برحيل حيدر حيدر، يبدو منطقيا مبررا أن تُستعاد ذكرى المعركة التي أثارها نشر طبعة شعبية مصرية من روايته الفريدة "وليمة لأعشاب البحر". يشهر متوهمو حراسة العقيدة الدينية سيوفهم الصدئة لتأكيد سطوتهم وسيطرتهم على العقل العربي الذي يقف على حافة الاحتضار بفضل تكلسهم وإصرارهم على ركوب آلة الزمن للاستقرار في عالم قديم، لا ينبغي أن يبقى منه إلا القليل القليل الذي ينفع الناس ويعينهم على مواجهة تحديات العصر وهمومه.
من يعود لقراءة أوراق المعركة الوهمية المفتعلة، لن يجد صعوبة تُذكر في اكتشاف أن تكفير حيدر واتهامه بكل نقيصة ورذيلة لم يكن الهدف الأول والأهم، ذلك أن التوجه الرئيس عند أصحاب الحملة هو فرض الوصاية على حرية الإبداع ووضع مجموعة من الخيوط الحمراء التي لا ينبغي عندهم تجاوزها، وبخاصة في ساحات السياسة والدين والجنس، ومن يفعل فالمصير الذي يئول إليه فرج فودة ليس ببعيد.
لأنهم جهلاء محترفون لا يقرأون إلا الأضابير الصفراء عديمة النفع والجدوى، يتحول النص الروائي عندهم إلى تعبير مباشر عن أفكار ورؤى كاتبه، فهو من يتحمل المسئولية الكاملة عن سلوك ومقولات شخصياته المتنوعة التي تجسد تعددية تعرفها الحياة الإنسانية ولا تكتمل إلا بها، وتترجم معطيات الواقع من ناحية وما يفرز الخيال المحلق غير المقيد من ناحية أخرى. حال وجود لصوص وعاهرات وقوادين وفاسدين ممن نراهم كل يوم، يتحتم على الروائي أن يتجاهلهم أو يعيد إنتاجهم وفق المعايير المتشنجة، وعندئذ لا تقول العاهرة ما تفرضه عليها مهنتها، ولا يكشف الملحد عن شكوكه. إنهم يطالبون بتقديم لوحات متطهرة ماسخة قوامها الوعظ الرخيص، وتجاهل الصراع المحتدم الذي لا يتوقف، ولا يمكن أن ينتهي، بين الخير والشر.
لا يقتصر التسطيح الساذج على الجهل الفاضح الفادح وغياب الوعي بالحد الأدنى من المفاهيم الإبداعية والنقدية، بل إنه يمتد إلى الدلالة العملية الكاشفة عن أزمة العقل العربي عندما يقوده الظلاميون المخاصمون لروح العصر وثقافته الحديثة. إنه اليقين الراسخ الساذج بوجود مؤامرة بارعة متقنة لإفساد العقيدة الإسلامية وتضليل المؤمنين من العوام، وجلهم يجهل القراءة والكتابة. المثير للدهشة، والغضب أيضا، أن شيوع مثل هذا التصور يسيء للإسلام والمسلمين، فأي دين هذا الذي تزلزله رواية، توزع عدة مئات أو آلاف من النسخ؟.
الجانب الثاني من أزمة العقل العربي، عند تأمل وقائع المعركة التي أثارتها رواية حيدر، يتمثل في رد فعل السلطة، السياسية والثقافية، حيث المسارعة باحتواء الحملة التي قادتها جريدة "الشعب" عبر التضحية بعدد من قيادات المؤسسة التي تبنت عملية نشر الرواية، ما يعني الإدانة الضمية والإقرار بارتكاب خطأ يستوجب العقاب الرادع!.
هل من أمل يُرتجى في ظل الخضوع لابتزاز الظلاميين دعاة الخرافة والردة الحضارية؟ تاريخ طويل مؤلم من المصادرات القمعية الكهنوتية لمؤلفات ذات شأن، تكتبها قامات فذة مثل طه حسين وعلى عبد الرازق ومنصور فهمي وإسماعيل مظهر ومحمد خلف الله وخالد محمد خالد ونجيب محفوظ ونصر حامد أبو زيد، وما هذه المصادرات المشينة إلا الانتصار لجحافل الرجعية، والأخطر من انتصارهم هو الترسيخ الكابوسي المدمر لفكرة تستقر في أعماق العاديين من الناس: لا معنى لحرية البحث العلمي والإبداع، ولا بد من مبايعة قيم العصور الوسطى وشعارات محاكم التفتيش.
حيدر حيدر مبدع ذو بصمة مؤثرة في تاريخ الأدب العربي المعاصر، ومؤلفاته الروائية والقصصية إضافة تتسم بالكثير من الصدق والجرأة والاشتباك مع هموم الإنسان العربي. الإعجاب به وتقدير مكانته لا يعني إضفاء القداسة عليه، لكن النقد المنشود لجملة إبداعه المتفرد لا بد أن ينطلق من أدبية الأدب في المقام الأول، فهل يملك أصحاب العقول الآسنة المتحجرة أن يفعلوا؟. غاية ما يقدرون عليه صياغة المانشيتات الزاعقة المحرضة التي تدعو إلى القتل تحت راية الدفاع عن الدين، وفي ظل سيطرة هؤلاء على العقل العربي، وفي ظل غيبة وتقصير المثقفين التنويريين الجادين، يبدو المستقبل، القريب منه والبعيد، أكثر سوادا من الحاضر والماضي، ولا شيء ينتظر الثقافة العربية المأزومة إلا الموت بعد قرون من الاحتضار.