يُعد المفكر الكبير الراحل سلامة موسى أيقونة مبكرة فى تاريخ التجديد والتطوير، شغل حياته بكفاح الرجعية والتقاليد البالية وسيطرة الغيبيات والخرافة على العقل، وأدرك من بداية تعلقه بالمعرفة والثقافة ودخوله لعالم الفكر أنه مُطالب بأن «يأكل المعرفة أكلا»، حسب تعبيره، كى يكون قادرا على خدمة بلاده ومواجهة الاستعمار، وإزالة الوهم وقيود التخلف عن المجتمع المصرى.
فى مذكراته التى حملت عنوان «تربية سلامة موسى»، ألح «موسى» على انشغاله بالتغيير والتطور ومواجهة الرجعية، مقتبسًا من الفيلسوف الإنجليزى هربرت سبنسر مقولة تفيد بأنه «يستطيع أن يعرف المستوى الذهنى لأى إنسان بعد مدة قصيرة من التحدُّث معه. وهو يعنى بهذا أن لكل منا كلمات أو عبارات محورية تتكرر أو يلتفت إليها الذهن كثيرًا، وهى تدل على اهتمامات المتكلِّم أى تدل على ثقافته مادة واتجاهًا. وحين أرجع إلى نفسى أبحث عن الكلمات التى تتكرَّر فى مؤلفاتى ومقالاتى أجد أن أكثرها تكرارًا: التطور، العالمية، حرية المرأة، العلوم، الحضارة الصناعية، الرجعية، المستقبل. أى أنها كلمات تدعو إلى تغييرنا».
واعتز «موسى» بالدور الذى يقوم به المفكر أو العالم تجاه الحياة، وهى مقولة بحسب مذكراته استفادها من الفيلسوف الأيرلندي برناردشو وهى: «إن الرجل الطيب هو الذى يعطى الدنيا أكثر مما يأخذ منها. أى إن الدنيا تجد بعد انقضاء عمره أنها كسبت به ولم تخسر، وأنفقت عليه أقل ممَّا ترك لها. وهذا الذى تركه لها قد يكون حكمة أو قدرة أو علمًا أو اختراعًا أو زيادة فى الثروة أو الخير أو السلام».
فاعلية الثقافة
يشرح «موسى» فى كتابه «ما هى النهضة» أن «الثقافة علوم وفنون وفلسفات وعادات وتقاليد واتجاهات، تكسبنا جميعُها مزاجًا معينًا نتجه به فى سيرتنا ومعاشنا ونؤسس بها مجتمعًا يتفق ومبادئ هذه المعارف ولا يتنافر معها»، لذا فالثقافة لديه تؤدى بشكل مباشر إلى حضارة مادية، فالحضارة التى يستهدفها المجتمع المصرى ويرغب فى عودته إليها والمشاركة فيها بقوة لابد له من ثقافة تؤدى إليها، وهذه الثقافة تحتاج إلى حركة وانقلاب ثقافى مؤثر، موضحًا أن «كل تحرك اجتماعى يحتاج إلى تحرك ثقافى، وليس هناك غير الأمم الزراعية التى تستطيع أن تعيش على ثقافة راكدة لا تتحرك ولا تتباين ولا تتنوع؛ لأن المجتمع المتحرك يحتاج إلى ثقافة متحركة متباينة متنوعة. ومن هنا ضرورة الانقلاب الثقافى لإيجاد انقلاب فى الحضارة».
ولفت «موسى» إلى أن الحضارة العصرية هى حضارة الصناعات والآلات والأخذ بثقافة العلوم العصرية، وليس من المستطاع أن تأخذ أمةٌ بالحضارة العصرية إذا كانت تعيش على ثقافة قديمة لم تستطع فى تاريخها الماضى إلا أن تثمر الحضارة الزراعية فقط؛ لأن كل حضارة تحتاج إلى ثقافة تنشئها ثم تفسرها وتلائمها وتماشيها.
فى خضم طرح ثقافة جديدة فى المجتمع المصرى تتكفل بعودته إلى ركب الإبداع والحضارة، انتقد موسى شعار «عودوا إلى القدماء» واصفا نتيجته بالكارثية، مطالبا الراغبين فى النهوض والتطور بالجرأة فى التفكير، ضاربا المثل بما يفعله هؤلاء، حيث يتساءلون: «هل المعارف الحقة الصادقة تؤخذ من الكتب القديمة أو تؤخذ من الطبيعة؟ فقد كانوا يدرسون الطب مثلًا فى كتب جالينوس وابن سينا، ولكنهم لم يكونوا يعرفون تشريح الجسم البشري». هذه المفارقة وضعت أمام العقل مدى ضحالة القدماء أمام مكتسبات العصر.
