مع انطلاقة مبادرة (كتف فى كتف) قبل أيام من بداية شهر رمضان الماضي، استرجعت ذكريات عديدة عن التكافل فى مجتمعنا من خلال تجارب واقعية على مر العقود الماضية، وكيف كانت العلاقة بين التكافل والقائمين عليه من جهة، والدولة من جهة أخرى. ولكن خلال الأسابيع الماضية لم يكن بمقدورى الكتابة عن هذا الموضوع لعدة أسباب منها الانتظار حتى نرى نتائج فعلية للمبادرة، وحتى يهدأ الموسم السنوى للتكافل وتبدأ شهور الفتور التى نحتاج فيها الى محفزات اضافية تدفعنا نحو العمل التكافلي.
لقد بُنى المجتمع المصرى منذ عهد الفراعنة على التكافل بين أبنائه فى أوقات الرخاء قبل الشدة، حيث كانت الأعياد المصرية القديمة مناسبة تُذبح فيها الذبائح لتوزيعها على المحتاجين، فضلا عن العادات الموروثة حتى اليوم والتى تضمن التكافل بين الأسر مثل مواسم صلة الأرحام فى الصعيد وفى أغلب محافظات الدلتا وخصوصا ريف مصر الذى لا يزال يحتفظ بتلك العادات المعروفة حتى فى غير الأعياد، فهناك موسم شهر رمضان وعاشوراء والغطاس والمولد النبوى وشم النسيم وغيرها من الأعياد التى تعد أسمى أنواع التكافل داخل كل كل أسرة.
وعلى مدى القرون الماضية، تطور مفهوم التكافل وتوسع حتى بات منهجا علميا له أصوله وقواعده التى تدرّس فى المعاهد والجامعات، ومعه تطورت أيضا التجربة المصرية فى التكافل على مر التاريخ وخصوصا فى الأزمات والشدائد.
تربيت فى صعيد مصر على مبدأ التكافل بمفهومه المصرى الأصيل والذى يعد صفةَ أساسيةَ فى نشأة رجال مصر ونسائها. وبعدما خضت غمار الحياة، اكتشفت آفاقا أوسع للتكافل عبر مؤسسات المجتمع المدنى والجمعيات، ولا أخفى سرا إن قلت إن التكافل عمل لعقود طويلة على تغطية فئات لم تستطع الدولة بمؤسساتها أن تقدم لهم ما يحتاجونه. ومع تقدم الوقت، تطور العمل التكافلى واستخدم آليات ووسائط جديدة ووسائل التواصل الاجتماعى والاعلانات سواء لجمع التبرعات أو الوصول إلى المحتاجين، كما اتسعت دائرة التكافل لتشمل خدمات تقليدية عينية فى صورة مساعدات مالية وسلع غذائية وأيضا خدمات مستحدثة مثل إجراء عمليات جراحية وتجهيز عرائس وزواج جماعى لغير القادرات وفك كرب الغارمات وخدمات أخرى.
وبرغم هذا الزخم التكافلي، كانت هناك معضلتان، أولهما وأكبرهما معضلة تحقيق العدالة فى التوزيع بين المناطق الأكثر احتياجا، حيث كان هناك عدد كبير من الجمعيات يعمل فى مكان واحد يحظى باهتمام مكثف وتُسلط عليه الأضواء وتبرزه وسائل الإعلام، فيما تعانى مناطق أخرى من الحرمان الشديد والفقر المدقع بعيدا عن أعين الدولة وأذرع المجتمع المدنى أيضا. أما المعضلة الثانية، فقد تمثلت فى ظهور فئة احترفت بلا خجل مص دماء المجتمع المدنى والعمل التكافلى وذلك عبر تسجيل أسمائهم فى جمعيات عديدة للحصول على شهريات ومعونات ودعم متكرر، كما امتهنت هذه الفئة الحصول على الدعم، بل وكوّن البعض من خلف هذه الحيل ثروات! فيما ظلت الأسر المتعففة بعيدة تماما عن دائرة التكافل الذى تستحقه.
نعم. لم يكن التطور التكنولوجى كما عليه الحال الآن، ولكن كان يعيب جمعيات ومنظمات المجتمع المدنى التنسيق بينهم البعض وبينهم وبين مؤسسات الدولة وذلك لتحقيق عدالة فى التوزيع. وفى مارس من العام الماضي، انطلق التحالف الوطنى للعمل الأهلى التنموى بمشاركة أكثر من 20 جمعية من كبرى جمعيات المجتمع الأهلى فى مصر، وهو ما كان بمثابة نقلة كبيرة فى تاريخ العمل الأهلى والتكافلى فى مصر حيث حقق التحالف هذا التكامل والتواصل والتنسيق حتى يتحقق أكبر استفادة من العمل الذى تقوم به الجمعيات فى جميع ربوع الوطن. وجاء التحالف فى توقيت غاية فى الأهمية، وأدى دورا فعالا، وقدم نموجا رائعا للتكامل والتواصل والائتلاف بين مؤسسات العمل الأهلى لتثبت هذه المؤسسات أنها داعم قوى للدولة فى خدمة المواطن وأن لها دور قوى جدا على الأرض وأن دورها مكمل لدور الدولة، لتكون مؤسسات المجتمع المدنى ومؤسسات الدولة على قدم المساواة معا فى خدمة المواطنين وخصوصا الفئات الأكثر احتياجا.
ثم جاءت مبادرة "كتف فى كتف" لتكون أكبر مبادرة تكافلية فى تاريخ مصر وتظهر قوة التكاتف بين تحالف المجتمع المدنى ومؤسسات الدولة المصرية لتؤدى المبادرة دورها باحترافية شديدة، وجعلت المواطن يشعر بأن الجميع يعمل من أجل صالحه وليس لصالح فئة معينة بشكل صنع زخما أكبر للعمل الأهلى فى مصر. كما أثبت التحالف ومن بعده مبادرة "كتف فى كتف" أهمية توحيد الجهود لخدمة قضية معينة، كما بعث برسالة مشجعة لكل مواطن قادر على التبرع ليعرف أن تبرعه يذهب لمن يستحقه.
هذه ليست دعوة لتتخاذل الدولة عن القيام بدورها أو ترفع يدها أو تأخد خطوة للخلف وترمى الكرة فى ملعب الجمعيات الأهلية أو القائمين على العمل الأهلى ليؤدوا دور الدولة، ولكنها دعوة لندرك الكنز الذى نمتلكه كمصريين فى إرثنا الكبير من التكافل الذى يجب أن يكون أكثر فاعلية فى أداء دوره ويأخذ دعما أكبر لكى يؤدى دوره بشكل أقوى وأكثر تأثيرا وخصوصا وقت الأزمات.