في عام 1996م، اتجهت أنظار العالم، من خلال فيلم "المريض الإنجليزي" الحائز على جائزة أوسكار أفضل فيلم لنفس العام، إلى مصر وتحديدا لكهف "السباحين" في الصحراء الغربية بهضبة الجلف الكبير بمحافظة الوادي الجديد بالقرب من الحدود الليبية، والذي دارت حوله قصة الحب الرومانسي بين بطلي الفيلم.
كهف "السباحين" أو "الأرواح الطائرة" اكتشفه المجري "لازلو الماسي" في أكتوبر عام 1933م، ويحتوي على رسومات منفذة بالمغرة الحمراء "صبغة"، لأشخاص يسبحون، ولذلك اشتهر باسم كهف "السباحين"، حيث يرجح وجود بحيرات بالمكان خلال الفترة التي نفذت فيها تلك الرسومات، وتؤرخ المناظر الموجودة بداخله لـ9 آلاف إلى 6 آلاف عام قبل الميلاد خلال العصر الحجري الحديث.
يُشار إلى أن الرسومات المتبقية والمنفذة على جدران الكهف لا ترجع الى فترة تاريخية واحدة، ولكن تم تنفيذها على مدار سنوات من الاستيطان البشري بالكهف والمنطقة المحيطة به، لتكشف أسرار فجر التاريخ المصري.
النشأة
تنشأ الكهوف عادة في الصخور، كما يوضح الدكتور كمال عودة غديف أستاذ المياه والبيئة بجامعة قناة السويس، بفعل المياه وتغيرات المناخ بجانب عمليات الانحلال والتعرية الجيولوجية على مر العصور، وتتشكل الأعمدة الملونة داخل الكهوف من قطرات المياه المتجمدة، سواء المعلقة في السقف أو المتكوِّنة على الأرض بشكل عمودي، وتستمد ألوانها من بقايا الصخور المفتتة التي تحملها تلك القطرات.
والكهوف عبارة عن فوهات جوفية تختلف في أقطارها من كهف إلى آخر، وتعتبر هذه الفوهات المداخل الطبيعية لها، وقد تختلف الكهوف في كيفية النزول إليها حيث أن بعضها أفقية المداخل والبعض الآخر رأسية، وتحتوي على ممرات داخلية مختلفة القياسات منها الضيق أو الواسع، والتي تؤدي إلى غرف أخرى تحتوي على مكونات جمالية مميزة، وتمتاز هذه الغرف بدرجات حرارة معتدلة وهواء عليل مقارنة بالطقس السائد على السطح خلال معظم فصول السنة.
الأهمية
الكهوف، آثار غامضة، تثير فضول الباحثين والمغامرين، جدرانها سجلات تاريخية غنية تفننت الطبيعة في رسم أشكالها، وفي مصر الكثير من الكهوف والمآوي الصخرية التي يعود تاريخها إلى عصور ما قبل التاريخ، وهي بمثابة متاحف مفتوحة، تقدم لوحات طبيعية ذات طابع جمالي خلاب تثير إعجاب الزائرين من جميع أنحاء العالم.
ترجع أهمية الكهوف في مصر لما تحتويه من نقوش وآثار تركها الإنسان القديم الذي عاش في تلك الكهوف لفترة من الزمن، وتفرد بعضها بمناظر طبيعية خلابة مما يجعلها مقصدا سياحيا للكثيرين.
كهوف سيناء
عشاق وهواة آثار ما قبل التاريخ يتبعونها حول العالم، وسيناء غنية بهذا النوع من الآثار، من مخربشات ورسومات وبقايا سواء آدمية أو حيوانية، والموجودة في هذه الكهوف. وتضم سيناء، كهوفًا نادرة تُؤرّخ لفترة ما قبل التاريخ، ويشير الأثري الدكتور هشام حسين مدير عام منطقة آثار شمال سيناء إلى كهف "وادي الظلمة" الذي يقع في وسط سيناء شرق مدينة الإسماعيلية بحوالي 120 كم في منطقة المغارة، ويقع الكهف في نهاية أحد روافد وادي الظلمة، وتم توثيق الكهف كليًا خلال أعمال مشروع توثيق النقوش الصخرية الذي تنفذه وزارة السياحة والآثار المصرية بسيناء عام 2020م.
خلال التوثيق تبين وجود ما يقارب من 300 منظر لحيوانات مختلفة في الكهف منها مناظر فريدة للجمال والغزلان والوعول والماعز الجبلي والعديد من مناظر الحمير بالإضافة الى منظر السيدة المعروفة باسم "فينوس" خلال العصر الحجري، ويرجع التاريخ المبدئي للمناظر المحفورة على جدران الكهف من الداخل الى الفترة المتأخرة من العصر الحجري القديم.
كهف الزرانيج
بمحض الصدفة وبناء على إخطار أحد مغامري الصحراء بجنوب سيناء في 2020، تم العثور على كهف وادي الزرانيج، الواقع شمال شرق مدينة سانت كاترين بحوالي 35 كم تقريبا، ويحتوي الكهف على مناظر منفذة بالمغرة الحمراء لأشخاص وحيوانات في مراحل تاريخية مختلفة بداية من العصر الحجري الحديث. تم تقسيم الرسومات إلى عدد من المجموعات لتشمل المجموعة الأولى مرسومة على أقدم طبقة من سقف الكهف، وتُعتبر الأقدم بحيث يمكن تأريخها مبدئيا لفترة من 5500 إلى 10 آلاف عام قبل الميلاد، وتتميز باللون الأحمر الداكن وعليها مناظر لحيوانات مثل الحمار أو البغل، مرسومة بتناسق في جسم الحيوانات عكس باقي المناظر، كما يمكن تمييز خمسة حيوانات من نفس العصر على السقف في مدخل المأوى، وأيضا مجموعة من الكفوف الأدمية مرسومة على السقف ومجموعة أخرى على صخرة في وسط الكهف.
أما المجموعة الثانية، يُرجّح أنها ترجع للعصر النحاسي وتتميز بمناظر سيدات، إلى جانب مناظر حيوانات، والمجموعة الثالثة والأخيرة، ربما ترجع لعصور ما بعد الميلاد حيث تصور أشخاص في "هودج جمل".
كهف الجارة
في عام 1873م، وصل المستكشف الألماني "جيرهارد رولفز" إلي منطقة منعزلة تقع بين الوادي الجديد بالصحراء الغربية ومحافظة أسيوط، ليفاجئ ببوابة غريبة في باطن تلك الهضبة، وقرر" رولفز"، دخول كهف" الجارة"، وأن يستقر لبعض الوقت بجواره، ثم اختفي أي ذكر لذلك الكهف لأكثر من 115 عاما أخرى، حتى عثر عليه المستكشف "كارلو بيرجمان" في عام 1989م، وأعاد اكتشاف الكهف محاولا إلقاء الضوء على المخربشات البدائية التي تميز حوائطه ومدخله، وتم إجراء أول مسح أثري على أسس علمية للرسوم الموجودة بالكهف في عام 1990م.
يقع كهف الجارة بالقرب من واحة الفرافرة بمحافظة الوادي الجديد، على أحد الطرق القديمة التي تربط واحة الفرافرة بأسيوط، ويشتهر بتكويناته الجيولوجية أكثر من شهرته بنقوشه الصخرية، نتيجة النحت الطبيعي للماء، والأشكال الرسوبية النازلة والصاعدة بالكهف أشبه ما تكون بشلالات مياه متجمدة، وهي نتيجة لملايين من الأمتار المكعبة من المياه الأرضية التي تسربت خلال رمال الصحراء منذ ملايين من السنين ثم جرى ترسيبها وتكثيفها بفعل الحرارة الشديدة.
يصف محمد جبريل الباحث في تاريخ الصحراء البيضاء "كهف الجارة" بأنه ذو أبعاد سحرية نشأ كنتيجة طبيعية للماء النقي ومناخ الصحراء الجاف خلال ملايين من السنين، وهو يخالف كل كهوف المنطقة في تكويناته وشكل تسريباته الرائعة، حيث تبدو الأشكال الرسوبية الهابطة والصاعدة أشبه ما تكون بشلالات نارية.
يتكون مدخل الكهف من فتحة صغيرة في مستوى سطح الأرض تؤدي إلى ممر صغير ضيق يشكل مهبطًا مليئًا بالرمال التي تزحف بفعل الرياح من خارج الكهف إلى داخل.
تتركز معظم المناظر في صالة "الغزلان" بالكهف، وصالة "المنحوتات الصخرية"، وارتفاع الصالات يتراوح ما بين 3 الي 6 أمتار، وتم توثيق 133 منظرا منحوتًا داخل الكهف موزعة على 9 مجموعات، ويؤكد الجيولوجيون أن التأريخ المقترح للمناظر التي تشير لاستيطان الانسان داخل كهف" الجارة "تتراوح ما بين 7 آلاف عام و4500 قبل الميلاد.
كهف الوحوش
يقع كهف الوحوش "في الصحراء الغربية بوادي صورا بمحافظة الوادي الجديد، اكتشفه مغامرون هواة بالصدفة عام 2002م، ويضم نحو 5000 صورة مرسومة بالألوان أو محفورة على الصخر منفذة بالمغرة الحمراء واللون الأسود والأصفر والأبيض لأشخاص وحيوانات إلى جانب طبعات أيدي.
وفي عام 2010م، أجرت بعثة أثرية دراسة على الكهف، ويكشف "رودولف كوبر" عالم الآثار الألماني عن التأريخ المقترح لتلك المناظر والتي تُشير لاستيطان الإنسان داخل الكهف لـ 7 إلى 8 آلاف عام قبل الميلاد، وأنها قد تكون من أعمال مجموعات الصيادين الذين ربما كان نسلهم من أوائل من استوطنوا وادي النيل الذي كان في ذلك الوقت مليئًا بالمستنقعات، ولا يسهل العيش فيه، واصفًا الكهف بأنه أكثر الكهوف إبهارًا في مصر وشمال إفريقيا.
