أ.د عبد الباسط سلامة هيكل، كاتب ومفكر وأكاديمي مصري، يعمل أستاذًا في جامعة الأزهر بالقاهرة، متخصص في علوم العربية وآدابها، وتحليل بنية الخطاب الديني، نشر ١٣ كتابًا وشارك فى ٦ كتب، من أهمها: كتاب «باب الله الخطاب الدينى بين شقى الرحى»، و«الحب والحقد المقدس» و«المسكوت عنه من مقالات تجديد الخطاب الديني»، «إصلاحيون فى محراب الأزهر»، «هكذا تكلم الإمام محمد عبده»، و«مسيرة فكر نصر حامد أبو زيد وطه عبد الرحمن وعبدالجواد ياسين تناقض أم تكامل؟»، و«التطرف فى فكر الجماعات الإسلامية نحو مقاربات تفسيرية»، «مصادر الإسلامويين: جذور الصناعة الحركية، و«التأويليات والفكر العربي». عمل أستاذًا بجامعة سرى بكاوان للتربية الدينية بسلطنة بروناي دار السلام، وباحثًا زائرًا لجامعة إنديانا بالولايات المتحدة الأمريكية.
حاصل على جائزة الدعوة والفكر الإسلامي من مؤسسة الفنجرى ٢٠١٤م، ورئيس مجلس أمناء مؤسسة نور مصر للعلوم والفنون. ولأهمية د. عبد الباسط هيكل، وما يطرحه فى مجال التنوير والبحث العلمى، كان لـ«البوابة» معه هذا الحوار..
القراءة الواعية للتراث ضرورة معرفية للتغيير والتجديد والتطوير.. ونصر حامد أبو زيد امتداد لمدرسة الأمناء التى أسسها الشيخ أمين الخولى
■ رفاعة الطهطاوى ومحمد عبده وحسن العطار وغيرهم من علماء الأزهر فى القرن الماضى غرسوا بذور تنويرية، فلماذا لم تُؤت ثمارها؟ وما هى معوقات التنوير فى مصر من وجهة نظركم؟
- إحباط المشاريع الإصلاحية سببه فى المقام الأول معادة نمط التفكير المنتج للأفكار الإصلاحية وهو التفكير النقدي، جامعة أكسفورد إحدى أهم الجامعات العالمية نشأت بعد الأزهر فلماذا تقدمت وتقدّم مجتمعها وأحدثت تنويرا ولم ننجح نحن، مجتمعا وجامعات؟.. السبب أنّه بالقدر الذى شجّعت أكسفورد مبكرا محاولات النقد، ومحاكمة أنساق المجتمع الثقافية، والدفع نحو المزيد من التفكير العلمى والعقلانية والإبداع والتفاعل مع متطلبات الواقع بما يُحدث حالة من التطوير والتغيير المستمر، أحبطت تلك المحاولات فى الأزهر قديما.
وذلك مثلما حدث مع أول دراسة نقدية لنظام التعليم الأزهرى للشيخ محمد الأحمدى الظواهرى فى كتابه: «العلم والعلماء ونظام التعليم» سنة ١٩٠٧م، والذى دعا فيه إلى إصلاح الأزهر، وكان ينحو فى دعوته منحى شيخه محمد عبده، فأغضب الكتاب الخديوى عباس حلمى الثانى، وشيخ الجامع الأزهر الشيخ الشربينى، وأثار ضجة كبيرة.
ومثلما حدث مع الشيخ عبدالمتعال الصعيدى فى محنته الأولى عندما نشر كتابه: «نقد نظام التعليم الحديث فى الأزهر» سنة ١٣٤٢هـ - ١٩٢٤م، منتقدا نظام العالمية الجديد (الإجازة العالية) لما فيه من تكرار لسلبيات النظام القديم من إهمال التخصص فى العلوم، واقتصار كتبه على متون غامضة معقّدة تدور حولها الحواشى والشروح، واعتماده على طريقة تقليدية تلقينية فى التدريس، لا تعنى بتربية ملكة الفهم والنقد، وتفتقد التدرّج، فتأخذ المبتدئين بما تأخذ به المنتهين، داعيا إلى تعليم اللغات، وإرسال بعثات إلى أوروبا، وإنشاء نادٍ ومجلةٍ للأزهر والمعاهد الدينية، وإنشاء مجمع علمى ولجنة تأليف، ومطبعة، فقامت الدنيا، ولم تقعد وأُحيل للتحقيق الذى أوصى بعزله من المعاهد الدينية إلا أن العقوبة خُففت إلى دون ذلك.
