يُعد علي مبروك، واحدًا من أهم الكتاب والمفكرين المصريين والعرب الذين ناقشوا التراث الإسلامي، فى العقود الأخيرة.. من مؤلفاته «النبوة...من علم العقائد إلى فلسفة التاريخ»، «عن الإمامة والسياسة، والخطاب التاريخي في علم العقائد»، «لعبة الحداثة بين الجنرال والباشا»، «ما وراء تأسيس الأصول.. مساهمة في نزع أقنعة التقديس»، «الخطاب السياسي الأشعري.. نحو قراءة مغايرة»، «السلطة والمقدس.. جدل السياسى والثقافى فى الإسلام»، «ثورات العرب.. خطاب التأسيس»، «فى لاهوت العنف والاستبداد - الفريضة الغائبة فى تجديد الخطاب الديني»، «الدين والدولة فى مصر - هل من خلاص؟»، «أفكار مؤثمة؛ من اللاهوتي إلى الإنساني»، «القرآن والشريعة؛ صراعات المعنى وارتحالات الدلالة»، «نصوص حول القرآن؛ فى السعي وراء القرآن الحي».
ونعرض فى هذه المساحة واحدًا من أهم الكتب التى تحدثت عن العلاقة بين الدين والدولة فى مصر، ليس فقط بل تناول فى طيات كتابه هذا الخطابات المأزومة والمؤدية للعنف ومن بينها الخطابان المتصارعان على الساحة الإسلامية، الخطاب الأشعرى والخطاب السلفى، ليس هذا فقط بل يدخل معهم فى الصراع على الساحة السياسية الخطاب الحداثي الذي يعده على مبروك ضمن الخطابات الأصولية والتى لا تقوم بتفعيل تاريخية النصوص.
فعن المثقفين والعنف يقول علي مبروك «لا يفعل المثقفون مع كل موجة عنف، إلا أن ينهمكوا فى صلوات جنائزية لا تنتهى، يرددون خلالها المعاداة والتراتيل المكررة التى لا تتجاوز أبدا سطح الحدث إلى ما يخفيه ويضمره، فليس لديهم إلا الحديث المعاد عن الأزمة التاريخية والاجتماعية والنفسية التى تأخذ بخناق أجيال بائسة لم تجد سوى العنف مخرجا من حصارها، وهو كلام صحيح يضاف إليه تآمر الخارج، لكنه يقف على سطح الواقع لا يتجاوزه إلى ما يرقد تحته من خطاب كامن ينتظم كل ما يحدث على السطح.»
ثم يتطرق إلى الحديث عن الخطاب الحاضر فى الثقافة المصرية فيقول عنه «إنه خطاب فرض إكراهى التراكيب وتواليف أيديولوجية جاهزة على واقع لا يراد منه إلا أن ينصاع لها، باعتبار أنها الحلول الوحيدة القادرة على إخراجه من أزمة جموده وتخلفه». ويستطرد «إن ثمة خطابا واحدا ينتظم الممارسة الواقعية لكل شرائح النخبة المصرية، على الرغم مما يقوم بينها من اختلاف المنطلقات والتوجهات الأيديولوجية، وهو خطاب ينبنى على الاقصاء الكامل للناس الذين لا يسمح لهم بالحضور إلا كمحض أدوات يفعل بها الواحد، وبالطبع فإن شيئا لن يتغير فى مصر حقا، من دون زحزحة هذا الخطاب، وبما تعنيه تلك الزحزحة من إدخال الناس إلى الفضاء العام كفاعلين حقيقيين، وليسوا أدوات».
