لا يمكن فصل رموز التجديد الدينى عن الرموز الأدبية والعلمية والفنية وجميع المجالات الأخرى.إطلاق حرية البحث والابداع ونظام تعليمى متطور كفيل بتحقيق نهضة فكرية وحضارية.
هل يمكن تجديد الخطاب الدينى بمعزل عن نقد الخطاب الثقافي؟، وهل يسهل تغيير الخطابين المترهلين فى ظل نظام تعليمى آسن ينتصر للنقل والحفظ ويعادى إعمال العقل والتفكير العلمى العقلاني؟. السؤال الأهم: ما جدوى التوقف أمام هذه السياقات مع إهمال التأمل فى الحياة السياسية والآليات التى تحكمها؟
قطاع لا يُستهان به ممن يقولون عن أنفسهم إنهم تنويريون، وهم فى أغلب الظن ليسوا كذلك، يتوهمون ويوهمون غيرهم أن المعارك الوهمية التى يخوضونها ضد رجال الدين المتشددين المتنطعين البعيدين عن روح العصر، وهى معارك قد تطول الدين نفسه، هى المدخل الوحيد الصحيح لصناعة التقدم المنشود والنهضة المأمولة، متجاهلين عن عمد أن المنظومة واحدة لا تقبل التجزئة، وأن الأخطاء والخطايا الكارثية فى ساحة الثقافة لا تقل فى آثارها المدمرة عن الحصاد المر للمتشنجين من السلفيين ودعاة الدولة الدينية. بعض هؤلاء «المثقفين»، المستنيرين التنويريين، لا يطيقون رأيا مخالفا، ويزعمون احتكار اليقين والحقيقة المطلقة، ويتحولون بدورهم إلى كهنة لا يختلفون فى شيء جوهرى عن أولئك الذين يتحصنون بالجهل والخرافة والقطيعة مع العصر. يسكنون أبراجا عاجية، ويرددون المصطلحات والكلمات الغامضة الملغزة، وينفقون أعمارهم فى البحث العبثى عن قطة سوداء فى غرفة مظلمة.
عبر قرن ونصف القرن تقريبا، منذ هزيمة الثورة العرابية إلى أيامنا هذه، تتكرر ثنائيات شتى تسعى إلى اختزال وتبسيط الأزمة فى الصراع بين الأصالة والمعاصرة، التخلف والتقدم، الليبرالية والاشتراكية، وغير ذلك من المقابلات الميكانيكية المكرورة، ولأن الحوار فى هذه القضايا يدور غالبا خارج السياق الجدلى، تبقى المعالجة مبتسرة سطحية هشة، لا هدف من ورائها إلا الوصول إلى خاتمة توحى بالتشخيص الصحيح للعلة، لكن المرض المزمن يستفحل ساخرا من علاجات أشباه الأطباء هؤلاء.
يستطيع دعاة تجديد الخطاب الدينى أن يتوقفوا أمام عشرات الأسماء، من عبدالرحمن الكواكبى وحسن العطار ورفاعة الطهطاوى ومحمد عبده إلى نصر حامد، مرورا بعلى عبد الرازق وخلف الله وأمين الخولى وأحمد لطفى السيد وأحمد أمين وخالد محمد خالد وشلتوت وعبد المتعال الصعيدى، لكن استيعاب جهود هؤلاء لا يستقيم ما لم تصطف أسماء أخرى إلى جوارهم، من قاسم أمين إلى فرج فودة، وبينهما طه حسين ومحمد حسين هيكل وسلامة موسى وشبلى شميل ومنصور فهمى وإسماعيل مظهر وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وفؤاد زكريا وحسن حنفى، فضلا عن أعلام وعلامات السينما والمسرح والموسيقى والفن التشكيلى. علينا أن نتأمل ونحلل جهود الرواد من صانعى عصر النهضة فى مصر الليبرالية، ثم نتساءل: لماذا تتعثر جهودهم ولا تصل إلى المأمول من إصلاح؟.
لا أمل فى اللحاق بركب العصر فى ظل نظام تعليمى متدهور، وغياب مؤسف لحرية البحث والإبداع، أما عن الإعلام الذى يديره محدودو الأفق من الجهلاء الذين يرضون بالجهل ويرضى الجهل عنهم، فإنه يعمق المأساة ويمهد للمزيد من الكوارث.
تنتصر «البوابة» فى أعدادها الخاصة، التى لا شبيه لها فى الصحافة المصرية المعاصرة، للرؤية الشاملة العميقة الجادة التى تبحث عن جذور التنوير وتعرّف برموزه فى الساحات جميعا، الدينية والثقافية والأدبية والعلمية والفنية والرياضية. الأجيال الجديدة من الشباب لا تعرف الكثير عن تاريخها القريب، ويتعرضون للهجوم والإدانة لأنهم يتخذون المثل والقدوة من لاعبى الكرة ومطربى المهرجانات وممثلى أدوار البلطجة، فهل اُتيحت لهم الفرصة لمعرفة غير هؤلاء؟
هذا هو السؤال، وما تراوده «البوابة» شروع فى الإجابة.