وفى سنة ١٩٣٧ كانت محنة الشيخ الصعيدى الثانية عندما نشر عدة مقالات فى جريدة السياسة الأسبوعية يدعو فيها إلى تطوير فقه الحدود، فاتّهم بالدعوة إلى هدم الحدود، وشُكّلت لجنة للتحقيق معه انتهت إلى صدور قرار بحرمان الشيخ عبدالمتعال الصعيدى من الترقية لمدة خمس سنوات، ونقله إلى القسم العام بطنطا.
من ناحية أخرى، احتفظت أوكسفورد عبر تاريخها بمسافات بعيدة تفصلها عن تقلبات السلطة السياسية بينما عجز الأزهر عن قطع الحبل السرى الرابط بينه وبين السلطة السياسية، فمن رحم المشروع السياسى وبتوجيهٍ منه وُلد إصلاح الفكر الدينى وتطوير التعليم الأزهرى، مما جعله تابعا له، ومتأثرا به، بل ومغضوبا عليه أحيانا، إذ لا تخلو العلاقة بين الإصلاحى والسياسى فى تجاربنا الحديثة من وقوع تعارض يُؤدى إلى التضحية بالإصلاحى بل ومعاقبته.
فبعد جهود الشيخ الأزهري رفاعة الطهطاوي فى تأسيس المدارس وإدخال العلوم الحديثة وإتاحة الفرصة لتعليم المرأة فى عهد محمد على، نُفى رفاعة الطهطاوى إلى السودان، وأُوقف مشروعه فى عهد الخديوى «عباس الأول» فى ٤ ديسمبر ١٨٤٨م، وبعد موت «عباس الأول» فى مؤامرة من مؤامرات القصور ١٦ يوليو ١٨٥٤م، وتولّى الخديوى «سعيد باشا» حكم مصر يأمر بعودة الطهطاوى من منفاه، ويُسند إليه نظارات مدارس: الحربية والهندسة ومصلحة الأبنية، ومشروع طبع كتب التراث فى مطبعة بولاق، لكن فجأة على عادة الشرق يعزل الخديوى رفاعة الطهطاوى من العمل عام ١٨٦١م، ويبقى دون عمل رسمى إلى أن مات الخديوى سعيد. وفى محفل تتويج الخديوى توفيق على عرش مصر يُقدّم الخديوى السيد جمال الدين الأفغانى إلى المصريين قائلا: «أنت موضع أملى فى مصر أيها السيد»، وبعد بضعة شهور يأمر الخديوى بترحيل «أمله» عن مصر فى ٢٤ أغسطس ١٢٣٦هـ - ١٨٧٩م، وتحديد إقامة تلميذه الشيخ محمد عبده فى قريته، وبعد عامٍ من الإقامة الجبرية يعفو الخديوى عن الشيخ محمد عبده، ويُسند إليه رئاسة تحرير جريدة الوقائع المصرية، لكن سُرعان ما غضب عليه الخديوى مرة ثانية وأصدر أمرا بنفيه خارج مصر لمشاركته فى ثورة عرابى ١٨٨١، وبعد ست سنوات من النّفى يعفو الخديوى عن الشيخ شريطة ألا يعمل بوظائف التعليم.
يرث عباس حلمى الثانى حكم مصر، ويُقرّب الشيخ محمد عبده، ويُسند إليه وظيفة أول مفتى للديار المصرية، وعضوية مجلس إدارة إصلاح الأزهر، لكن لا تمضى سوى بضع سنوات ويغضب الخديوى على الشيخ؛ لوقوفه منه موقف الندّ للند، وتصديه لمساعى الخديوى فى الاستحواذ على الأوقاف، ويُؤلب عليه الجامدين من علماء الأزهر، وزاد الطين بلّة فتوى الشيخ فى هذا التوقيت بجواز الأكل من طعام غير المسلمين والتزيّ بزيهم (البدلة)، واتّهم الشيخ فى دينه حتى مات الشيخ حزنا سنة ١٣٢٣ هـ - منتصف يوليو ١٩٠٥ م.