وعن تعدد الخطابات المأزومة داخل الثقافة المصرية يقول علي مبروك «إنه لا خلاف بين الليبرالى، الذى راح يستصرخ زمانه مع نهايات القرن الماضى (أحمد حسن الزيات)، أن ينجب مصلحا متسلطا يقدره بالسيف فى يده على تحقيق ما عجزت الليبرالية الناعمة عن تحققه، وبين العلمانى (سلامة موسى) الذى أعلن أنه «لا يتصور نهضة عصرية لأمة شرقية، ما لم تقم على المبادئ الاوروبية للحرية والمساواة والدستور والنظرة العلمية للكون» وبين صاحبهما السلفى (الذى تعددت أصواته وتباينت وجوهه والداعى إلى أنه «لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح أولها»، وهكذا كان الكل حاملا للحل الجاهز فى يده، وليس على الواقع إلا أن ينصاع ويزعن، وإلا فإن السيف هو البديل. وليس من شك فى أن خطابا لا يعرف محض هذا الفرض الإكراهى لحلوله الجاهزة على الواقع لا يمكن إلا أن يكون الأصل فيما تكاد تغرق فيه المجتمعات العربية من عنف تتدرج أشكاله بين الناعم (الصامت) والخشن (الصارخ).
ومن ثم يتطرق علي مبروك لتحليل النخبة المصرية حيث يؤكد على أنه رغم ما يبدو للمراقب من الانقسام الراهن للنخبة المصرية بين شرائح تتبرقع بالقداسة، وأخرى تتلفح بالحداثة، فإن نظرة أعمق على ما يرقد تحت السطح تكشف عن أن الكافة، من المتبرقعين والمتلحفين، يقفون معا تحت مظلة ذات الخطاب الذى يتنكر للجمهور ويريد إقصاءه، فإن من راحوا يرفعون – ليلة تنحي مبارك – شعار (الله وحده هو الذي أسقط نظام مبارك) لا يختلفون عن أقرانهم السابقين الذين جعلوا محمد علي (باشا) هو بانى مصر الحديثة، وبما يفهم منه أن الجمهور لم يكن حاضرا كفاعل لا فى الإسقاط ولا فى البناء.
مستخلصا نتيجة مفادها «أنه لا سبيل لتحرير كل من العقل والواقع إلا عبر الاشتغال المعرفى على المفاهيم والتصورات التى يقوم عليها بناء الأنظمة الأيديولوجية والمذهبية التى تتقارع على سطح الواقع المصرى الراهن».
ثم يقوم علي مبروك بتحليل نظرة السلفيين للقرآن وتأويله فيقول «أن التأويل ليس قولا بالظن، بحسب ما يروج دعاة السلفية، بقدر ما هو السعي إلى إنتاج معنى الآية القرآنية عبر ربطها بمحددات سياقية (منها سياق تنزيلها، والسياق النصى الذى يشملها، وسياق كل من الواقع والعقل معا) والقرآن نفسه يؤكد على ضرورة تلك المحددات السياقية لأى عملية فهم، ويأتى المثال الأبرز على ذلك فى قصة موسى والخضر.
فإذا كان أهم ما يميز القرآن كتنزيل أنه قد تنزل كآيات متفرقة على مدى أكثر من عشرين عاما، فإن الإلحاح السلفي على التعامل مع القرآن بنص التنزيل لا يعنى إلا التعامل معه كآيات متفرقة، تنتج فيه الواحدة منها دلالاتها فى انفصال عن غيرها، وليس ضمن سياق أكبر ترتبط فيه مع غيرها من الآيات، وذلك على النحو الذى يتحدد فيه معناها بحسب نوع واتجاه الحركة الكلية لهذا السياق، حقا قد يستدعى داعية سلفى آيات أخرى لتأكيد ما يريد من الآية التى يشتغل عليها أن تنطق به، وهكذا فإنه يستدعيها لتقف فقط إلى جوار الآية التى يشتغل عليها، وليس لكى تتفاعل وتتحاور معها على النحو الذى قد يؤدى إلى إعادة توجيه معناها فى غير اتجاه ما تنطق به، وهى معزولة عن سياق تفاعلها مع غيرها.
