ليست مصادفة أن يبدأ التأسيس الثاني لحزب التجمع بالإسماعيلية على يد عمال بكل ما تحمله كلمة عامل من جدية وإرهاق ووعي بالصراع الطبقي.
بعد الضربة الموسعة التي نفذها أنور السادات ضد اليسار بقرارات التحفظ وملاحقة حزب التجمع وكوادره ومحاصرتهم في مواقع عملهم إنهار الشكل التنظيمي لتجمع الإسماعيلية وتلاشى.. هذا الفراغ المؤلم كان يزيد محمد حلمي غريب همًا فوق همومه اليومية، حصل على دبلوم التجارة عام 1979 ولم يفكر في العمل به وراح بكل ما أوتي من عافية لينخرط في مجال المعمار متخصصًا في النقاشة والدهانات، يقرأ أشعار محمود درويش ويستمع إلى فيروز والشيخ إمام ويتلفت حوله لا يجد أحدًا.
وعلى مقهى الأميرة بشارع الثلاثيني يلعب الطاولة في المساء ويتفق مع المقاول على يومية الغد، أوائل الثمانينات وحسني مبارك يتهادى في قصر الرئاسة بينما كيان حزب التجمع الذي كان ملء السمع والبصر في الإسماعيلية قد تهاوى.. في يومية الغد التي اتفق عليها مع المقاول وعلى السقالة المجاورة لحلمي يبرز عامل آخر اسمه محمد ربيع ليبدأ تعارفهما وتكون المفاجأة في تقاسم نفس الهاجس ونفس الهم وهو ضرورة إحياء تنظيم حزب التجمع من جديد.
المكتبة الصغيرة لكل منهما تبدأ في النمو وجريدة "الأهالى" صباح الأربعاء صارت هي الزاد الذي يقتات عليه كل منهما طوال الاسبوع، والبحث عن رفاق عبروا على طريق اليسار صار ضرورة فكان إسم متولى الجندي ومحمد السيد وكانت المقاهي هي المقر المتنقل لنواة التشكيل الجديد.
خبر صغير في "الأهالى" يقول إن الزعيم خالد محي الدين سوف يشارك في مؤتمر جماهيري بالزقازيق مساء يوم كذا، يغيب حلمي عن عمله في ذلك اليوم يرافقه صديقه ربيع وينطلقان في الموعد.. زحام حول الزعيم وكلمات حماسية وهتاف، ينتهي المؤتمر ويقتربان من المنصة وبصوت واحد "عاوزين مقر في الإسماعيلية ياريس".
يندهش الخالد محي الدين من هذه العزيمة.. كيف لشباب لم يتجاوزوا الثلاثين من أعمارهم أن يحافظوا على بناء حزب فشل غيرهم في الحفاظ عليه.
وبابتسامته الساحرة يقول محي الدين "تعالوا لي مكتبي في الحزب".
وكأنه عود ثقاب وقد اشتعل، منحهما الزعيم ثقته ومبلغًا ماليًا من يد الدكتور رفعت السعيد وتبدأ معركة المقر، وما كان محافظ الإسماعيلية في ذلك الوقت يقبل بهذا الأمر في بساطة مستخدمًا كل أدواته السلطوية ليغلق مقرًا مهما لحزب التجمع كان قريبا من ميدان الممر، لم يصل اليأس أو الإحباط إلى قلب الشاب المندفع محمد حلمي ولعل حماسته قد ازدادت بسبب اتساع دائرة الحالمين ببناء حزب في الإسماعيلية خاصةً بعد أن انضم لهم مجموعة أدباء بيت ثقافة الشيخ زايد ومن بينهم الراحل محمد عبدالوهاب والدكتور محمد المصري والشاعر مدحت منير وكاتبة القصة فادية شرارة التي سيتزوجها محمد حلمي فيما بعد، كما برزت أسماء يمكنها القيادة بحكم السن والخبرة مثل الحاج عزت هاشم وكذلك النحات المناضل على صميدة، كما ارتبط بهما في هذه المرحلة أسماء شابة مهمة مثل أشرف دهشان المحامي ومسعد حسن علي.
استقرت معركة المقر على استئجار دكانين مفتوحين على بعضهما ولابد من إفتتاحه.. كعادته يصوب محمد حلمي على القمر وينجح في استقدام مولانا الشيخ إمام إلى الإسماعيلية للمرة الأولى وتستمع المدينة إلى "شيد قصورك ع المزارع".
ومن معركة إلى أخرى ندخل انتخابات 1987 وينعقد المؤتمر تلو الآخر وفي ميدان عرابي يتجلى الشيخ محمد عراقي بجلبابه لكي تهتف المدينة "اسماعيلية يا جماهير.. نص سياحي ونص فقير".
هذه الأصوات التي بدأت تعلو في سماء المدينة الهادئة كان لابد من عقابها وفي واحد من مهرجانات الإسماعيلية للفنون الشعبية وأثناء تغطية محمد حلمي ومحمد المصري لمفارقات المهرجان يحرص محافظ الإسماعيلية على تلفيق قضية لهما وبدلًا من حبسهما في مقر مباحث أمن الدولة باعتبارها الراعي الرسمي لحبس السياسيين، يقضيان ليلة في حجز قسم ثالث مع المتهمين في قضايا النفقة واللصوص الصغار، يسقط الإتهام ضد حلمي والمصري ويبدأ النظام في اللعب معهما بذهب المعز بعد أن فشل سيفه ولكنهما يخرجان من هذا العرض فخورين بفقرهما وسعداء لأن لافتة الحزب تعلو.
ومن بداية الثمانينات حتى يومنا هذا ومحمد حلمي الذي خرج على المعاش قبل ثلاث سنوات وصار عجوزًا وهو يواصل أحلامه.. أطلق عليه الرفاق في الإسماعيلية لقب "الحكيم" بينما يرى البعض منهم أن محمد حلمي لا يكون حكيمًا إلا عند ترميم صدع تنظيمي أما في غير هذه الحالة فهو الفيلسوف المتأمل ذواقة الشعر والأديب الذي ضل طريقه نحو السياسة.