وفى عهد الملك أحمد فؤاد الأول تُسند مشيخة الأزهر إلى الشيخ محمد مصطفى المراغى الذى لم ينسَ قول الإمام محمد عبده للخديوى عباس حلمى الثانى: «إن إصلاح الأزهر أعظم خدمة للإسلام، وإصلاحه إصلاح لجميع المسلمين» فيُشكّل لجنة برئاسته لدراسة سُبل إصلاح الأزهر، منتهيا إلى ما عُرف تاريخا بمذكرة المراغى لإصلاح الأزهر التى أثارت سخط الملك والجامدين من الأزهريين، وزاد الأمر سوءا فتوى الشيخ بجواز ترجمة معاني القرآن الكريم، وهذا ما رأى فيه الأزهريون بابا لتحريف القرآن الكريم.
واضّطر الشيخ إلى تقديم استقالته فى جمادى الأول ١٣٤٨هـ ٢ أكتوبر ١٩٢٩م، والابتعاد عن الأزهر قرابة خمس سنوات، حتى ثار طلاب الأزهر مطالبين بعودة الشيخ «المراغي» هذه المرة، ليس من أجل مذهبه الإصلاحى بل لأجل قوته فى الدفاع عن حقوقهم، فلم يعد خريجو الأزهر وحدهم من يعمل بوظائف القضاء والتعليم، فبات ينافسهم بقوة خريجو مدارس القضاء الشرعي ودار العلوم سيما أنّهم يجمعون بين العلوم القديمة والحديثة، وهذا ما دفع الأزهريين إلى قبول إجراء الشيخ المراغي ومن قبله الشيخ الأحمدى الظواهرى إصلاحات محدودة، منها إدخال بعض العلوم الحديثة إلى الأزهر بعد عقود من الجمود والتقليد والرفض لمحاولات الشيخ محمد عبده.
وفى عهد الرئيس جمال عبد الناصر ومشيخة الإمام محمود شلتوت للأزهر يصدر قانون تطوير الأزهر عام ١٩٦١، متضمنا حزمة من الإصلاحات التى قبلها الأزهريون على مضض وارتياب، فيُعاد هيكلة الكليات الشرعية، ولأول مرّة تُنشئ كليات عملية، ومعهد للطلاب الوافدين، وتُدرس اللغات الأجنبية ضمن برامج التعليم، ويُسمح للفتيات بالالتحاق بالأزهر، لكن كما منح القانون للأزهر سلب منه، فنُقلت صلاحيات شيخ الأزهر إلى وزير خاص بشئون الأزهر مما دفع بالشيخ محمود شلتوت إلى تقديم استقالته.
هكذا جاء تطوير الأزهر متأخرا عن أوكسفورد قرابة سبعمائة عام، وشأن كل محاولة إصلاحية تأتى من أعلى تمسّ الحجر وتخطئ الإنسان، تُغيّر فى الشكل واللوائح لكنها قد لا تنجح فى إقناع العقول بضرورة استكمال مسار التغيير، فالمشروع السياسى للخديوى ثم الملك ثم الرئيس هو ما دفع الأزهريين نحو التغيير، وليس قناعتهم بالرؤية الإصلاحية التى طرحها إصلاحيون أمثال الطهطاوى أو عبده أو شلتوت، وفرق كبير بين أن يكون الإصلاح جوهريا حقيقيا نابعا من حيوية وتفاعل الأزهر مع أفكار التراث المتنوعة ووليد مشكلات الواقع وأسئلة الحاضر ومنفتحا ومتشابكا مع الحضارة الحديثة، وبين أن يكون إصلاح الفكر الدينى لتحقيق غايات سياسية مباشرة يصيبها التغيّر أو التراجع أو الفتور.
لا تختلف تجربة الشيخ شلتوت مع الرئيس عبد الناصر عن تجربة الشيخ رفاعة الطهطاوى مع الخديوى محمد على باشا وأبنائه، ولا عن تجربة الإمام محمد عبده مع الخديوى توفيق وعباس حلمى الثانى، ولا عن تجربة المراغى مع الملك فؤاد وفاروق، كلٌّ منها يُمثّل حلقة من حلقات التداخل بين المشروع السياسى ومسار إصلاح الفكر الدينى، الذى من شأنه أن يُضعف المسار الإصلاحى.