كهف القنطرة /كهف تشاو
في عام 1935م، اكتشفت البعثة الاستكشافية بقيادة "كندي تشاو"، كهف القنطرة في الجزء الجنوبي الشرقي من هضبة الجلف الكبير بالجزء الجنوبي الغربي بمحافظة الوادي الجديد، ويبلغ عمق الكهف 11.7 متر في مستوى 1000 متر فوق مستوى سطح البحر.
ويلقي الأثري هشام حسين الضوء على الرسومات الموجودة على الحائط الخلفي للكهف، والتأريخ المقترح لها يتراوح ما بين 8 آلاف الى 6 آلاف عام قبل الميلاد، وتم العثور بداخل الكهف على إبداعات العصور الحجرية، والتي تمثلت في رسم العنصر الحيواني، التي لم تر العين أجمل منها على مستوى العالم كله، حيث تُصوّر كمية من الأبقار البيضاء والزرقاء والحمراء رسمت بشكل غاية في الدقة، ولقد كان الفنان يعي تمامًا الفرق بين البقرة الأنثى بثديها المتدلي وبين الثيران بقرونها الواضحة، وتعد تلك الرسوم من أجمل النقوش الملونة في هضبة الجلف الكبير، وتعد تسجيلا جليا لطرق الفن البدائي.
كهف الرماة
في الصحراء الغربية بهضبة الجلف الكبير بمحافظة الوادي الجديد، وعلى بعد 40 مترا من كهف "السباحين"، يوجد "كهف الرماة" بواجهة 9 أمتار، وكان الكهف يطل على أحد الأنهار الجافة، ويقع في مستوى 620 مترا فوق مستوى سطح البحر.
صورت على جدران الكهف مجموعة من المناظر لحيوانات وأشخاص مسلحين بأقواس، ولذلك أطلق عليه كهف "الرماة" منفذة بالمغرة الحمراء، ويرجع تاريخ تلك المناظر للفترة ما بين 5 آلاف الى 6 آلاف عام قبل الميلاد.
كهف وادي سنور
في شرق مدينة بني سويف على بعد ما يقرب من 200 كيلومتر من القاهرة، يقع كهف "وادي سنور" أحد أقدم الكهوف في العالم، والتي اعتمد عليها النحات المصري القديم كمخازن للمحاجر لصناعة تاريخه، وتشير الدكتورة ولاء محمد نجيب مدرس الجغرافيا بكلية الآداب جامعة أسيوط إلى أنه في عام 1992م أصدر رئيس مجلس الوزراء قرارا بتسجيل كهف وادي سنور محمية طبيعية، وحظر القيام بأي أعمال أو تصرفات أو أنشطة أو إجراءات من شأنها إتلاف وتدهور البيئة الطبيعية والبرية المحيطة به.
كهف "وادي سنور" تم اكتشافه بالصدفة من قبل العمال المصريين المنقبين عن الرخام والجرانيت، ويمتلئ بتراكيب جيولوجية تعرف بالهوابط والصواعد من حجر الألباستر تتخذ أشكالا رائعة، ويمتد داخل الأرض لمسافة 700 متر بعد أن يصل لعمق 15 مترا واتساعه حوالي 15 مترا، وهو مكون من ترسيبات "كلسية" في أشكال مختلفة عن بعضها البعض.
يرجع تاريخه إلى العصر "الإيوسيني" الأوسط، أي منذ حوالى 47 مليون سنة، فقد بدأت المياه بإذابة الحجر الجيري مكونة حفر إذابة صغيرة، قبل أن تتصل ببعضها البعض، ما أدي إلى تكوين تجويف صغير، ظل يكبر ويتسع، ومع غزارة المياه الموجودة واستمرارها، أدى إلى نشأته وتدرج منسوب المياه فيه، ومع التغير المناخي وميله إلى الجفاف، بدأت المياه المخزنة في التسرب من خلال الشقوق، مما أدى إلى تكون بعض المحاليل والأحماض والرواسب التي تقف شاهدة علي وجود فترات رطبة مرت بها أرض وادي سنور والصحراء الشرقية.
مصر تمتلك العديد من الكهوف النادرة والفريدة بطبيعتها على مستوى العالم، والتي تعد إحدى عجائب الطبيعة وغرائبها في الصحراء، وتعتبر تلك الكهوف إرثا جيولوجيا لما تمتلكه من تكوينات رائعة بديعة صاغتها الطبيعة، وبعضها يُسطّر تاريخا لحضارات استعمرت هذه الكهوف، وخلفت وراءها نقوشات ورسومات جدارية شاهدة على تاريخ حافل بجانب أهميتها العلمية التي تجعلها محط أنظار الباحثين.