(1) يكمُن "الفهد" ويصبر متربصًا لفريسته، حتى ينقض عليها، بذات المهارة كان الروائي العربي السوري الكبير حيدر حيدر – الذي رحل عن عالمنا صباح الجمعة الماضي (5 مايو 2023) في اقتناصه لأعماله القصصية والروائية، وعلى مدار أكثر من نصف قرن من الإبداع القصصي والروائي، أنجز "حيدر" في مشواره خمس مجموعات قصصية، أولهما حكايا النورس المهاجر 1968، وآخرها "عشق الآلهة" 1995، وست روايات أولها "الفهد" 1986، وآخرها "شمس العجر" 1997، وأشهرها "وليمة لأعشاب البحر" 1984، ونشر أول أعماله بعد أن تجاوز الثلاثين من عمره.
(2) حيدر.. و"القوميون العرب"
الإشارة لتجربة "القوميون العرب" ضرورة واجبة، تضيء لنا طريق الدخول للعوالم الإبداعية لمقامات بارزة في عالم الرواية العربية، يأتي في مقدمتها الروائي السعودي الكبير عبدالرحمن منيف، والمترجم والروائي العراقي الكبير جبرا إبراهيم جبرا والروائي السوري الكبير حيدر حيدر.
تبلورت حركة "القوميون العرب" بشكل رسمي في بيان تأسيسها ككيان سياسي تنظيمي في بيروت عام 1951 على خلفية تصاعد الفكر القومي العربي عقب نكسة 1948، وتولى الدكتور جورج حبش منصب الأمين العام للحركة، وكان من أبرز مؤسسيها الدكتور وديع حداد- -أحمد الخطيب – صالح شبل- حامد الجيوري..، وكان مركز ثقل الحركة وأغلب رموزها من الشام (سوريا- لبنان – فلسطين) والعراق.. وعلى مدار عقدين من بداية خمسينيات القرن الماضي، وحتى عام 1970 تاريخ (إعلان حل الحركة) ضمت لصفوفها على صعيد الانتماء التنظيمي، أو الفكري، أو الاقتراب والتفاعل مع فكرها الكثير من المثقفين والمبدعين والشباب من طلاب الجامعات على امتداد الوطن العربي، وحتى في مصر التي كان عبدالناصر قد شرع في صياغة مشروعه القومي الخاص، وجدت حركة "القوميون العرب" أنصار ومتحمسين لفكرها، وفي مرحلة من حياته اقترب الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطي حجازي من الحركة.
ومع انكسار وتراجع الفكر القومي العربي، بعد هزيمة 1967، وما أصاب المشروع "الناصري" كمشروع عروبي- أيضًا- موازٍومغاير في ذات الوقت للتيار القومي العربي، وما شهدته الساحة العربية على امتدادها من الخليج إلى المحيط من إحباط وخذلان.. انتهى بإعلان حركة "القوميون العرب" حل نفسها، وتولى السادات الحكم في مصر، خلفًا لعبدالناصر، بسياسات وتوجهات مختلفة، تصل حد القطيعة والتناقض مع الفكر القومي والعروبي والناصري لتبدأ مرحلة انحسار وهزيمة وتخبط وآلام ومرارة طالت المجتمعات العربية، ونخبها ومفكريها ومبدعيها وصولًا للمواطن العادي.
البعض من المفكرين والسياسيين- من قادة تيار القوميين العرب- خرجوا بمشروع سياسي فكري نضالي، أكثر راديكالية، وأكثر تجذرًا بتجاه اليسار الماركسي، فأسس جورج حبش ووديع حداد الجبهة "الشعبية لتحرير فلسطين" كمنظمة كفاح مسلح ذات مرجعية ماركسية.