وإذن فإنه الاستدعاء ضمن منطق التجاور الذى هو منطق تثبيت الدلالة، وليس ضمن منطق التفاعل والتحاور الذى هو منطق تفجير الدلالات المكتنزة والكامنة.
والحق أن منطق السلفية القاضى بالتعامل مع القرآن بنص تنزيله لابد أن يؤول – شاءوا أم أبوا – إلى ضرورة النضال من أجل رد العالم إلى الحال التى كان عليها وقت التنزيل، فإذا كان القرآن قد تنزل بأحكام حول الرق مثلا، وأدى التطور الإنسانى إلى تعطيل اشتغالها، فإن داعية السلفية، وبسبب إصراره على قراءة آيات الرق معزولة عن سياق تتفاعل فيه مع غيرها، وعلى نحو يتم فيه توجيه معناها فى اتجاه مغاير لما تنطق به فى عزلتها وفرادتها، يلح على تفعيلها فى جزئيتها، حتى لو اقتضى الأمر ردا للعالم إلى الحال التى كان عليها وقت نزول تلك الأحكام.
وهنا إذا كانت آيات الرق فى جزئيتها تحيل إلى دلالة استعبادية، ترتبط بالسياق الذى كانت تعيش فيه المجتمعات القديمة، وأنماط الإنتاج السائدة فيها، فإن ربطها بغيرها من آيات يبدو فيها تحرير البشر، على العموم، قصدا قرآنيا كليا سوف يؤدى إلى إعادة توجيه دلالة تلك الآيات على نحو ينقذ القرآن من وصمة اللاإنسانية.
يبدو إذن، وكأن كلا من القرآن والإنسانية فى حاجة للخلاص من القبضة السلفية، وهو ما لن يكون ممكنا إلا عبر التجاوز بمصر من مرحلة ما قبل المعرفى التى تعيش فيها.
لاهوت الاستبداد والعنف
ضمن المكتبة السياسية التى تصدرها الهيئة المصرية العامة للكتاب، صدر فى نهاية ٢٠١٤، كتاب «لاهوت الاستبداد والعنف والفريضة الغائبة فى خطاب التجديد الإسلامي»، ورغم أن الكتاب يأتى فى إطار ما عودنا عليه الدكتور على مبروك من جمله المركبة ولغته الصعبة أحيانا على بعض الأكاديميين، فما بالنا بالقارئ العادى، وتؤخذ هذه الملاحظة على جزء كبير من الباحثين العاملين فى حقل التنوير وتجديد الخطاب الدينى، غير ان الكتاب الذى بين أيدينا يتميز بصغر حجمه رغم ما به من مادة علمية هائلة ورؤى وأسئلة جديرة بأن تناقش، وتدور حولها ندوات نقاشية وورش عمل للنزول بتلك الرؤى إلى أرض الواقع فى مجال التنوير والخطاب الدينى.