فرغم أن الإصلاح كفاعلية فكرية نوع من ممارسة السياسة بآليات الفكر، والممارسة السياسية نوع من ممارسة الفكر بآليات السياسة إلا أنّ بينهما اختلاف نوعى من حيث الآليات والغايات، ففى الوقت الذى تنشغل الممارسة السياسية بالهموم الآنية للسلطة وتسعى نحو اليومى والمتغير والمباشر فى خضم انشغالها باتخاذ القرارات، ينشغل المفكر الإصلاحى بتحليل وتفسير ظواهر أكثر عُمقا وأبعد مدى، ويسعى نحو الجوهرى والثابت والحقيقى الذى يقترب من حدود العلم.
ارتباط إصلاح الفكر الدينى بالمشروع السياسى للسلطة يُدخل الإصلاحيين فى دائرة البحث الدائم عن مبررات دينية للمواقف السياسية، فالسلطة تُراهن تارةً على مؤسسات الخطاب الدينى الرسمى، وتُراهن تارةً أخرى على الخطابات الدينية غير الرسمية، فراهن الملك فاروق فى بعض صراعاته مع الوفد على جماعة الإخوان المسلمين فى ظلّ ضعف وهامشية تأثير أشكال العمل الإسلامى التقليدى الأزهر والطّرق الصوفية وأنصار السنة المحمدية.
وشهدت الحقبة الناصرية فى بدايتها تقاربًا مع «الإخوان المسلمين» ثم اختلافا ومواجهة لخطابهم بخطاب دينى رسمى أزهرى، ثم عادت وتصالحت الحقبة الساداتية مع الجماعات، فانطلقت من الجامعات المصرية الجماعة الإسلامية التى خرج منها التيارات السلفية والتأسيس الثانى لجماعة الإخوان المسلمين وعشرات الجماعات الجهادية، مستمدة تلك الجماعات زخمها من توحدها المزعوم مع دعوة الإسلام، وسعيها المستمر لاستعادة الأصل الديني الغائب - من منظورها - الخلافة الإسلامية.
وفى ظل تلك السجالات المتكررة يتراجع التجديد والإصلاح الذى يتطلب حيويّة فكرية، لا تنبع من المكانة الروحية لمؤسسة أو مدينة، ففى فترة ازدهار الحضارة الإسلامية نهضت مدن وليدة مثل البصرة والكوفة، ولم تنهض مدن ذات مكانة روحية مثل مكة والمدينة. فالتجديد والإصلاح يأتى من تشجيع التفكير الإبداعي الحرّ والتواصل النقدى الخلاق للاستفادة من آليات إنتاج المعرفة فى مجالات الدراسات الإنسانية، أخيرا سيظل العقل الإصلاحى، رغم ما يُلقى فى طريقه من عراقيل، وما يتعرض له من اغتيالات معنوية، يُواجه الاستقطاب الأيديولوجي والتّعصب والشّحن العاطفى بمزيد من العقلانية والحوار والنّقاش، ويتصدى لدعوات الكراهية بالدعوة إلى التسامح والتعايش.
■ تعد معركة نصر حامد أبوزيد آخر المعارك الفكرية الكبرى فى مصر.. فما رأيكم فى مشروع الدكتور أبوزيد التجديدي؟ وهل من سبيل إلى تطويره والاهتمام به؟ وما هى معوقات ذلك؟
- مشروع نصر حامد أبو زيد هو امتداد لخطاب الإصلاح فى الفكر العربى (مشروع النهضة) بكل طموحاته وإنجازاته، وبكل انكساراته، ذلك الخطاب الذى تمتد جذوره فى التراث إلى الإنجازات العقلانية والنقدية عند الاعتزالية والرشدية، التى حاول نصر سؤالها من جديد فى سياق متصل مع نتاج خطاب النهضة عند رفاعة الطهطاوى ومحمد عبده وطه حسين وما تطوّر عنه من ضرورة إنتاج وعى علمى بالتراث عند الشيخ أمين الخولى الذى يُشكّل نصر امتدادا له على مستوى طرح الأسئلة، وعلى مستوى الإجراءات التحليلية، لكنه امتداد لا يُعيد ولا يُكرّر، بل يحمل السؤال إلى مدى أبعد، ويُطور المنهج فى شكل إجراءات أعمق.. فنصر حامد أبو زيد هو امتداد لمدرسة الأمناء التى أسسها الشيخ أمين الخولى وأستطيع أن أقول أنه التلميذ الوفى للشيخ أمين الخولى ومنهجه فى دراسة القرآن الكريم.