أما أبرز المبدعين العرب، وحديثنا هنا يقتصر على المبدعين الروائيين، فأفضل الشواهد على حالهم وما أصابهم.. ذلك الإهداء الشهير الذي كتبه الروائي عبدالرحمن منيف إلى مجموعة من أصدقائه من رموز تيار "القوميون العرب" في رواية "حين تركنا الجسر" كتب:إلى... و... و... ذكرى خيبات كثيرة مضت وأخرى على الطريق سوف تأتي".. بهكذا حال.. جاءت الكثير من الأعمال الروائية العربية، لتعكس وتكشف وتتوقف وتتساءل وتحاكم.. تلك الأفكار والمشاريع والأحلام الكبرى.. التي انكسرت وتراجعت وانهزمت.. وكان في مقدمة تلك الأعمال الروائية أعمال عبدالرحمن منيف وحيدر حيدر وجبرا إبراهيم جبرا وعبدالله العروي وغيرهم من الروائيين العرب.
(3) حيدر.. المثقف العضوي
المثقف العضوي- ذلك التعبير الذائع لجرامشي- والذي يقصد ارتباط المثقف بقضية مجتعه والانخراط الفاعل فيها- هو خير تصنيف لحال "حيدر حيدر" فقد ارتبط وهو طالب بالجامعة بحركة "القوميون العرب"، وعلى خلفية فكرة العروبي كان من مؤسسي اتحاد الكتاب العرب في دمشق 1968 ويتولى مسئوليات قيادية " قسم النشر"، ويسافر إلى الجزائر عام 1970 ليساهم في حركة التعريب في الجزائر، باعتبارها مهمة وواجب قومي عربي، من خلال التدريس باللغة العربية لتلاميذ المدارس، وفي 1974 يقرر الانضمام للمقاومة الفلسطينية في بيروت، ويعمل في اتحاد الكتاب الفلسطين ويخرج مع المقاومة الفلسطينية من بيروت إلى قبرص عام 1982، عقب الاجتياح الاسرائيلي للبنان، ليتولى مسئولية عدد من الصحف والمجلات الصادرة عن منظمة التحرير الفلسطينية، ومع "خفوت" وتقلص الحلم الفلسطيني.. يقرر "النورس المهاجر" حيدر في منتصف التسعينيات التوقف عن الترحال ويحط الطائر على ساحل البحر في طرطوس سوريا، التي شهدت مولده عام 1936، وكان فيها مثواه الأخيرأيضا... ولما يقرب الربع قرن يعيش في هدؤ ويأسس دار نشر وينتج مجموعته القصصية الأخيرة "عشق الآلهة" وروايتة الأخيرة "شموس الغجر".
(4) عودة "للفهد" القناص
التجارب الحياتية الكبيرة والأفكار "الثقيلة".. تتراكم وتختمر في عقل ووجدان "المبدع".. ويصبر عليها.. ويتأملها في هدوء وترو.. ويمزجها بخبرات سنين العمر.. ليخرج عملًا إبداعيًا "قصة أو رواية يعبر من خلال شخوصها "أبطالها" عن النجاحات والإخفاقات "الخيابات" - بتعبير عبدالرحمن منيف -.. الحقائق والأكاذيب.. الطموحات والأوهام.. وبالضبط كان هذا حال حيدر حيدر في منتجه الإبداعي القصصي والروائي نتوقف هنا أمام مثالين من أعماله الروائية.
الأول.. رواية "الزمن الموحش".. حيث كمن "الفهد حيدر" عقدين من الزمن ليقتنص "الزمن الموحش" متأملا تجربته الحياتية والسياسية مع الفكر القومي ومرحلة استقلال سوريا، وعلي مدار سبع سنوات ظل عاكفًا عليه لتصدر طبيعتها الأولي عام 1973.