يطرح علي مبروك فى مفتتح كتابه الصراع الدائم فى الحضارة العربية بين «العقل» و«النقل» فى إطار المدارس الفكرية، أو الكلامية العربية بداية من المعتزلة والأشاعرة، تلك الثنائية التى أنتجت ثنائيات متعددة فى إطار هذا الصراع، والتى تتمثل فى شق منها، بثنائية الإنسان كفاعل ومسئول عن أفعاله والإنسان كمفعول به، أو بين الإنسان الحر المسئول عن حريته واختياره، وبين الإنسان المجبر الخانع المستكين، وتلك الثنائيات لا تبتعد كثيرا عن علاقة الإنسان بالحاكم فالخليفة أو الامام أو الملك، أيا كان المسمى فى الفريق الأول «النقل»، هو ظل الله فى الأرض لا يجب الخروج عليه فهو ممثل السلطة الدينية والزمنية فى نفس الوقت، أما الفريق الثانى فالإمام لديه بشر يصيب ويخطئ ويحاسب إن أخطأ، وإن كان ظالما يجب الخروج عليه، تلك الجدلية التى تجسدت فى صراعات كثيرة فى الحضارة العربية، ويلخصها على مبروك فى مفتتح كتابه، معرفا فى البداية ارتباط اللاهوت بالناسوت وأنه عند دعاة النقل أنفسهم «الأشاعرة» فإنه لا قول فى «الغائب» إلا قياسا على » الشاهد»، وبالتالى فإن الاختلاف فى صفة الله وفعله لا يمكن أن يكون ناشئا عن معاينتهم لله، بل أنه ناشئ عن التباين بينهم حول الإنسان والعالم المتعين فيقول على مبروك «رغم أن اللاهوت يقصد - وبالأساس - إلى بناء تصور لله يحوز فيه كل صفات الاطلاق والتعالى والجلال، فإنه - ولكونه يبقى فى العمق خطابا بشريا حول الله – يظل مسكونا بكل ضروب التحيزات والتحديدات التى ينطوى عليها عالم البشر. وهكذا فإن القول فى الله يستحيل إلى مرآة كاشفة عن طبائع البشر بأكثر من كونها كاشفة عن طبيعة الله. ومن هنا أن القول فى صفات الله وأفعاله قد تحول – بين متكلمى الإسلام – إلى ساحة اصطراع تعكس – وراء لغة التسامى والعلو – التنازع على صفة الإنسان وفعله، والى حد ما يمكن قوله من أن اللاهوت هو – فى الحقيقة – قول فى الناسوت.
ثم يعقد علي مبروك مقارنة بين مصر أواخر القرن الثامن عشر ومصر الآن، وأن التغيير الذى طالب به المصريون فى أواخر القرن الثامن عشر لم يختلف كثيرا عما يطلبه المصريون الآن، حيث إنه فى الحالة الأولى كانت أنوار العقل خافتة لذا ظهرت القوة على السطح وأنها هى المؤهلة وحدها لأحداث تغيير، أما فى حالة مصر بعد ٢٥ يناير ٢٠١١، لم تكن أنوار العقل غائبة تماما بل ما زالت خافتة ولا تستطيع بحال القيام بفعل التغيير، وبالتالى أخذت القوة والتى ما زالت حاكمة إعادة إنتاج نفسها ضمن شروط متحولة، مما يعنى أن ما جرى فى مصر خلال قرنين من الزمان لم يتمخض عن تغيير ذى بال من طبيعة الأصل المنشئ للتغيير فيها، فقد ظلت القوة على نفس حالها، كفاعل رئيس، وظل العقل مجرد هامش على حواف المشهد. يؤكد هذا ما جاء فى طيات كتاب علي مبروك «أن تغييرا فى مصر لن يكون نتاج أنوار العقل، او اختمار الآراء الفلسفية المتصارعة، وإنما تغيير تجريه قوة قاهرة على قوم وادعين جهلاء» يستعير هذا المقطع على مبروك من مقولات الجنرال المعلم يعقوب ليقول لنا: تكشف عبارة «المعلم الجنرال» عن وعى مدهش، بأن الأصل فى فعل «التغيير» هى «أنوار العقل» التى هى بدورها نتاج اختمار الآراء الفلسفية المتصارعة، فإن خلو مصر من شيء منها عند أواخر القرن الثامن عشر، قد جعله يدرك أن «القوة القاهرة» هى المؤهلة وحدها للقيام مقامها. ومن هنا جاء تسلل «القوة» لترقد فى رسوخ ضمن التلافيف العميقة لبنية ما يقال أنها «الدولة العربية الحديثة».
