«كانت الأوضاع فى اليوم الأول من الاشتباكات هادئة ولا تدعى للقلق، لتطرف مسكننا الواقع بحى النصر شرق النيل عن ذروة الاشتباكات فى الخرطوم؛ إلا أن صباح الأحد 16 أبريل تحول الهدوء النسبى لفزع رهيب، بعد أن اخترقت رصاصة طائشة سكن الفتيات المجاور لنا».. هكذا بدأت الصديقتان أميرة وإسراء، سرد كواليس عودتهما من جحيم الحرب فى السودان لبر الأمان فى مصر.
الصديقتان أميرة حسانى والمُقيمة فى قنا، جمعتها الصداقة ورحلة الهروب من الموت، بزميلتها إسراء جمال، والمقيمة بالغربية، فالطالبتان المصريتان تزاملتا وتصادقتا خلال رحلة دراستهما بكلية طب الأسنان فى السودان.
9 ساعات مختبئين تحت الأسِرة دون شربة ماء
تقول الصديقتان: «مكثنا 3 أيام نختبئ تحت أسرة غرفتنا خوفًا من الرصاص الطائش دون شربة ماء تكسر ظمأنا، فالضرب يبدأ بقوة منذ الـ5 مساءً قبل أذان مغرب أواخر أيام رمضان ويستمر حتى الـ1 ليلًا دون توقف، وكانت حالة الخوف والهلع شديدة يُرثى لها، إلا أن الخوف الكبير انتابنا قبل دقائق من أذان مغرب اليوم الرابع، بعد أن زادت أصوات الاشتباكات بشكل مُخيف، لنتفاجأ بسيطرة الدعم السريع على الحى الذى نقيم به؛ ما دفع سكان العقار للنزوح متسللين ليلًا إلى ولاية الجزيرة، بما فيهم السيدة السودانية صاحبة السكن، ولم يبق فى السكن سوى أنا وصديقتى المصرية، و5 أسر عراقيين جاءوا مختبئين».
رحلة هروب أميرة وإسراء من جحيم الحرب
«الأسر العراقية نصحتنا بضرروة الهروب من جحيم الحرب والنار وترك حى النصر هربًا لمكان آخر أكثر أمنًا، فوقع الاختيار على قرية أبرق بولاية الجزيرة؛ وما إن وصلنا إلى القرية الصحراوية؛ واستقبلنا الأهالى بكرم؛ ووفر لنا عمدة القرية ويدعى حبر منزلًا كاملًا للإقامة، 20 فردًا، 2 مصريين و18 عراقيًا؛ ملبيا كل طلباتنا».
وقالت «أميرة»: «4 أيام مكثناها فى أبرق حتى ثانى أيام عيد الفطر؛ بعد أن استطاعت شقيقة إسراء التواصل مع أحد المصريين المقيمين فى السودان عبر الإنترنت ويدعى المهندس أحمد للاطمئنان علينا بعد انقطاع أخبارنا بسبب انهيار شبكات الاتصالات؛ ووعدها باستضافتنا فى منزله فهو أكثر أمنا من أبرق، خاصة أن مسكنه يقع على بعد أمتار من السفارة الأمريكية فى السودان».
اختفاء البنزين وزيادة الأسعار لأرقام خرافية في السودان
«لم نكن نتوقع تأزم الأوضاع لهذا الحد، وكان يخيل إلينا أن الأمور ستعود لطبيعتها فى غضون أيام؛ تواصل المهندس أحمد مع أحد أصدقائه بالقرب من أبرق لتسهيل وتأمين طريق اللقاء به، فى ظل اختفاء البنزين وزيادة الأسعار لأرقام خرافية؛ ولكن شهامة العمدة حبر لم يتأخر عن مساعدتنا حتى تمكنا من مقابلة المهندس المصرى والذى لم يسبق لنا رؤيته من قبل، ولكن استقبلنا وأكرمنا فى منزله الكائن بشارع مدنى على أطراف العاصمة السودانية الخرطوم، ضاربا أروع الأمثال فى شهامة ورجولة الرجل المصرى وقت الشدائد والمصائب».
«كان الاتفاق المسبق بين شقيقة إسراء والمهندس أحمد، على ضيافتنا والإقامة فى منزله حتى تهدأ الأوضاع؛ ولكن بعد ساعة واحدة من اللقاء، وصلت أنباء بضرورة وسرعة التحرك الفورى؛ لنادى الرى المصرى فى السودان واللحاق بأفراد البعثة المصرية لمياه النيل؛ للإجلاء إلى مصر».
«غادرنا مسكننا الأصلى بـ ترنجات المنزل»
واستكملت الصديقتان: «هنا كانت الصدمة الكبرى، فنحن لم نستعد للسفر نهائيا، تأزم الأوضاع وخوفنا من الرصاص الطائش دفعنا لمغادرة مسكننا الأصلى بـ ترنجات المنزل وبعض الأوراق المهمة وجواز السفر ولاب توب، وتركنا كل شىء بما فيها الأموال؛ على أمل العودة مرة أخرى لمسكننا بعد أسبوع على أقصى تقدير؛ ولكن الإجلاء كان ضروريا وحتميا هربا من المجهول، وما باليد حيلة».
وقالتا: «ساعة تقريبا، ووصلنا لنادى الرى، ومن هنا تبلورت أسمى قيم ومعانى الرجولة والشهامة منقطعة النظير فى "المهندس المصرى"، فبعد وصولنا لنقطة تلاقى البعثة المصرية نقلت حافلة جميع المصريين وكان عددهم 25 فردا بالنادى، لموقف الباصات بالسوق الشعبى، لنأخذ حافة أخرى إلى القاهرة».
اقرأ أيضًا:
«وجودي مهم لإنقاذ المرضى».. حكاية طبيب مصري رفض العودة من السودان
«البعثة المصرية كانت أبرمت اتفاقا هاتفيا مع الباص الذى سيحملنا إلى القاهرة قبل مغادرتنا النادى، مفاده بأن سعر التذكرة 150 ألف سودانى رغم أن التذكرة فى العادى تبلغ قيمتها 25 ألفا، ولكن فور وصولنا ارتفع سعر التذكرة لـ 245 ألف سودانى وستكون نقطة الوصل أرقين وليس القاهرة، وهنا كانت الكارثة، فنحن لا نملك من أموال سوى 23 ألف سودانى فقط لا غير، هو مبلغ صغير ولا يكفى 20% من سعر تذكرة واحدة؛ ونحن بحاجة لتذكرتين حتى نبلغ بر الأمان فى مصر.
جدعنة مصري في عز الغربة
واختتما: «من جديد ظهر المعدن النفيس للمهندس المصرى الذى لم نعرفه إلا منذ ساعات تقريبا؛ فمنذ اللحظة الأولى للقائنا به وحتى وصولنا للقاهرة، هو من قدم لنا الطعام والشراب على حسابه الخاص؛ هو أيضا من تحمل تكلف ثمن 2 تذكرة أنا وصديقتى رغم الغلاء الفاحش، إلى جانب تحمل عناء ومسئولية قدومنا من أبرق حتى وصولنا لبر الأمان فى مصر، عبر رحلة جوية حربية أقلعت من مطار دنجلة وهبطت بمطار شرق القاهرة، الإثنين رابع أيام عيد الفطر».