التفكير وابتداع الجديد
ألح موسى على ضرورة الانتباه لثقافة العصر، والنظر إلى الدول التى أخذت فى حسبانها تغيرات الواقع والرغبة فى الانطلاق والفرار من التخلف والرجعية، نجده مجددا فى كتابه «أحاديث إلى الشباب» يطالب موسى الشباب بالعمل لصالح استقلاله الفكرى، وعدم الاعتماد على الآخرين. ويطرح أمام الشباب نوعين من الثقافة، يحذر من النوع الأول ويشدد على أهمية النوع الثانى، قائلا إن الشاب فى اختيار غذائه العقلى، يجب ألا يحشو ذهنه بتلك المعارف التى تحفظ، فإنها حشو يتضخم بها الذهن، ولكنه لا ينمو؛ وعليه أن يأخذ بتلك الثقافة التى ينمو بها ذهنه بالتأمل والتفكير والبحث والاستقلال. إن الثقافة نوعان: ثقافة يعتمد فيها على الذاكرة ومعظم الدراسات القديمة تجرى هذا المجرى، حيث يكلف التلميذ أو الطالب الحفظ عن ظهر قلب، ويكاد يعجز لهذا السبب عن الابتكار فى البحث أو الاستقلال فى التفكير؛ إذ هو يتضخم دون أن ينمو. والنوع الثانى يتمثل فى الثقافة العلمية الجديدة التى لا تطالب أحدًا بالاستذكار، وإنما بالتفكير. وهذه الثقافة هى ابتداع جديد ووعى جديد فى الإنسان. أى ثقافة العلم، وهى ثقافة الابتكار والاستقلال، التى دفعت بالإنسان إلى التساؤل، فرفض التسليم بالمعارف القديمة، وجعل يسأل ويبحث ولم ينخدع بما كان يقال بأن الأسلاف كانوا حكماء، وأنهم عرفوا كل شيء، وإنما سلَّم بجهله وجهلهم، ورفض أن يستذكر ويحفظ، وانتهى بحقائق العلم التى غيَّر بها نفسه ومجتمعه، بل هو يغير بها الآن الدنيا بأرضها وبحارها وجبالها.
فى خاتمة كتابه «أحاديث إلى الشباب» حافظ موسى على وضع عبارة أخيرة تشبه الوصية الموجزة، قائلا: «أيها الشاب، تعلَّم علمًا من العلوم، واستقلَّ فى تفكيرك، وزِد بلادك قوة وثراء وخيرًا».
عادة القراءة
شدد موسى على أهمية المداومة على عادة القراءة، لأنها فى نظره تجعل حياة الإنسان أكثر عمقا، وتزيده حيوية ولا ينسى أنه حى، ويبتعد عن التخدير والاستسلام. وفى كتابه «فن الحياة» يوضح مفكرنا أن «القراءة وحدها تجعل الحياة فنية فى الكثير من معانيها؛ إذ هى ترفع القارئ من الاعتبارات المحلية ومن الضروريات المعيشية إلى قيم بشرية سامية، وإلى كماليات وتأنقات ذهنية لا يحصل عليها الأمى أو ذلك القارئ الذى يحيل نفسه إلى أمى لأنه يكره القراءة».
ورغم الصعوبات الجمة فى عصر سلامة موسى، فإنه اعتبر توافر الكتب والمجلات والجرائد من أعظم انتصارات الحضارة العصرية، وذلك بالنسبة له ولعصره، فما باله لو شاهد هذا التطور المرعب الذى شهده العالم فى مجالات نشر الكتب وإتاحتها للجمهور.
يعود موسى إلى فوائد القراءة فيؤكد أنها تمنح العقل نوعا من الشباب والحيوية، قائلا إن أعظم الوسائل للاحتفاظ بشباب الذهن فى الشيخوخة؛ فالشباب الذى تعوَّد قراءة الجريدة والكتاب أيام شبابه، ثم واصل هذه العادة فى كهولته وشيخوخته يحتفظ بالكلمات ماثلة حية فى ذهنه حين تتبلد العواطف فلا تحرِّك الذهن إلى التفكير والاهتمام، بل حين تأخذ خلايا المخ فى التدهور، وتعجز الشرايين الدقيقة المتصلة عن تغذيتها وتنظيفها، ففى هذه الحال يرافق الشيخوخة نسيان للكلمات يؤدى إلى تعطيل للتفكير، ولكن عادة القراءة كل يوم تجعل الكلمات كما قلنا ماثلة، ومتى مَثُلت الكلمات مَثُلت الأفكار، فيبقى الذهن شابًّا حيًّا، وتعود الشيخوخة حافلة بالاهتمامات حتى ولو بلغنا التسعين أو المائة».
أشاد موسى بالبيت الذى يحتوى على الكتب لأنها هى التى ترسخ لممارسة عادة القراءة فتمنح العقل والذهن شبابه، وتمنح المجتمعات القدرة على التطور والتغيير والهروب من قيود التخلف، وأنه بمجرد الوقوف على التراث البشرى العظيم فإن الإنسان يكتسب المزيد من المتع البشرية النبيلة، مشيرا إلى أنه لا «يمكن أن يقارن الثراء والوجاهة والمال وترف المنزل والمعيشة، بالذهن الثرى بالثقافة، المتمرن على التفكير، اليقظ بالوجدان العالمى. وذلك الشاب الذى يهمل تعوُّد الدراسة، ويبخل فى شراء الكتب والمجلات، ويُؤثِر عليها الرياش النفيسة أو اكتناز المال إنما يبخس نفسه التى هى أولى من أى شيء آخر بالإنفاق، بل بالإسراف فى الإنفاق».