نيكولاس ميركوفيتش.. محلل فرنسى متخصص فى العلاقات بين شرق وغرب أوروبا والولايات المتحدة. مؤلف كتاب يتناول العلاقات المتضاربة بين الولايات المتحدة وأوروبا بعنوان «إمبراطوريات أمريكا». له أيضًا كتابان عن البلقان: «مرحبًا بك فى كوسوفو» و«استشهاد كوسوفو».. وقد شارك بأكثر من مقال فى أعداد سابقة، وكونه خبيرًا فى تلك العلاقات، كان لموقع «دلو ديالوج» هذا الحوار معه.
■ خلال الفترة الأخيرة صدر الكثير من الكتب عن الحرب فى أوكرانيا، لماذا قررت تأليف كتاب الفوضى الأوكرانية الآن وتحديدا فى هذه الفترة؟
-هناك بعض الكتب الجيدة، لكن الكثير منها عاطفى ولا يتطرق بإسهاب عن الحقائق التاريخية والجيوسياسية وأيضًا، لا يمكننا فهم الصراع الحالى إذا لم نعد إلى جذور أوكرانيا والمنطقة تتجاهل العديد من الكتب هذا التذكير التاريخى كما أرى أنه من الخطأ محاولة شرح الحرب فقط من خلال التاريخ المعاصر والأحداث الجارية. من المهم لهذا الصراع - كما هو الحال بالنسبة لأى تحليل جيوسياسى - العودة بالزمن إلى الوراء وكشف خيوط التاريخ المعقدة وفهم الأحداث الهيكلية لذلك الصراع.
■ بعد مرور عام على الغزو الروسى، لدينا انطباع بأننا غارقون فى حرب لم تعد تحرك الحدود كثيرًا إلا أن عدد الموتى يتراكم على الجانبين؟
- لقد شرعنا بالفعل فى حرب استنزاف طويلة وخنادق.. القتال شرس من أجل كسب كل متر مربع ولا يريد أى من الجانبين التخلى عن الأرض والحمد لله تم إجلاء معظم المدنيين فى الخطوط الأمامية، لكن فى العمق، للأسف، هناك مدنيون يُقتلون كل أسبوع. هذه الحرب إما أن تظل على هذا الوضع الحالى مع احتلال الروس ٢٠٪ من الأراضى الأوكرانية أو أن أحد المعسكرين سينجح فى اختراق الخطوط بشكل يسمح له بتعديل الخط الذى كان شبه مستقر منذ الخريف الماضى. وفى الحقيقة، كييف تريد استعادة جميع أراضيها السابقة؛ لكننا لا نعرف ما المدى الذى تريد موسكو الوصول إليه! ومن هذه الملاحظة، من الصعب التنبؤ بما يمكن أن يحدث؛ لكن بدون تدخل الناتو على الأرض، يبدو أن الوقت فى صالح الروس؛ فهم أكثر قوة عسكريًا.
■ تقول إن للولايات المتحدة دورًا مهيمنًا فى هذا الصراع وغالبًا ما تتحدث عن حرب روسية أمريكية بدلًا من حرب روسية أوكرانية.. لماذا ؟
-بدون الولايات المتحدة، لن تكون هناك حرب فى أوكرانيا ودعونا لا ننسى أن انقلاب الميدان فى كييف فى عام ٢٠١٤ هو الذى قلب الخريطة السياسية بشكل جذرى رأسًا على عقب فى كييف. ولم توافق روسيا على ما تعتبره تدخلًا رئيسيًا فى منطقة نفوذها القريبة. وبالنسبة لمدير وكالة الاستخبارات الأمريكية ستراتفور ( أحد أعضاء صقور الإمبريالية الأمريكية ومتشكك دائما فى روسيا وسياساتها)، جورج فريدمان، فإن تغيير السلطة فى كييف بعد الميدان الأوروبى هو «أكثر انقلاب صارخ فى التاريخ. مع الحرب الأهلية الأوكرانية التى وقعت بعد ذلك حيث أدركت روسيا أن واشنطن قد استولت على كييف وأصبحت الآن مهتمة بسحب أوكرانيا بعيدًا عن روسيا وتدريب جيشها. ودعونا لا ننسى أيضًا أن أوكرانيا تعتمد كليًا على واشنطن، التى أنفقت عشرات المليارات من الدولارات خلال العام الماضى لمساعدتها عسكريًا وماليًا. وبدون واشنطن والاتحاد الأوروبى وصندوق النقد الدولى، ستغرق أوكرانيا على الفور.
■ المفاجأة الكبرى لهذه الحرب هى فشل سياسة العقوبات ضد موسكو؟
-فى الواقع، لم يعتقد أحد للحظة فى الغرب أن روسيا ستكون قادرة على المقاومة بشكل جيد ضد سيل العقوبات التى تفرضها بعض أغنى دول العالم. ويكاد يكون من المؤكد الآن أن بوتين خطط لانقلابه لفترة طويلة. وأدى التقارب مع الصين والهند وخاصة المملكة العربية السعودية إلى إبعاد دول مجموعة السبع عن التوازن، والتى يبدو أن عقوباتها ليس لها تأثير ملحوظ فى الوقت الحالى. وفقًا لمعهد ويلسون، فإن الدول التى تمثل ١٦٪ من سكان العالم فقط هى التى فرضت بالفعل عقوبات على روسيا. لقد فشل الغرب فى إيجاد إجماع خارج حدوده، وهى علامة تنذر بالخطر على ظهور قوى طرد مركزى تدفع المزيد والمزيد من البلدان بعيدًا عن النموذج الأطلسى الذى وُلد فى نهاية الحرب العالمية الثانية. ولا يقتصر الأمر على أن هذه العقوبات لا تعاقب روسيا إلى المستوى المتوقع، ولكنها تضر بالاقتصادات الغربية؛ لذلك أعلن رئيس الوزراء المجرى فيكتور أوربان أنه مع هذه العقوبات، أطلق الاتحاد الأوروبى النار على نفسه وتحديدا فى الرئتين.. وهو ليس مخطئا.