فقد كشفت انتفاضات المصريين التى بلغت ذراها، مع علي بك الكبير فى النصف الثانى من القرن الثامن عشر، عن أن التغيير كان مطلبا يلح عليهم، وذلك قبل أن يفاجئهم نابليون، على رأس جيش الشرق عند نهاية هذا القرن بالضبط، ولكن أداة التغيير الرئيسية (التى هى العقل) لم تكن حاضرة آنذاك، وربما ليست حاضرة حتى الآن.. فلا تزال «القوة» هى آلة التغيير وأداته، وإن راحت تتغير أشكال حضورها التى يبدو أن مصر تشهد بعد ثورتها الأخيرة، شكلا مستجدا لحضورها يتمثل فى ممارستها بالحشد للجمهور المتحمس، بعد أن كان الجيش هو شكل ممارستها الغالب على مدى عقود.
ثم ينتقل علي مبروك إلى الثقافة ودورها فى تكريس الاستبداد والعنف بسبب هيمنة الخطاب الأشعرى على الفضاء الثقافى العربى فيقول «وأن تكون الثقافة فى حقل أنباء ما يؤسس للاستبداد والعنف، فإن ذلك يعنى أن كل المنضوين تحت مظلتها الواسعة – وعلى تباين انتمائهم الأيديولوجي- سوف يكونون حاملين لجرثومة الاستبداد والعنف، حتى ولو كانت فى حال الخمول وعدم الفاعلية عند البعض من هؤلاء، وبحسب ذلك، فإنه ليس ثمة فارق بين الدولة والقائمين عليها وبين خصومها أدعياء الإسلام السياسى وغيرهم، وفقط فإن الفارق بينهم حسب على مبروك يتمثل فى نوع البيارق التى يمارسون تحتها الفرقاء عنفهم واستبدادهم. فإذا ظلت الدولة العربية موصومة بالتسلطية، بكل ما يصاحبها من القمع والعنف، على تنوع الأيديولوجيات الحداثية (ليبرالية، قومية، علمانية، يسارية.. إلخ) التى تبرقعت بها، فإن الأمر لم يختلف حين أصبحت أيديولوجيا الإسلام السياسى هى البرقع الذى التف على رأس الدولة فى مصر فى أعقاب ثورتها. وإذن فإن وحدة الثقافة وتماثل الآليات التى تشتغل بها عند جميع المنضوين تحت مظلتها، لابد أن تؤدى إلى تماثل ما تنتجه فى الجوهر. لكن التماثل الجوهرى لما تنتجه الثقافة لا يلغى أن تتباين سماته الشكلية، على النحو الذى يبدو معه الاستبداد مثلا ناعما حينا، وفظا غليظا فى حين آخر. ويرجع هذا التباين كما يشير الكاتب إلى تباين المضمون الثقافى الذى يحدد شكل هذا المنتج فى لحظة ما عنه فى لحظة أخرى. فإنه إذا كان انتماء المضمون إلى السياق الحديث سوف يفرض عليه أن يزخرف نفسه بمفردات الديمقراطية والدستور والبرلمان وحكم القانون وغيرها. وعلى النحو الذى يجعل ما ينتجه خطاب الثقافة المهيمن من الاستبداد ناعما ورقيقا، فإن انتماء المضمون إلى اللحظة ما قبل الحداثية بما تفيض به من مفردات أحكام الشريعة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والإجماع والبيعة وغيرها، سوف يجعل الاستبداد غليظا فظا لا يختفى. وهكذا فإنه إذا كان الجذر الأعمق للاستبداد والعنف يكمن فى قلب الثقافة، وخطابها المهيمن بالذات، فإنه يلزم التمييز فى الثقافة وخطابها بين نظام يقوم ثابتا فى العمق، رغم تحولات المضمون وتبدلاته على سطحها. وفى حين يتعلق النظام بطريقة التفكير وآليات إنتاج المعرفة المهيمنة داخل الثقافة، فإن المضمون يتعلق فى المقابل بالأيديولوجيات المتعددة التى يجرى تداولها على السطح بحسب هذه الطريقة فى التفكير. وهنا يلزم التنويه كما يؤكد الكاتب بأن ما ظهر من عجز الأيديولوجيات الحديثة المتبدلة على السطح فى الواقع العربى عن إخراجه من أزمة جموده وتقليديته، إنما يرتبط بخضوعها لهيمنة نظام الثقافة الذى ينتجها كنماذج لابد من فرضها من الأعلى على نحو إكراهى، وليس كمجرد تجارب مشروطة بسياقات تاريخية ومعرفية لا فعالية لها خارجها.
