هذه السنوت العشر. ورغم ذلك فإنه لم يعتده قط، لم يقبله قط.. عشر سنوات طوال وهو يحاول أن يقبل الأمور، ولكن أيه أمور؟ أن يعترف ببساطة بأنه قد ضيع رجولته في سبيل الوطن؟ وما النفع؟ لقد ضاعت رجولته وضاع الوطن وتبًا لكل شيء في هذا الكون الملعون..

كلا إنه لم يقبل، بعد عشر سنوات، أن ينسى مأساته ويعتادها. بل إنه لم يقبل ذلك حتى حين كان تحت المبضع يحاولون أن يقنعوه بأن فقدان الرجولة أرحم من فقدان الحياة".

لا يستسلم أبو الخيزران لفكرة فقدان الرجولة ولا يتعايش معها، وبعد سنوات طوال من المأساة الموجعة لا يغادره الشعور بالفقد والمرارة ولعنة الحرمان. الحياة بعد الحادث القديم ذات مذاق مختلف وتوجه مغاير، ومن البدهي أن تتأثر شخصية السائق وتختل منظومة القيم التي تحكم سلوكه. تغيب لذة الجنس، ويتحول المال إلى هدف وحيد يعيش من أجله. كل السبل والوسائل عنده مشروعة مبررة لتحقيق حلم الثراء غير المحدود، أما المستقبل الذي يراوده فيتمثل في كلماته المكثفة الدالة التي يقولها لأسعد: "إنني أريد مزيدًا من النقود.. مزيدًا من النقود.. ولقد اكتشفت أنه من الصعب تجميع ثروة عن طريق التهذيب.. أترى هذا المخلوق الحقير الذي هو أنا؟ إنني أمتلك بعض المال! وبعد عامين سأترك كل شيء وأستقر.. أريد أن أستريح.. أتمدد.. أستلقي في الظل وأفكر أو لا أفكر.. لا أريد أن أتحرك قط.. لقد تعبت في حياتي بشكل أكثر من كاف! أي والله، أكثر من كاف".

لاشك أن سلوك السائق المأزوم المعذب ليس مثاليًا نقيًا جديرًا بالاحترام، لكنه أيضًا ضحية مثل الآخرين. لا يعني هذا دفاعًا عنه أو تبريرًا تجميليًا لشراهته وجشعه وكذبه وأنانيته. لابد من الإقرار بمرضه الخطير، التطلع النهم إلى الثراء، ولابد من إدراك أسباب المرض حتى يكتمل المشهد، فهو إنسان في نهاية الأمر ولا يُحسب على عالم الشياطين. يتوق أن يصل في يوم ما إلى محطة الراحة والتقاط الأنفاس وإدارة الظهر لحياة مرهقة حافلة بالتعب. "السيناريو" الذي يعتمد عليه للوصول بزبائنه الثلاثة إلى بر الأمان، الكويت، يبدو متماسكًا مقنعًا على الصعيد النظري، لكن التعثر في الجزء الثاني من خطة التهريب، لأسباب خارجة عن إرادته، يفضي إلى هلاك من معه وسقوطهم في هاوية النهاية الكارثية الكابوسية. لا شيء في خزان الماء الخالي إلا الجثث التي يفتك جحيم القيظ بأصحابها، ولا يتردد أبو الخيزران في استكمال الرحلة كأن شيئًا لم يحدث، ذلك أن الحياة الحافلة بالمآسي لا تتوقف لموت أحد، وإسدال الستار على القصة يتطلب سرعة دفن الموتى وإغلاق الملف: "لقد قر قراره منذ الظهيرة على أن يدفنهم، واحدًا واحدًا في ثلاثة قبور.. أما الآن فإنه يحس بالتعب يتآكله فكأن ذراعيه قد حُقنتا بمخدر.. لا طاقة له على العمل.. ولن يكون بوسعه أن يحمل الونش ساعات طويلة ليحفر ثلاثة قبور. قبل أن يتجه إلى سيارته ويخرجها من جراج الحاج رضا. قال في ذات نفسه إنه لن يدفنهم، بل سيلقي بالأجساد الثلاثة في الصحراء ويكر عائدًا إلى بيته.. الآن، لم تعجبه الفكرة، لا يروقه أن تذوب أجساد الرفاق في الصحراء ثم تكون نهبا للجوارح والحيوانات.. ثم لا يبقى منها بعد أيام إلا هياكل بيضاء ملقاة فوق الرمال".