فى مقابل القراءة المرددة التى تُسيطر على واقعنا الفكرى المعاصر وتسعى لإعادة إنتاج الماضى باسم الأصالة، وصياغة الواقع الاجتماعي؛ ليتلاءم مع المعنى الظاهرى الأحادي الذى اختارته القراءة المرددة من التراث، صكّ نصر مصطلح «القراءة الواعية» للتراث أو ما يُمكن أن نُطلق عليه القراءة الحيّة لما تتسم به من حركة لا تهدأ، فالباحث معها فى حركة بندولية بين الماضى والحاضر، ليس لإعادة تأويل التراث فحسب بل لمعرفة الذات، والبحث فى جذور الإخفاق الحضارى الذى نعيشه، واكتشاف أسباب فشل الحداثة العربية، وانحصارها فى كونها قشرة بلا جوهر حقيقى يقوى على الصمود والنمو.
فالقراءة الواعية للتراث ضرورة معرفية للتغيير والتجديد والتطوير؛ لأنها سبيلنا إلى تحقيق عملية «التواصل الخلّاق» بين الماضى بتراثه المعرفى والحاضر بمنهجيته الحداثية، قراءة تكسر أسوار «التبعية» السياسية والفكرية التامة للغرب باسم «المعاصرة»، كما أنها لا ترفض للتراث وتدعو إلى القطيعة المعرفية معه، وفى الوقت نفسه ليست من محاولات التلفيق الإصلاحى الذى يأخذ طرفا من التراث وطرفا من الحداثة دون تحليل تاريخى نقدى لكليهما.
ويُعد البحث عن آلياتٍ لقراءة التراث قراءةً علمية واعية بلا توجهات أيديولوجية والاستفادة من آليات القراءة التى يطرحها التراث من ذاته أو طُرحت من خارجه الإشكاليةَ الجوهرية «التأسيسية» التى قامت عليها مسيرة نصر البحثية التى تمثل «التأويلية» عمودها وأوتادها، وإن انطلقت تأويلية نصر من الهرمينوطيقا الغربية عند ديلثى وهيتس إلا أنها انتهت إلى موضع غير الذى بدأت منه، فلم تقف عند مجموعة القواعد والمعايير النظرية التى يجب على المؤول أن يتبعها لفهم النصوص الدينيية، بل اتسع مفهومها تبعا لتنوع تطبيقات التأويل فى الفكر الحديث؛ لتشمل مختلف العلوم الإنسانية من التاريخ وعلم الاجتماع وعلم الأنثروبولوجيا وعلم الجمال والنقد الأدبى والفولكلور وغيرها.. فإشكاليات التأويل تتحدد فى طبيعة الأسئلة التى تصُغها القراءة انطلاقا من الموقف الحاضر وجوديا ومعرفيا.
فـ"التأويلية» باختصار فعل «القراءة"- أي قراءة لأي ظاهرة تاريخية أو فلسفية أو أدبية أو سياسية أو اقتصادية - بوصفها بناء معقدًا من العلاقات التى تتضمن عناصر «الذات» و«الموضوع» و«السياق» و«نسق العلامات» و«الرسالة»، وهى عناصر تتفاعل مع بعضها تفاعلا يتسم بالتوتر الذى قد يُفضى أحيانا إلى «بروز» بعضها على حساب البعض، ودون أن يُفضى إلى إخفائها إخفاء كاملا، فنجد بعض نظريات «التأويلية» تُبالغ أحيانا فى التركيز على فعالية «الذات» القارئة إلى درجة زعم «موت المؤلف» و«الوجود الوهمى للنص» لحساب القارئ أو المؤول».
