أكد رئيس المجلس المصري للشئون الخارجية، ووزير الخارجية الأسبق السفير محمد العرابي، أن العالم بحاجة اليوم لإحياء "حركة عدم الانحياز"، وللتعاون البنَّاء والروابط المثمرة بين أعضاء الحركة، لا سيَّما في هذه المرحلة الحرجة التي يعيشها العالم أجمع.
جاء ذلك في الكلمة التي ألقاها رئيس المجلس المصري للشئون الخارجية أمام مؤتمر "حركة عدم الانحياز في عالم متغير" المنعقد اليوم الثلاثاء بمدينة باكو عاصمة أذربيجان.
وأضاف العرابي "أن عالم اليوم يموج بتحدياتٍ وتهديداتٍ ضخمة غير مسبوقة، على كافة المستويات، موضحا أنه في غضون سنواتٍ قلائل، شهد العالم حربًا تجارية بين الولايات المتحدة والصين، وصراعًا جيوسياسيًا بين روسيا والغرب، والذي بلغ أشده باندلاع المواجهة المسلحة الجارية في الأراضي الأوكرانية منذ فبراير 2022، والتي أدت تداعياتها إلى ازدياد المخاوف القائمة أصلًا ارتباطًا بقضايا نزع السلاح والإرهاب والتطرف وتغير المناخ وندرة الموارد، وأيضًا الفجوة بين الدول المتقدمة والنامية وازدياد معدلات الفقر والتهميش الاجتماعي، والنزوح القسري وتفاقم اللجوء والهجرة، وزيادة حدة الجريمة المنظمة، والتفاوت في الحصول على المنافع الاقتصادية والاجتماعية الأساسية حول العالم".
ولفت إلى أن أهمية تلك القضايا قد ازدادت في السنوات القليلة الماضية، مع الأخذ في الاعتبار التغيرات والتحديات الدولية المتلاحقة، لاسيما في ظل جائحة Covid-19، مشيرا إلى أن اجتماع قمة مجموعة الاتصال لحركة عدم الانحياز، الذي عُقِد أوائل مارس الماضي في باكو، سعى إلى أن يتعاطى معها ويعالجها قدر الإمكان.
وقال "لا يزال العالم يرصد كذلك محاولة البعض فرض وصاية على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية خارج حدوده، وفقًا لمقاربة غير متسقة مع خصوصيات الدول وواقع الأمور بها، بل اتخذ من حقوق الإنسان ذريعة لممارسة الضغط، بشكل أدى إلى تسييس قضايا حقوق الإنسان، والتدخل في الشئون الداخلية للدول، ومع التسليم بوجوب احترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، فإن على الكل أن يستمع لشواغل العالم النامي ويتفاعل معها دون انتقائية، فلابد من مقاربة شاملة تعطي أولوية لمكافحة الفقر، وتوفير الرعاية الصحية والغذاء والتعليم، وتمكين المرأة والشباب، بالتوازي مع إرساء الدعائم السياسية والاقتصادية والاجتماعية لترسيخ الحكم الرشيد وسيادة القانون".
وذكر السفير العرابي أن مصر قد أبدت، انطلاقا من مسئوليتها كعضو مؤسس ونشط في مجموعة الحركة، انفتاحا على مشاغل ومصالح دول الحركة طوال عهدها، وسعت إبَّان عضويتها غير الدائمة في مجلس الأمن عام 2016 إلى تحقيق التوافق حول القضايا المطروحة على المجلس بما يدعم دوره في صيانة السلم والأمن الدوليين، خاصة أن عضويتها آنذاك تزامنت مع عضويتها في مجلس السلم والأمن الإفريقي.
وتابع أن مصر سعت خلال رئاستها لمجلس الأمن في مايو 2016 إلى تعزيز الشراكة بين الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية خاصة الاتحاد الإفريقي وجامعة الدول العربية، حيث تشغل الأوضاع والنزاعات القائمة في القارة الإفريقية والمنطقة العربية السواد الأعظم من أجندة مجلس الأمن الدولي.