ينتقل بنا الكاتب الى تلك الالتباسات فى ظاهرة الإسلام السياسى متخذا جماعة الإخوان نموذجا، حيث يقدم من خلالها مواقف هذا التيار من الحداثة من خلال استقصاء السياق المعرفى والفكرى الذى تبلور فيه خطاب هذه الجماعة بوجه الخصوص وتيار الإسلام السياسى بصفة عامة. حيث يقوم مفهوم الالتباس عند جماعة الإخوان كممثل لتيار الإسلام السياسى فى رؤية على مبروك على السعى إلى التسكين الطوعى أو الإكراهى لتراكيب متباينة، على نحو يقوم فيه الواحد منها إلى جوار الآخر، رغم انتماء كل واحد منها الى مجال معرفى وتاريخى وحضارى أو حتى وظيفى، مغاير لذلك الذى ينتمى إليه الآخر، مع تصوير الواحد من هذه التراكيب المصطنعة على أنه يمثل وحدة متجانسة لا انقسام فيها، وذلك عبر إخفاء أحد أو حتى بعض الجوانب المكونة لها.. وذلك مثل أن يأتى حاكم مثلا ويصور للناس ان غاية دولته هى ضمان خلاصهم فى الآخرة، ليضمن سكوتهم عن وضعهم البائس فى الدنيا.. وهنا يلزم التأكيد كما يقول على مبروك على أن الكثير من ضروب الالتباس غالبا ما تكون رغم تخفيها متعمدة، حيث يسعى بها صانعوها إلى تثبيت الوعى المشوه والمغلوط أو المنقوص حول أيديولوجيا بعينها لترسيخ هيمنتها السياسية.
ثم ينتقل علي مبروك إلى جزء آخر وهم فى كتابه وهو العنف الحدث والخطاب ويؤكد على احتياجنا إلى مجموعة من المقدمات لتناول الموضوع وقد حددها هنا بثلاث مقدمات الأولى وتتحدث عن سطوة الأيديولوجيا على نخبة أهل مصر والثانية فى معنى الحدث على العموم والثالثة عن الخطاب وتباين مضمون القول داخله ثم يعرج بنا الكاتب لتحليل خطاب تديين السياسة حيث يكشف تاريخ الثورات عن أنها تندلع من أجل الدخول بمجتمعاتها إلى آفاق جديدة. ومن هنا فقد كان الظن أن ثورات الربيع العربى سوف تفتح الباب أمام مجتمعاتها لدخول عصر الحداثة العقلية والسياسية والاجتماعية ولكن العرب قد أرادوا لثوراتهم أن تكون سبيلهم إلى النكوص إلى العصور الوسطى. وغنى عن البيان كما يؤكد الكاتب أن الصعود الملحوظ لخطاب تديين السياسة قد أعطى دفعة معنوية هائلة لكل الفيالق المنضوية تحت راياته التى بدأت ترفرف خفاقة، وذلك على الرغم من كل ما يقوم بين فصائلها من تباينات تطال التصور ومنهج العمل. وهكذا فقد اندفع الجميع يعملون على تحقيق الغاية القصوى للخطاب بطرائق فى الاشتغال تتراوح بين التطرف والاعتدال. وهنا يلزم التنويه بأنه إذا كان التطرف والاعتدال هما محض طريقتين فى الاشتغال يسع لهما الخطاب، فإن ذلك يعنى أنهما من قبيل العارض الذى لا يؤثر فى حضور المشتغلين بهما معا تحت مظلة ذات الخطاب.