تأرجح أبو الخيزران بين مشاعر متناقضة وقرارات مختلفة، يعني أنه مضطرب مرتبك يكابد مزيجًا من مشاعر الحزن والندم، وصولاً إلى الحيرة وغياب الاستقرار. لا يتناسى، في الوقت نفسه، ضرورة أن ينجو بفعلته ويتجنب المشاكل. لا يملك أن يعيد الحياة إلى جثث الموتى، ومصيرهم هذا وليد أسباب معقدة متشابكة لا يتحمل السائق التعيس مسئوليتها. ما أكثر الهياكل العظمية في الصحراء الواسعة مترامية الأطراف، ولن يكون أبو قيس وأسعد ومروان آخر الضحايا. أي جدوى إذا في إضافة ضحية جديدة مجانية؟. يستخرج جثث رفاق الرحلة المشئومة من الخزان، ويجرها من الأقدام ليلقيها على رأس الطريق: "حيث تقف سيارات البلدية عادة لإلقاء قمامتها كي تتيسر فرصة رؤيتها لأول سائق قادم في الصباح الباكر".

لا متسع هنا ولا معنى أو جدوى للحديث الانفعالي المغلف بالعاطفة عن غياب المشاعر الإنسانية الرقيقة، ولا منطق في الإشارة إلى تبلد القلب وجفاف الروح وانتهاك جلال الموت وتراجع الاحترام للمواريث والأعراف ذات القداسة. الصراع في جوهره بين الموت والحياة، وفي إطار هذه الثنائية لابد من تجاوز الحالات الفردية. يتحرك أبو الخيزران محكومًا بالقوانين السائدة، ولا يملك إلا أن يكون عمليًا قاسيًا بعيدًا عن الإسراف العاطفي غير المحسوب "شيطنة". السائق تخلو من الاعتدال والإنصاف والموضوعية، فهو ابن المرحلة التاريخية وأسير المنظومة النفعية الجافة التي تتحكم في الإيقاع العام.

* الدق على الجدران *

الشخوص الذين يقدمهم غسان كنفاني، متخلصًا من لعنتي التعاطف والتحامل، بشر عاديون منشغلون بهموم ذاتية ضاغطة، تزيح القضية الوطنية الأم، ولا يعني هذا بطبيعة الحال أنهم بعيدون عن الانتماء وعشق الوطن، بل إنه يشير إلى هيمنة المشاغل الفردية في المقام الأول، وعشر سنوات بعد النكبة لا تكفي لصناعة وعي مختلف يمزج بين الذاتي والموضوعي.

لا يتورع أبو الخيزران عن العودة إلى الجثث بعد إلقائها في صدارة أكوام القمامة، والهدف من عودته أن يسلب النقود من الجيوب، وينتزع القليل التافه من المتاح الذي قد يجده: "ما لبث أن تنبه إلى أمر ما بعد أن قطع شوطًا فأطفأ محرك سيارته من جديد وعاد يسير إلى حيث ترك الجثث فأخرج النقود من جيوبها، وانتزع ساعة مروان، وعاد أدراجه إلى السيارة ماشيًا على حافتي حذائه".

المشهد بالغ القسوة، ظاهريًا، بقدر ما هو منطقي مبرر لا صعوبة في فهمه واستيعابه والتسليم بمصداقيته وواقعيته، ذلك أنه لا توجد منطقة وسطى يمكن أن يقف فيها أبو الخيزران، وتتيح له أن يحافظ على مصالحه ويراعي حرمة الموتى. هلاكهم في الجحيم الأرضي قدر لا يقوى السائق على تغيير مساره. التخلص من الجثث على هذا النحو ضرورة حتمية، والعودة للاستحواذ على القليل مما في حوزتهم بمثابة التتويج للقسوة، وترجمة عصرية عملية للمقولة القديمة المتجددة: هل يضير الشاة سلخها بعد ذبحها؟. لن يفيد الموتى شيئًا من النقود والساعة، فلماذا لا يحصل على أسلابهم وهو المريض بطموح الثراء؟.

المبالغة في إدانة الهاربين الثلاثة وسائقهم ليست موقفًا عادلاً منصفًا، والإسراف في الحديث ذي النبرة الثورية عن خطورة "الحل الفردي"، يجافي خريطة الواقع الإنساني الذي يعايشه بشر عاديون مازومون، يتطلعون إلى خلاص ذاتي سريع لا يتكئ على رؤية شاملة واعية تنتصر للعمل الجماعي المنظم، الذي لا وجود له خلال المرحلة التاريخية.

المقولات سابقة التجهيز لا يمكن أن تكون واقعية مقنعة، والضحايا يدفعون حيواتهم ثمنًا لأزمة موضوعية خانقة، تتجاوزهم وتجبرهم على الخضوع لقوانين ليسوا مسئولين عن صناعتها. كيف يُطالب اللاجئ الفلسطيني، الذي يعايش أوضاعًا غير إنسانية، بانتظار طويل لا يمكن التنبؤ بموعد نهايته.

مع بداية رحلة الموت، يقول أبو الخيزران لأسعد: "هل تتصور؟.. إن هذه الكيلومترات المئة والخمسين أشبهها بيني وبين نفسي بالصراط الذي وعد الله خلقه أن يسيروا عليه قبل أن يجري توزيعهم بين الجنة والنار.. فمن سقط عن الصراط ذهب إلى النار، ومن اجتازه وصل إلى الجنة.. أما الملائكة هنا فهم رجال الحدود!.

انفجر أبو الخيزران ضحايا، كأنه لم يكن هو الذي قال ذلك، ثم أخذ يضرب المقود بكلتا يديه ويهز رأسه"!.

السخرية اللاذعة لا تنفي دقة وعمق المقولة المضيئة الكاشفة، وهي تنطبق على أسعد ورفيقيه والآلاف غيرهم. تتسم الكويت بمناخ شديد القيظ، ولا خضرة فيها أو أشجار، لكنها الجنة الموعودة عند اللائذين بها واللاجئين إليها، بالمشروع وغير المشروع من الطرق، هروبًا من الفقر والضياع والبقاء معذبين في المخيمات بلا عمل أو أمل. لكلٍ منهم هدفه ومبتغاه من الرحلة التي تفضي إلى الموت، واللافت للنظر بحق هو ذلك الاستسلام المطلق للنهاية، دون تفكير في الحد الأدنى من فعل المقاومة الشكلية التي تتمثل في الاستغاثة ودق جدران الخزان. هكذا تنتهي الرواية بالفكرة التي تشتعل في رأس "أبو الخيزران" وتسيطر عليه. يبوح بها لنفسه كأنه ينفس عن هواجس الضيق التي تسكنه: "لم يعد بوسعه أن يكبحها داخل رأسه أكثر فأسقط يديه إلى جنبيه وحدق في العتمة ووسع حدقتيه.

انزلقت الفكرة من رأسه ثم تدحرجت على لسانه:

- لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟..

دار حول نفسه دورة ولكنه خشي أن يقع فصعد الدرجة إلى مقعده وأسند رأسه فوق المقود:

- لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقولوا؟ لماذا..

وفجأة بدأت الصحراء كلها تردد الصدى:

- لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟.. لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟".

لماذا؟! الإجابة ليست مستحيلة أو مستعصية. قد تراودهم فكرة الطرق على جدران الخزان بعد الوقوف على حافة الموت، ولابد أيضًا أن تهيمن عليهم في المقابل مخاوف اكتشاف المخبأ وتدخل "ملائكة" حرس الحدود لحرمانهم من الوصول إلى الجنة الموعودة، ثم يأتي الموت فيضع نهاية للحيرة والعذاب معًا!.