وقد بدأت تأويلية نصر بالتركيز على فعالية المؤوِّل/ الذات القارئة فى التراث الإسلامى وعلاقته بالنص وجدله معه، فجاء بَاكورة نتاجه العلمى دراستان حول قطبى الفكر والتأويل فى التراث الإسلامى المعتزلة والمتصوفة، فتناولَ تأويل النص القرآنى على أسس عقلية فى رسالته لنيل درجة الماجستير «الاتجاه العقلى فى التفسير دراسة فى قضية المجاز فى القرآن عند المعتزلة» معتمدا على تراث القاضى المعتزلى «عبدالجبار الأسد آبادي»، ونُشرت طبعتها الأولى سنة ١٩٨٢، وتناول تأويل النص القرآنى على أسس ذوقية حدسية عند المتصوفة فى رسالته لنيل درجة الدكتوراه «فلسفة التأويل: دراسة فى تأويل القرآن عند محيى الدين بن عربي»، ونُشرت طبعتها الأولى عن دار التنوير ١٩٨٣.
ولم يكن محرّك نصر لدراسة تأويلية المعتزلة والمتصوفة محاولته إيجاد وحدة عضوية بين المتصوفة والمعتزلة، تلك المحاولة التى باءت بالفشل والعجز على حد وصف الدكتور حسن حنفى. بل بدافع من حركية فكرية لا تهدأ، فاختياراته العلمية يُحرّكها سؤال المنهج، فنصر كباحث - كما كان يحب أن يُوصف - فى حركة مستمرة على مستوى المنهج بين الماضى والحاضر بين الحداثة والتراث.
فمنهج نصر حركة دائبة بين قراءة مفاهيم الدراسات الحديثة من الهرمنيوطيقا والسيميولوجيا وتحليل السرد والأسلوبية والإفادة منها، وبين القراءة النقدية للإنجازات التراثية فى مجال علوم اللغة والبلاغة والنقد بمعناه العام.. والناتج عن تلك القراءات فى مجموعها سؤال دائم متواصل متى توقف ظنًا النضج فقد تجمّد المنهج الذى هو فى حقيقته ناتج حركة التفاعل العميقة جدا والخصبة بين سؤال الباحث وموضوع البحث.
فلازم نصر فى مسيرته البحثية حالة من المراجعة الدائمة لسؤال المنهج.. معتمدا على إثارة الإشكاليات البحثية، وطرح التساؤلات محفِّزا القارئ على البحث معه عن إجابات واقتراحات وحلول من شأنها هى الأخرى أن تُثير إشكاليات وتطرح تساؤلات جديدة ممّا يجعله فى حالة سؤال مستمر ومراجعة دائمة، وتلك الآلية قادرة دائما على تصحيح الأخطاء، والتقدم نحو مزيد من الاجتهاد. هكذا تصبح القراءة فعلا مستمرا لا يتوقف يبدأ من الحاضر والراهن وينطلق إلى الماضى والتراث ثم يرتدّ إلى الحاضر مرة أخرى فى حركة لا تهدأ، ولا يقر لها قرار، إنها الحركة التى تُؤكّد الوجود والمعرفة فى نفس الوقت.
انتقل نصر بعد رسالتى التخصص (الماجستير)، والعالمية (الدكتوراه) من جانب «المؤوِّل» إلى جانب «النص» للتفكير من خلال أسئلة جديدة تشكّلت حول طبيعة «النص» ودوره وفعاليته، «فالمكانة المسيطرة للنصّ القرآنيّ فى نظامنا الثقافى تجعل كلّ جانب من جوانب التراث أشبه بنمط من أنماط تأويل النص أو تفسيره». «وهذا أمر طبيعى بالنسبة لنصّ يستوعب النصوص السابقة ويطرح نفسه نصا شاملا» فسعى نصر فى تلك المرحلة بكتابه «مفهوم النص دراسة فى علوم القرآن» إلى إعادة قراءة تنظير القدامى فى ميدان علوم القرآن قراءة تحليلية نقدية، ومناقشة مفهوم النص بين مباحث الدراسات اللغوية الحديثة ومباحث علم أصول الفقه؛ لتحديد دلالته ومغزاه.
وقد جنّب الانتقالُ من فعالية المؤّول إلى فعالية النص مشروعَه الفكرى الوقوعَ فى مأزق فلسفة التأويل المعاصرة حيث بُولغ فى دور القارئ والمؤول إلى حد إهدار كينونة النص والتضحية به لحساب فعالية التأويل، وبات النشاط التأويلى والتفسيرى مجرد جذب للنص إلى أفق القارئ والمؤول.
