الإثنين 23 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

سياسة

حيدر حيدر.. رهبة الانكفاء الحضاري والعودة إلى كهوف التاريخ

حيدر حيدر
حيدر حيدر
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

رحل الروائي والكاتب السوري حيدر حيدر، صباح اليوم الجمعة، بمسقط رأسه حصين البحر السورية، بعد حياة طويلة امتدت لـ87 عامًا، قضاها في الإبداع والكتابة ونقد الأوضاع الثقافية المتردية، وسيطرة ثقافة لاهوتية متشددة، تدعم اتجاه ونمط ثقافي لا يستجيب للتطور ويناقض الواقع، ما جعل صاحب هذه المواقف الانتقادية الحادة محل هجوم ومطاردة من قبل جماعات الإسلام السياسي التي تروج عنه محاربته للدين وتتهمه بالكفر، بهدف وضع مسافة كبيرة بينه وبين القراء، وعزل تأثيره عن الشباب.
صدمه الوضع السوري المأزوم، فكان بمثابة الفجيعة الكبرى والصدمة غير المنتظرة لدى "حيدر"، لأنها وضعته أمام مواقفه القديمة وأفكاره، فبدلا من المطالبة بالتغيير والتنوير والحراك الثقافي، والتقدم نحو إعلاء سلطة العقل، وتحرير الشعوب العربية وافتكاك قيوده، بدلا من العمل التنويري الثقافي الذي انشغل به "حيدر" أصبح يفكر في حال المواطن السوري الذي يعيش حياة صعبة للغاية يفتقد فيها المسكن والطعام، يعيش حياة غير آدمية يفتقد فيها كل المقومات الأساسية للحياة.

مؤلفات حيدر حيدر

رغم أسفاره المتعددة، عاد إلى مسقط رأسه أخيرا، وفي مقدمة كتابه "أوراق المنفى" تحدث "حيدر" عن تطلعه للاغتراب والسفر والهجرة، تاركا ورائه دمشق الحبيبة، لكنه في رحلته الطويلة ظل وفيًا لكل الأوطان التي احتضنته، سافر إلى لبنان والجزائر وقبرص وفرنسا، واصفا هذه الرحلة بـ"غير السعيدة"، لكنها "غنية في تجربة الكتابة واكتشاف البشر والأماكن عرفت أوطانا أخرى غير وطني الأول لقد تأقلمت مع هذه الأوطان والتحمت بها وكما كنت وفيا ومحبا لوطني ما اختلف الأمر بالنسبة لهذه الأوطان"، ورغم افتتانه بالرحلة غير السعيدة فإن عودته لقريته التي ولد فيها "حصين البحر" القريبة من طرطوس كان أمرًا ضروريا بعد كل هذه التغيرات التي طالت بلادنا العربية، وبعد الأزمة المعقدة التي تعرضت لها سوريا في طوال السنوات الأخيرة التي تجاوزت عشر سنوات.

حيدر حيدر في حديقته

سيف مغروز في قلب الرجعية
انتقد "حيدر" سيطرة حالة من الخمول على الذهن العربي نتيجة تفسير النصوص القديمة بمنهج مثالي وامتثالي مُعادٍ للاجتهاد العقلي والمنهج المادي التاريخي، وبانتصار الفكر الرجعي المدعوم، طغت ثقافة رجعية ارتدادية محورها تمجيد الماضي المقدس.
أشار إلى الممارسات السيئة التي وقعت تحت عين السلطة السياسية آنذاك نتيجة الجمود وصعود التيارات العدائية للعقل، قائلا: "إن محاكمة غيلان الدمشقي المعتزلي وصلبه، ثم إبادة المعتزلة كفرقة كلامية عقلية على يد المتوكل، ومحاكمة الحلاج وصلبه، والتنكيل بأتباعه، وإحراق كتب ابن رشد في ساحات قرطبة ومقتل السهروردي وقافلة شهداء العقل والحرية في عصور الظلام والانحطاط، ومن ثم ضرب وسحق الحركات الثورية كالمعتزلة اتخذت كسيرورة تاريخية، في إطار هذا السياق المضاد لصعود العقل ونقد المطلق جاءت محاكمة طه حسين وعلي عبدالرازق وغيرهما.
احتدام الصراع بين تيار الجمود وتيار العقل، ذكره "حيدر" بأنه محكوم بسيف مسنون سينتهي بالقضاء على الرجعية، مؤكدا أنه "بين خندق التقدم وخندق الرجعية سيف مسنون لا تزيده المحن والصراعات إلا شحذا ومضاء، وهذا السيف لن يغمد إلا بعد أن يغرز في قلب الرجعية، لن يغمد إلا بعد أن تجري مراسيم دفن العالم القديم، ما دام هناك شعب لن يركع ولأن التاريخ يرفض العودة إلى الوراء". وهكذا يتضح من كلماته مدى احتدام الصراع بين الفريقين، ومدى انحيازه للتيار العقلاني، واصفا الفريق الآخر بأنه "اتجاه ثقافي يحاول دمج الماضي السحيق بالحاضر الذي يطرح مسائل عصرية هي في أساسها الفكري متعارضة جوهريًا مع الفكر السلفي أو منفصلة عنه تاريخيا ونفسيا".

