تعتبر “قضية الميراث” هي أقدم قضية مسجلة في التاريخ، فحسب الديانة المصرية القديمة التوازن والنظام اللازمين في العالم الكوني والعالم الأرضي وفي غيابها تعم الفوضى ويحصل عدم الاستقرار فتذكر النصوص: “كل يجب أن يحيا وفقا لنظام ما عت”، وتذكر النصوص القديمة: “ما عت هي بالنسبك لك ”أي للملك" القاضي والكاتب الذي يبت في الحقائق هذا هو سبب وجودها أمام جلالتك فهي تخرج من شفتيك أنت تحكم البلاد في عدل".
ووفقا لكتاب “ظهور القانون في مصر القديمة دور ماعت لنيكولاس فان بليرك” ففي أواخر الألف الرابع قبل الميلاد، وعندما وحد الملك نعرمر القطرين تحت حكم وسلطة واحدة، تطلب تسيير شؤون الدولة، وهي الأولى والأقدم من نوعها في التاريخ البشري، تنظيم القوانين وسنها، فقامت الدولة الجديدة على ما يعرف بـ"ماعت"، وهي ماعت ليست ربة أو إلهة تعبد بقدر ما هي جملة من المفاهيم الأخلاقية والخلقية، والنواميس والقوانين والنظم التي تضبط الحياة ومجرياتها، ويمكننا أن نفهم ماعت كونها تمثل النظام الكوني والحقيقة والحق والعدالة المطلقة والقوانين والأخلاقيات وحسن السلوك والأعمال الصالحة وما إلى ذلك من مواطن الخير في الدنيا والأخرة، وحتى الديانة والفنون والأدب ونواحي الثقافة والاجتماع تقوم أركانها على ماعت.
وتمثل ماعت أقدم القوانين في التاريخ البشري حيث قامت عليها الحضارة المصرية القديمة منذ فجر تاريخها واستمرت جميع المحطات الحضارية على مدار التاريخ المصري القديم بها، وكمفهوم قانوني يسير شؤون الدولة الأقدم تاريخيا وينظم الحياة والمجتمع والسلطة ومختلف أركان الحضارة فإن قوانين ماعت عن جدارة هي القوانين الأقدم في التاريخ البشري، سابقة بذلك قوانين حضارية عدة كقانون "أورنمو" وقانون "إشنونا" وقانون حمورابي في بلاد الرافدين وقانون مانو في الهند وقانون دراكون في اليونان وقوانين روما وما تبع ذلك من قوانين.
وانعكست قوانين ماعت على المجتمع المصرى القديم فأنتج حضارة مبهرة متجذرة في أعماق التاريخ ونتج عن ماعت إبداع حضاري فريد من نوعه في العالم، ومن بين الدلائل الأولى على القوانين في مصر القديمة بردية تتكلم عن أقدم قضية مسجلة في تاريخ الحضارات الإنسانية، وهي تضم أقدم دليل على وجود قوانين مرجعية حاكمة للمجتمع يتم الرجوع إليها عند التقاضي، إنها بردية برلين 9010 التي تعود لعصر بناة الأهرام، في عصر الأسرة المصرية السادسة أي حوالي العام 2330 قبل الميلاد، وعمرها يفوق الأربع ألفيات، وعثر عليها في أسوان، وهي تضم في نصها المكتوب خط هيراطيقي منمق حكما في نزاع علي قضية ميراث كأول مثال من نوعه في التاريخ، وتمثل أقدم محضر جلسات لقضية تأتينا من العالم القديم.
بداية البردية الهيراطيقية مفقودة، لكن ما تبقى من فحواها يذكر أن رجلا يدعى "سوبك حتپ" قد قدّم وثيقة للمحكمة ادعى فيها بأنها قد كتبت بالاتفاق بينه وبين شخص أخر المدعو "وسر"، وهو الذي قد عيّنه مراقبا على ممتلكاته بعد موته ليضمن حصول زوجته وأبناءه على نصيبهم من الميراث حسب ما حدّده القانون المصري، ولكن المدعو "ثاو"، وهو أحد ابناء المتوفى "وسر" تقدم بطعن في الوثيقة التي قدمها "سوبك حتپ" للمحكمة، معلنا بأن والده من المستحيل أن يكون قد كتب أتفاقا مثل هذا مع المدعو "سوبك حتپ".
ونطقت المحكمة بالحكم وقررت فاصلة بين المتقاضين بأنه: "إذا جاء المدعو "سوبك حتپ" بثلاث شهود عدول لأثبات صحة الوثيقة وفقا لما حدده القانون، وأن يقسموا ثلاثتهم أمام المحكمة اليمين التالي:" لتكن قدرتك ضده من يحلف (زورا) أيها الرب العظيم"، حينها يكون ادعاء "سوبك حتپ" صحيحا"، وهذه القضية الأقدم المسجلة في كل التاريخ لا تثبت فقط أسبقية الحضارة المصرية في مجالي القانون والقضاء ووجود مؤسسات قضائية متطورة في مصر القديمة منذ أقدم عهودها، لكنها أيضا تدل على وجود محاكم في جميع المدن المصرية في عصر بناة الأهرام، لأن هذه القضية حكمت فيها محكمة بمدينة أسوان بعيدا عن العاصمة المصرية العظيمة منف (ممفيس) التي تمثل مقر السلطة المركزية، وهذا يدل كما يقول الخبراء علي نظام قضائي متطور وسابق لعصره في الألف الثالث قبل الميلاد حسب ما تثبته هذه الوثيقة الّتي تمثل اقدم قضية مسجلة في تاريخ البشرية.
والقضية قد ورد فيها ولأول مرة في التاريخ أقدم مثال على وجود حلف اليمين القانونية في المحاكم، والذي توجهه المحكمة لأحد الأطراف في القضية وهو المدعي وفقا لما نص عليه القانون المصرى، ولا يزال هذا الإجراء القانوني متبعا إلى يوم الناس هذا، وأكد العلماء أنه من المذهل في عصر الأهرام كانت القوانين تشمل جميع مناطق البلاد وهو ما يدل على تجذرها وقدم إرساء أسسها من عصر الملك نعرمر في أواخر الألف الرابع قبل الميلاد على الأقل.