وبحيوية موقفه المعرفى تحرّكت منهجية نصر مرة ثالثة من تحليل «النص» إلى تحليل «الخطاب»، فركّز جهوده فى الفترة الممتدة من ١٩٩٣ إلى ١٩٩٥ فى البحث عن منهج جديد يُمكن أن يُعَمِّق علم «تحليل الخطاب» نظريا وتطبيقيا، فركّز على بُعد علاقات التناص البنيوى والأسلوبى والسردى بين الخطابات مستفيدا من المكتسبات المعرفية المعاصرة.
وينطلق هذا المنهج من حقيقة أن قراءة «النصّ» الدينى وقراءة «التراث» تتجلى فى شكل «خطابات» تستوجب تحليل بنيتها أسلوبيا وسرديًا من أجل الكشف عن الدلالات الصريحة والمضمرة فيها، مع الأخذ فى الاعتبار «السياق الخارجي» الذى يُمثّل جزءًا خفيا فى بنية الخطاب، ولا يتوقف منهج تحليل الخطاب عند مستوى اكتشاف الدلالة اللغوية أو السردية والسياقية فحسب.
فبعض الخطابات تُوظف دلالات سميولوجية يحتاج التحليل والكشف عن بنيتها إلى الإفادة من السميولوجيا والهرمنيوطيقا، بالإضافة إلى الاعتماد على «الألسنية» و«الأسلوبية» و«علم السرد»، إفادة لا تقوم على توظيف حرفى لمقولات تلك العلوم وقواعدها المنهجية، كما لا تكتفى بها فينطلق نصر من قراءة معاصرة للإنجازات التراثية فى علوم اللغة والبلاغة، خاصة تلك الإنجازات ذات الطابع المتقدم فى النظم عند الشيخ عبد القاهر والمجاز عند المعتزلة والمتصوفة التى تحمل لنا بذورا تسمح بتأسيس إنجازات العلوم الحديثة تأسيسا ثقافيا عربيا.
عاش نصر مهموما بعلاقة الحاضر بالماضى والمستقبل، تلك العلاقة التى تُمثّل إحدى الهموم الفلسفية فى الفكر الإنسانى المعاصر عامة، وتمثّل هما مضاعفا فى واقعنا العربى بصفة خاصة؛ لذا تُمثّل قراءة التراث فى ضوء مشكلات الواقع الراهن إحدى أهم الإشكاليات المَاثلة فى أفق همومنا الثقافية والفكرية لأمد زمنى يصعب التّكهن بوصوله إلى محطة معرفية هادئة خالية من صخب النزاع الإيديولوجي والصراع الاجتماعى والاقتصادى والسياسى المحتدم.
وقد ركّز مشروع نصر الفكرى على أهم الإشكاليات التى تمنع إنجاز وعى علمى بالتراث وأهمها: ركود الواقع العربى قديما وحديثا، وإشكالية تعقّد علاقتنا بالآخر فى العصر الحديث الذى نظر إلينا من منظور دينى، ونظرنا إليه من المنظور نفسه.
وبهذا الطرح تظهر إحدى الفوارق الجوهرية فى قراءة التراث بين نصر من جهة ومحمد أركون، ومحمد عابد الجابرى من جهة أخرى، فأبو زيد نظر إلى التراث فى إطار إشكالية تعقد علاقتنا مع الآخر على خلاف الجابرى وأركون اللذين ركّزا على تشريح بنية العقل العربي/الإسلامي بوصفه الأداة المنتجة لأفكار التراث. ورغم ما حملته تلك المشاريع من صدى واسع فى الساحة الثقافية إلا أن نصر اختلف معها فى تركيزها على العقل الإسلامي/ العربى، ورأى أن الحديث عن عقل إسلامى خارج محددات الجغرافيا والتاريخ من جهة، وبمعزل عن الشروط الاجتماعية/الثقافية للمجتمعات الإسلامية بمرجعياتها التاريخية المختلفة من جهة أخرى حديث لا يستند إلى أسس واقعية، وأنه ينبغى أن ننظر لعلاقتنا بالتراث فى سياق العلاقة الملتبسة بين العالم الإسلامى والغرب، ففى دراسة تلك العلاقة الملتبسة يكمن سر الفزع العام من إخضاع تراثنا للدراسة النقدية العلمية.