■ هل يمكن أن ينجح رهان بوتين فى عالم متعدد الأقطاب؟
-تمثل دول البريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا) ٤٥٪ من سكان العالم، وتحتل ثلث سطح الأرض و٢٥٪ من الناتج المحلى الإجمالى العالمى. وعلى عكس كل التوقعات، فقد توطدوا منذ الحرب وستكون أكثر من اثنتى عشرة دولة أخرى فى طابور للانضمام إليهم. وبالفعل منظمة شنغهاى للتعاون تزداد قوة؛ لقد ارتكبنا خطأ استراتيجيًا فادحًا بدفع روسيا إلى أحضان الصين، التى تخرج أقوى من هذا الصراع فى الوقت الحالى وفى الحقيقة، فإن دعمها الاستراتيجى لموسكو لا يعاقبها، وقد أظهرت بكين أنها تريد الآن لعب دور لاعب سياسى عالمى رئيسى. والمصالحة التى بنتها بين عدوين لدودين - السعودية وإيران - وهذا دليل بارع على ذلك. وكما يتم وضعها فى صفوف صانع السلام بين روسيا وأوكرانيا فى مسرح لن تتمكن فيه الولايات المتحدة والدول الأعضاء فى الناتو من لعب هذا الدور، لأنهم أطراف فى النزاع.. يمكن أن يكون الفائز الأكبر فى هذه الحرب هو الصين، وفى الواقع نشهد ظهور عالم متعدد الأقطاب.
■ تقترب الانتخابات الأمريكية فى عام ٢٠٢٤. ما هو التأثير الذى يمكن أن يكون لأوكرانيا والتحالفات العالمية الجديدة على هذه الانتخابات؟
-هذه الانتخابات يمكن أن يكون لها تأثير كبير إذا لم يتعاف الاقتصاد الأمريكى بسرعة. لفترة طويلة، كانت التكاليف المذهلة للحروب الأمريكية (أكثر من ٨ تريليونات دولار منذ ١١ سبتمبر ٢٠٠١ وحدها) تمر فى كثير من الأحيان دون أن يلاحظها أحد من قبل عامة الناس لأن مستوى المعيشة الأمريكى كان مرتفعًا بشكل عام.. وبالفعل، لم يهتم الأمريكيون أيضًا الكثير عما كان يحدث بعيدًا عن حدودهم. واليوم، الوضع بعيد عن أن يكون مثاليًا بالنسبة لجو بايدن الرئيس الأمريكى وكما هو الحال فى العديد من الدول الغربية، كان يطبع النقود خلال أزمة كوفيد وإلى جانب الحرب فى أوكرانيا وسياسة العقوبات، أدت طباعة مليارات الدولارات الجديدة إلى تضخم مرتفع وغير عادى. الآن الولايات المتحدة فى وضع هش للغاية؛ إنهم يجلسون على فقاعة مضاربة عقارية جديدة ويتزايد التخلى عن الدولار، وهذا الملف يعتبر أحد أعمدة الهيمنة الأمريكية، لصالح العملات المحلية. وأوضحت صحيفة نيويورك تايمز مؤخرًا أن الاستهلاك المنزلى هو الذى يمنع الركود وكما يتم سماع المزيد من الأصوات فى مجلسى الشيوخ والنواب للانسحاب من أوكرانيا من أجل التركيز على الأولويات الأمريكية.
إنهم بعيدون كل البعد عن الأغلبية فى الوقت الحالى، لكنهم سيكثفون من تواجدهم مع اقتراب الانتخابات. لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، نشعر أن الولايات المتحدة أصبحت متأزمة للغاية وممزقة أكثر من أى وقت مضى بين فصيليها «التدخليين» و«الانعزاليين». ومع ظهور آسيا والتحالفات الجديدة التى يتم تشكيلها خارج العالم الأطلسى، سيكون من الجيد تذكر هذه الكلمات لأحد أعظم المتخصصين فى التاريخ الأمريكى، البروفيسور بول كينيدى، الذى حذر واشنطن بالفعل فى عام ١٩٨٧ من مخاطر الإمبريالية لقد كان فرط التمدد هو الخطأ الكبير الذى ارتكبته الولايات المتحدة فى نهاية الحرب الباردة وأيضا الاعتقاد بأنه لن يكون لها أى منافسين على الإطلاق، وأنه يمكنها إجبار الدول المتمردة على اتباع نموذجها الأطلسى. وبسبب تفضيل سياسة الحرب والإكراه على الدبلوماسية، تخلت الولايات المتحدة عن تلك الاستراتيجية فى مواجهة الصينيين أو الإيرانيين أو الروس، وسيكون الوقت مناسبًا لواشنطن لإخراج رقعة الشطرنج الخاصة بها.