حيدر حيدر

التراثيون.. والعودة إلى الكهوف
تخوَّف "حيدر" من مجموعة من المثقفين سماهم بـ"التراثيين"، لا يؤمنون بأن لكل كاتب أسلوبه المتغير والمتطور والمناسب للزمن، ويطالبون بالعودة لأسلوب الكتابة العربية القديمة الذي يشبه أسلوب ألف ليلة وليلة ومقامات بديع الزمان، وكتابة ابن إياس الحنفي في بدائعه. ويعتقد أن لكل كاتب في مجالات الإبداع أسلوبه، لأنه اختيار ثقافي شخصي تبلوره التجربة والمعرفة والدأب والتمثل اللغوي على مدى سنوات مغامرة الإبداع الصعبة والسعيدة. 
أما الاتجاه الآخر الذي يحاول سجن الأسلوب العربي الحديث في كتب القدماء، يدافع عن نفسه بأنه التيار الواقف أمام التغريب والاستعمار، ويغلف مقولاته بشعارات مثل "الأصالة" و"العودة إلى النبع" و"الحفاظ على المقدس من لغة وميراث الأجداد" و"مكافحة الجرثوم الاستعماري الحديث الزاحف لتدمير لغتنا العظيمة". 
لمثل هذا الاتجاه الذي يدعونا للماضي، وهو شبيه بدعوات الجماعات التي لا ترى مستقبلا دون الرجوع للماضي الذي تضفي عليه "القداسة"، له عدة مخاطر منها: الوقوع في فرضية لا تاريخية ترى في اللغة العربية كائنا ميثولوجيا انتهى تشكلها عبر الحقب، فعادت عصية على التطور وغير قادرة على النمو والظهور بأشكال جديدة تستوعب معان جديدة في حين أن نظرة تبسيطية مدرسية تشير إلى الطاقة المذهلة للغة العربية على تطور ونمو أساليبها منذ عصر التدوين حتى يومنا الراهن.
ومن المخاطر التي يضيفها "حيدر"، عدم الانتباه المعرفي لتطور ونمو الثقافة العربية عبر مراحل القرن العشرين، وهذا التطور أساس في بداية تبلور شخصية الإنسان والمجتمع العربي داخل ميكانيزمات الانتقال من المراحل البدائية والرعوية والزراعية والريفية إلى المراحل المدنية والصناعية والتجارية، مرفقة بتحديات ضرورة التقدم واكتساب المعارف ومواجهة الأعداء في التقنية والعلوم والحروب والسباق الثقافي.
مؤكدا في النهاية، أن العودة الأسلوبية إلى الزمان القديم والكتابة بلغة الأجداد يمكن أن تأتي تضمينا داخل الأسلوب الحديث، وليست عودة حرفية إلى تقليد عفا عليه الزمن، وسُجِّل في أرشيف التاريخ، وإلا فنحن بصدد انكفاء سياسي حضاري سيعيدنا إلى كهوف التاريخ في عصر المدن والكتل والتقنية والانفجارات النووية وغزو الفضاء.

حيدر حيدر في لحظات من داخل منزله