وشدد على أن مصر تؤكد دومًا، في سياق الأزمات الراهنة ذات الأبعاد المتعددة، ضرورة تعزيز آليات التعاون جنوب - جنوب، دون أن تكون بديلًا للتعاون شمال - جنوب، مع الحاجة لوفاء الشركاء الدوليين بالمساعدات الإنمائية الرسمية، ترسيخًا لمبدأ «المسئولية المشتركة متباينة الأعباء» الذي يجب أن يحكم التعاون بين دول الجنوب والشمال لتنفيذ أهداف التنمية المستدامة، مضيفا "ومن ثم فإننا نتطلع لقيامنا بدعم المواقف التفاوضية لدول الحركة في المحافل التنموية، كما ندعو لتبادل الخبرات الوطنية المختلفة في مواجهة تلك التحديات، وزيادة مشاركة العالم النامي في هيكل الحوكمة الاقتصادية الدولية".
ونوه بأن محفل حركة عدم الانحياز لطالما أتاح تحقيق الكثير من الإيجابيات من خلال روح التوافقية والاحترام للتعددية، لتحقيق التعاون في شتى المجالات بين دوله، والسلم والأمن الدوليين بصفة عامة، مشيرًا إلى أن الأزمات التي ابتُلِي بها العالم قد كشفت - ضمن ظواهر أخرى كثيرة - عن شعور العديد من الدول، خاصة النامية منها، عن أن مصلحتها تفرض عليها تبنِّي مواقف غير منحازة لأي من أطراف الصراعات الجارية والابتعاد عن موقف أي منها بشكل مطلق.
وأكد رئيس المجلس المصري للشئون الخارجية أننا نؤمن بأن الحركة هي مثابة منتدى دبلوماسي قوي يمكن من خلاله تحقيق مصالح الدول الأعضاء، التي لديها فرصة للتعبير عن مخاوفها من خلالها.
وأضاف أنه وفي ظل التنافس المحتدم بين القوى الكبرى، فقد بات الحياد الإيجابي أمرًا حيويًا، بما يهيئ الظروف لسلام ممتد وتعاون دولي يحقق مصالح الجميع، موضحًا أن الحياد لا يُفهَم بالطبع على أنه "حياد" أو"سلبية"، وإنما سياسة إيجابية ونشطة وبناءة تهدف إلى أن يكون السلام الجماعي أساسًا للأمن الجماعي، كما أكدت مبادئ عدم الانحياز.
ولفت إلى بأن الحركة تسعى، من خلال المشاركة النشطة في السياسية العالمية، إلى التأثير في سياسات القوى المتنافسة لتعديل نظرتها الجيوسياسية، معتبرًا أنه وفي عالم أكثر عولمة وترابطًا، يمكن للحركة أن تكون بمثابة رابط، مما يسهل التفاعل بين القوى المتنافسة.
وشدد على ضرورة أن تقوم بلدان الحركة بتكثيف جهودها لإعادة بناء وتعزيز قدراتها من أجل الدفاع عن نظام دولي متعدد الأطراف عادل وسلمي وتعاوني، قائلًا "بل إن الظروف الراهنة، رغم قتامتها، توفر مساحة لإحياء الحركة كآلية موازنة ناعمة ضد الدول القوية، من خلال محاولة نزع الشرعية عن السلوك التهديدي للقوى العظمى، لاسيما من خلال نشاطها في الأمم المتحدة وغيرها من المحافل الدولية مثل لجنة نزع السلاح والقرارات العديدة الصادرة عن المنظمة الدولية، وتستحق الحركة تقديرًا جزئيًا لتصفية الاستعمار، لاسيما في الخمسينيات والستينيات في إفريقيا وأجزاء من آسيا ومنطقة البحر الكاريبي من خلال نشاطها في الجمعية العامة للأمم المتحدة التي أعلنت إنهاء الاستعمار كهدف رئيسي عام 1960".
واختتم السفير العرابي كلمته بالدعوة إلى التفكير في تحويل الحركة إلى نوع من منظمة دولية، تنشأ على أساس وثيقة دولية، بهيكل دائم وآليات مؤسسية تعزز من قدرة الدول الأعضاء على التكيف مع الظروف المتغيرة في العلاقات الدولية، ومستفيدة في ذلك بمقدراتها الضخمة، ووزنها السياسي الهائل على الساحة الدولية.