وروايته الأشهر "وليمة لأعشاب البحر" والتي تدور أحداثها في الجزائر حيث يعيش بطلها الشيوعي العراقي هاربا من ملاحقات نظام البعث الحاكم، وهناك يلتقي بامرأة سبق لها الانخراط في صفوف المجاهدين ضد الاحتلال الفرنسي للجزائر، وعلي خلفية ما أصاب اليسار العربي، بشكل عام، من "خيبات" وما تشهده الجزائر من تراجع لمشروع التحرر وبناء الجزائر الحديثة، عندما تم التراجع عن سياسات وأفكارالزعيم الجزائري هواري بومدين، تعرض الرواية بمهارة وبناء فني مركب،قد يصيب البعض، بحالة من الارتباك في التعاطي مع النص الروائي.ومع تلك " التراجعات والتهويمات"، والتحولات.. والخسارات والانكسارات التي يعيشها أبطال الوليمة.. وهنا تجدر الإشارة لأمر مهم.. فقد عمد حيدر لوضع عنوان مكمل لعنوان روايته " وليمة لأعشاب البحر – نشيد الموت"، والعنوان الثاني المكمل للأول ليس من باب التزَيد أو الفذلكة.. بل إنه دال وكاشف عن الحال الذي تدور فيه أحداث الوليمة وما يعيشه أبطالها من " سكرات وهذيان وارتباكات.
حيدر عاش في الجزائر أربع سنوات من ( 1970 إلي 1974).. وظل الفهد المبدع داخله متأملا ومتربصا بفريسته ما يقارب العشر سنوات.. لتصدر الطبعة الأولى للوليمة في عام 1983.
5-
حيدر بين "المنع" في عام 2000 ورد الاعتبار في 2009.
في روايته الأخيرة " شموس الغجر" والتي صدرت في عام 1997.. ما يشبه التوقع بما جري من أحداث أعقبت صدور الطبعة المصرية من رواية " وليمة لأعشاب البحر" عام 1999، عن سلسلة آفاق الكتابة " الهيئة العامة لقصور الثقافة ".. حيث تتناول " شموس الغجر" قضية الصراع بين الأصولية الدينية التي تنامت تياراتها، حتي في أوروبا في مواجهة تيار العلمانية، وصراع الجمود والتنوير.. ومواجهة الآخر المختلف وتقليص ممكنات الحوار والتفاهم وبروز خطاب العنف والكراهية.
الأمر الذي حدث بتمامه مع الطبعة المصرية لـ"الوليمة".. حيث انطلقت حملة صحفية ضد الرواية والمؤلف والجهة الناشرة وطالت وزير الثقافة وقتها " فاروق حسني" تبعها مظاهرات وصدامات " كان النصيب الأكبر منها من طلاب جامعة الأزهر، انتهت بإعلان الوزير سحب الرواية من الأسواق وتشكيل لجنة لإعداد تقرير عن الرواية ردا علي تقرير مجمع البحوث الإسلامية وقتها..
وترأس اللجنة الدكتور عبدالقادر القط وبعضوية الدكتور صلاح فضل وكامل زهيري والدكتور مصطفي مندور والدكتور عماد أبوغازي.. وأعدت اللجنة تقريرا وافيا عن الرواية .. ردت من خلالها على كل الاتهامات التي طالت النص الأدبي الإبداعي والمؤلف رافضة أسلوب المصادرة والوصاية علي الرأي العام وحملات التكفير والتشهير وإرهاب المبدعين..
المدهش في الأمر أن هذا التقرير لم يعرف طريقه للنشر ولم يتم إعلانه في وقتها.. لتتوقف "المعركة" عند قرار منع تداول الرواية في مصر!!
وفي عام 2009 يتلقي حيدر دعوة من مكتبة الإسكندرية والمركز القومي للترجمة للمشاركة في ندوة حملت عنوان " آليات الرقابة وحرية التعبير في العالم العربي".. لتكون تلك الدعوة بمثابة اعتذار ورد اعتبار للروائي الكبير، وربما يمكن القول أنها كانت في جوهرها خطوة – ولو رمزية – للاعتذار ورد الاعتبار" للعقل المصري".
آراء حرة
"فهد" الرواية العربية.. حيدر حيدر
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق