الدكتور فؤاد زكريا أحد أعمدة الفكر العربى المعاصر الذين تتلمذوا على يد الفيلسوف المصرى النابه الدكتور زكى نجيب محمود، قدم إنتاجًا فكريًا ومعرفيًا كبيرًا، ويأتى كتابه «التفكير العلمى»، على رأس هرم إنتاجه الغزير. عُرف فؤاد زكريا كواحد من رموز الثقافة المصرية والعربية، طوال حياته التى قضاها داخل مصر، أو تلك التى قضاها فى الخارج. كان فؤاد زكريا مثيرًا للجدل بكتاباته ومُحركًا لأهم القضايا المصيرية، كما خاض العديد من المعارك الثقافية والسياسة، التى قاتل خلالها مُدافعًا عن آرائه وأفكاره حد الصدام.
موقفه من الجماعات الأصولية
عندما شاعت فى السبعينيات من القرن العشرين مقولة «الصحوة الإسلامية» التى تبنّتها الجماعات الإسلامية فى مصر، كان د. فؤاد زكريا من بين القليلين الذين تصدوا لهذه الظاهرة وأفرد لها كتابًا بعنوان «الصحوة الإسلامية فى ميزان العقل» ويرصد فى بداية الكتاب الحقيقة التى يتعمد كثيرون تجاهلها وهى أنّ أمريكا من أكثر المهتمين بظاهرة «الصحوة الإسلامية» والسبب «لأنّ أمريكا هى راعية الاستراتيجية الغربية بأكملها. والحارس الذى يسهر على أمن وسلامة النظام الرأسمالى فى العالم. وهكذا بدأت موجة عارمة من الإهتمام بالإسلام، تبدو أكاديمية فى ظاهرها، ولكن كل دراساتها موجهة إلى معرفة ما يدور في عقول سكان هذه المنطقة حتى لا تحدث مفاجأة فى المستقبل».
ولأنّ د. زكريا يعى خصائص شعبه المصرى ومفردات وجدانه المكتسبة عن ثقافته القومية، فإنه يرى أنّ شعارات الجماعات الإسلامية لم تخدع الأميين المصريين لأنّ «أمثلتنا ونكتنا الشعبية حافلة بالسخرية من أولئك الذين يؤدون فروض الصلاة والصوم والحج ولكنهم يغتالون أموال الناس أو يغشونهم. ومعنى ذلك أنّ القيمة الحقيقية للشعائر إنما تكمن فى تلك القوة المعنوية التى تُمكن الإنسان من مواجهة الظلم والطغيان. والسعى إلى أداء عمل نافع للمجتمع. أما التركيز على شكلية الشعائر دون اكتراث بما تؤدى إليه من مضمون، فهو فى حقيقته تستر على المظالم ومساندة للاستبداد».
وفى نقده للجماعات الإسلامية التى ترى الجمع بين الدين والدنيا ومن ثم بين العقيدة والسياسة، على مبدأ صلاحية النص الدينى لكل زمان ومكان، كتب د. زكريا أنّ هذا المبدأ يولد تناقضًا أساسيًا عند تطبيقه، لأنّ (الدنيا) بطبيعتها متغيرة وأحوال المجتمع والإنسان والسياسة لا تكف عن التطور. وهذه فى نظر أى إنسان لديه الحد الأدنى من الثقافة العصرية بديهية لا تناقش. فكيف يمكن التوفيق بين مبدأ سريان النص على كل زمان ومكان ومبدأ (الإسلام دين ودنيا) إذا كانت (الدنيا) لا تكف عن التغير؟ و«إذا كان النص إلهيًا مقدسًا فإنّ من يُطبقه ويُفسّره إنسان يتصف بكل جوانب الضعف البشرية. وأخطر ما فى الأمر أنّ الإنسان الذى يتصدى لهذا التفسير والتطبيق، يضفى على نفسه قدرًا، يزيد أو ينقص، من تلك القداسة التى تتسم بها النصوص الدينية. ويُقدّم أوامره أو فتاويه بوصفها تعبيرًا عن رأى الدين ذاته، لا عن فهمه للدين، ويصف معارضيه بأنهم أعداء الدين، وليس لأنهم أعداء طريقته الخاصة فى تفسير الدين».. ونظرًا لأنّ الأصوليين يُعطون لأنفسهم قداسة تساوى قداسة النص الدينى، فإنهم يُغلقون عقولهم ويرفضون الحقيقة التى تنص على أنّ «الحكم تجربة بشرية، قد تصيب وقد تخطىء». وحين نعترف منذ البداية بهذا المبدأ، يصبح إمكان تصحيح هذه التجربة قائمًا على الدوام. ولكن الحكم الذى يرتكز على السلطة الدينية - والذى هو على الدوام حكم بشرى- يعطى نفسه سلطة تفوق سلطة البشر- لا يصحح خطأه بسهولة وربما أضفى على نفسه نوعًا من العصمة تمنعه من الاعتراف بأى خطأ، وبالتالى فإنّ أعظم مزايا الديموقراطية - بوصفها تجربة بشرية فى الحكم- تكمن فى نفس تلك الصفة التى يعيبها عليها خصومها من أنصار الحكم المرتكز على سلطة الدين.
ومن مؤلفاته المهمة، فى هذا الصدد، كتابه «الحقيقة والوهم فى الحركة الإسلامية المُعاصرة»، والذى رصد فيه بشكل نقدى الرؤى والممارسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية لحركات الإسلام السياسى، مع حرصه الشديد على التمييز بين الدين فى ذاته وما يحمله من مُثُل ومبادئ سامية، وبين تفسيره الأصولى الذى اختارت حركة الإسلام السياسى تَبنيه دون تفسيرات أخرى فى مجتمع تَغْلُب عليه النَزعة الدينية المُحَافِظة فى كثير من الأحيان والمُتَحفِظة فى أحيان أخرى.
وقفة مع الفلسفة والفلاسفة
يرى الدكتور فؤاد زكريا أن للفلسفة فى العالم كله وليس فى العالم العربى فقط، وضعين: الفلسفة الرسمية، أى مجموعة المفكرين الذين يصنفون أنفسهم فلاسفة بالمعنى التخصصى للكلمة، أو أساتذة الفلسفة وما ينتجه هؤلاء المفكرون ومدى تأثيرهم فى المجتمع، وهناك الفلسفة بالمعنى الضمنى، ليست الفلسفة التخصصية، بل الدور الذى يقوم به الفكر الفلسفى، أو المنهج الفلسفى، فى مجالات كثيرة من الحياة الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية للإنسان المعاصر.
ويُفرّق الدكتور فؤاد زكريا فى حواره المنشور عام ١٩٩٢م بمجلة المشرق، بين هذين الجانبين، بقوله: يجوز لى القول أن الجانب الأول فى انحسار على مستوى العالم كله، فوضع الفلاسفة فى العالم لم يعد كما كان خلال القرن التاسع عشر، لقد كان القرن التاسع عشر غنيا بشخصيات كثيرة، كان لها تأثير قوى جدا، وكانت كلّ شخصية نجما من نجوم المجتمع الذى تعيش فيه حتى لو كان الفيلسوف يعتقد بأنه لا يلقى ما يستحقه من الاهتمام، لأنّ الجميع كانوا يعترفون به بعد موته، ويُصبح مفخرة للبلد الذى عاش فيه، لقد انحسر هذا الدور الآن لكن الجانب الآخر الذى تستطيع أن نسميه التأثير غير المباشر فى الفلسفة- أى تغلغل الأسلوب الفلسفى وطريقة التقليد الفلسفية فى مختلف جوانب الحياة، وهذا الجانب ازداد قوة فى عصرنا.
ونستطيع أن نقول إن هذا الجانب مثل دورًا لا يستهان به فى العالم العربى، لأن الفلسفة تتميز بالقدرة على الرؤية الشاملة، والربط بين الظواهر التى قد لا يجد الإنسان العادى، أو حتى العالم المتخصص فى الميادين الأخرى، روابط أو علاقات بينها. فبهذا المعنى، أنا أعتقد- والحديث لفؤاد زكريا- أن الفلسفة قامت بدور كبير فى العالم، ومن يتأمل، مثلًا، المفكرين الذين يؤثرون فى التيارات الفكرية، فى أوروبا وأمريكا، يجد أن لهم صلة ما بالفلسفة، وأن المنهج الفلسفى كان له دور كبير فى إعطائهم الأدوات التى تمكنهم من تحليل الظواهر بطريقة أكثر تعمقا من غيرها، كما تمكنهم من التركيب بين الظواهر لإيجاد علاقات غير ظاهرة بينها لأول وهلة، وهذا يساعد على فهمنا هذه الظواهر بوجه أفضل من السابق.
الفلسفة فى العالم العربى
أما عن الفلسفة فى العالم العربى، فيرى الدكتور فؤاد زكريا أن هناك مجموعة من الأسماء كان لها دور فلسفى جيد، قائلًا: فى مصر هناك الدكتور زكى نجيب محمود، وفى المغرب محمد عابد الجابرى، وفى سوريا مجموعة كبيرة مثل صادق العظم وغيره. وفى لبنان عدد أكبر فشارل مالك نفسه كان فيلسوفا، ولدينا رضوان السيد ومطاع الصفدى وآخرون. هذا يدل على وجود شخصيات كثيرة فى العالم العربى لها علاقة مباشرة بالفلسفة. ونضيف إلى من ذكرت حسن حنفى ومراد وهبة وإبراهيم مذكور وناصيف نصار وغيرهم. لكن الفكرة هى أن عددا كبيرا من المتخصصين فى الميادين الأخرى يستعينون كثيرا بالفلسفة فى أبحاثهم ويعتبرون ذلك من مواضع فخرهم، إذ يستشيرون الفلاسفة ويطعّمون أبحاثهم بأفكار فلسفية حتى إنه يصعب فى بعض الأحيان التمييز بين المتخصصين وغير المتخصصين. ففى النقد الأدبى مثلًا جابر عصفور وعز الدين إسماعيل وعبد المنعم تليمة وأمثالهم يعبرون عن الكثير من الأفكار الفلسفية فى كتاباتهم وهم فخورون بذلك، ويحاولون الاقتراب باستمرار من الفلسفة. وينطبق الشيء نفسه على المؤرخين وحتى على العلماء، فيقتبس كثير منهم عن الفلاسفة، ويقرأونهم قراءة جيدة ويستوعبونهم. وهذا ما يدل على أن الفلسفة لا تؤثر فى أرضها الخاصة وحسب، بل فى أرض الآخرين أرض التخصصات الأخرى. وأنا لا أوافق إطلاقا على المقولة التى تدعى أن الفلسفة تتراجع فى عصرنا.
أزمة الفلسفة العربية
كثيرًا ما هُجمت الفلسفة العربية، ورُميت بأنها مجرد اقتباس أو تأثّر بالمذاهب الوجودية أو الماركسية أو العقلانية الغربية، وأنه لا يوجد لدينا تيارًا فلسفيًا عربيًا أصيلًا، فيتبادر إلى الأذهان سؤال مفاده «هل لدينا فلسفة عربية»؟ وهو ما أستنكره الدكتور فؤاد زكريا، بقوله: أول رد أسوقه على هذا السؤال هو: لماذا لا توجهون السؤال نفسه إلى الكيمياء وتقولون: هل لدنيا كيمياء عربية؟ أو للطب الباطنى، ونسأل هل عندنا طب باطنى عربي؟ لماذا نتهم الفلاسفة دائما أبدا؟ على العموم إنه من الواضح أن المرحلة الحالية من ثقافتنا بشكل عام هى مرحلة انحسار وبدون شك، منذ فترة، مقارنة بالتقدم العلمى الذى حصل فى البلاد الغربية، نحن متأخرون هذه ظاهرة، ولا مفر من الإقرار بها. وهذا لا يعيبنا كثيرًا، لأن ظروفًا معقدة جدا أدت إلى أن يسبقنا الغرب فى كثير من الميادين كالتكنولوجية ومجموعة العلوم الطبيعية والإنسانية... إلخ. هذه العلوم هى جزء من تطور حضارى عام والفلسفة ليست جزيرة منعزلة. إنها تخضع لما تخضع له الحضارة التى تنتمى إليها، هذا أولًا. الأمر الثانى، يمكن أن نقول إن الردّ على هذا السؤال مستمد من الذى قلته البداية أنه علينا أن نميز بين تأثير الفلسفة التخصصية، وبين الفلسفة كمنهج للفكر. فلو أخذنا الفلسفة كمنهج للفكر، أعتقد بأنها فاعلة فى بلادنا فكثير من المشتغلين بالفلسفة، مثل لويس عوض، كان يُنمّى بعض أفكاره الفلسفية، ونجيب محفوظ لا تفهم أعماله الأدبية فهما كاملًا إلا فى ضوء الخلفية الفلسفية، أى الفلسفة الفكرية التى تربى عليها. فإذا أخذنا المسألة بهذا المعنى الأوسع، نجد أن الفلسفة قد تركت أثرًا فى المجتمع العربى. وكما قلت لا يمكن أن نقول إن لدينا نظريات تخصصية. أعتقد أن وجود نظريات من هذا النوع، أو عدم وجودها يرجع إلى حالة معينة خاصة جدا.
العُزلة الثقافية وثقافة النخبة
كان الدكتور فؤاد زكريا مهمومًا بالقضايا الثقافية والتنوير واندماج المُثقفين فى المُجتمع، ففى حواره لمجلة البيان الكويتية عام ١٩٨٥م، تحدث عن العزلة بين المثقفين والجمهور، مؤكدًا أن هناك عزلة مستمرة بين المثقفين والجمهور، مشيرًا إلى عدم وجود ثقافة مندمجة ١٠٠٪ مع الجماهير، حتى أن الأعمال الثقافية الكُبرى التى احدثت تحولًا ضخمًا فى تفكير الإنسان وتكوينه العقلى هى أعمال لا تستطيع أن تستوعبها إلا القلة المثقفة، مؤكدًا أن كتاب «رأس المال» الذى تمت قراءته على مستوى واسع هو كتاب للقلة، وعلى مستوى كبير من التعقيد، وأغلب الناس الذين يفترض أن يكون هذا الكتاب موجهًا لهم، من المؤكد أنهم لم يتمكنوا من استيعابه وقراءته رغم الاتساع الهائل لتأثيره.
ويؤكد الدكتور فؤاد زكريا أن هناك فترات معينة تزداد فيها «العزلة» قائلًا: هناك فترات معينة تزداد فيها «العزلة»، وذلك لأسباب منها أن المثقف المصرى كان معزولا عن الجماهير، والمقصود بالمثقف هنا المثقف التقدمى لأنه هو الذى يطالب بالاقتراب من الجماهير، وإذا كان المثقف الارستقراطى منعزلًا عن الجماهير فهذا جزء من طبيعته، ولا يلومه أحد فى ذلك، لكن المشكلة هى أن المثقف التقدمى يتكلم ويكتب بطريقة لا تصل للجماهير، وقد كان ذلك جزءًا من الظواهر الثقافية فى مصر حتى قبل السبعينات، ومن المُلاحظ فى الاجتماعات والندوات والأحاديث الثقافية أن المثقفين على اختلاف ألوانهم كانوا يستخدمون لغة لا يمكن أن تستوعبها الجماهير.
ويُشير الدكتور فؤاد زكريا أنه فى الكثير من الاحيان كان يجد نفسه عاجزًا عن استيعاب الخطاب الثقافى لهؤلاء المُثقفين! والسبب فى هذا يرجع الى عدم استيعابهم للثقافة التى يتحدثون بها لذلك لم يستطيعوا نقلها للجماهير بطريقة أفضل وأبسط. لكن هناك أيضَا أسبابًا خارجة عن إرادة هؤلاء المثقفين، تتمثل فى الضغط المستمر الذى كانت تمارسه عليهم أجهزة القمع مما كان يضطرهم للتقوقع داخل أنفسهم لأن أى محاولة للاقتراب أو الاندماج مع الجماهير كانت تضرب فورًا بالطرق العنيفة وغير العنيفة فعملية العزل التى مارستها السلطة بين المثقفين وبين الجماهير أدت إلى مأزق صعبة جدًا بالنسبة إليهم، ولكن يمكن أن يُعدّلوا من لغتهم ويقربونها من أذهان الناس عن طريق الاحتكاك المستمر، ولكن اذا كان هذا الاحتكاك غير موجود أو مضروبًا عليه حصار سلطوى دائم، فان المثقف يتحلق حول غيره من المثقفين، وبمضى الوقت يتكون لديه الاعتقاد بأن هذه اللغة التى يتكلم بها مع غيره من المثقفين - هى اللغة التى يمكن أن يتكلم بها الناس فى أى مجال أو موقع آخر.
الحداثة وأسباب الفشل
يرى الدكتور فؤاد زكريا أن مفهوم الحداثة أسيء فهمه كثيرا فى العالم العرب، قائلًا: هناك تيارًا فكريا كاملًا يقول إن الحداثة هى الاقتداء بالغرب والحداثة بهذا المعنى، هى نوع من تشوّه ثقافى لأى مجتمع من المجتمعات ونوع من التقليد والخروج عن الهوية الأصلية والتنكر للذات الحقيقى. وبالفعل، تجد أن هناك كتابات فى مختلف الميادين، منها الميدان الاجتماعى والاقتصادى وعدد كبير من الاقتصاديين يتكلمون عن الحداثة بمعنى أن تضع التقدم الغرب كنموذج لك، وتحاول أن تلحق به ففى هذه الحالة نكون قد شوهنا حياتنا وفكرنا وكياننا. وأعتقد بأن هذا النوع من التعريف ليس ضروريًا أو أساسيا، وليس جزءا من ماهية الحداثة ببساطة، هى أن تعيش مع تيار الصف الأول، مع تيار التقدم أينما وجد. ولذلك يجب أن يؤدى وجود اليابان إلى مراجعة كل هذه الأفكار على المدى الطويل. لأنّ اليابان اليوم هى حداثة بأحسن معانى هذه الكلمة. وليس هذا خطأ. فحين تحاول أن تخذ من اليابان نموذجا، لن تكون لاحقا بالغرب، لأن اليابان هى من صميم الشرق. وفى شرق آسيا هناك أيضا مجموعة من الدول التى ستصبح عاجلًا أم آجلًا، نظائر لفرنسا وإنجلترا وأمريكا وألمانيا وغيرها من الدول المتقدمة لا تقل عنها قوة يجب أن تأخذ حداثتك، أو جزءا منها من هؤلاء الناس فالفكرة، أن فى كل عصر من العصور، تشكل مجموعة من المجتمعات الصف الأول فى التقدم الصناعى أو فى أى مجال آخر. وعندما نقول هنا إن الحداثة مهمة، نعنى أنه يجب أن نضع لأنفسنا هذا المبدأ حتى نجد مكانًا فى هذه الطليعة.
علينا أن نوجه أنظارنا إلى حيث يكون التقدم فى أعلى مظاهره، لو فُهِمَت الحداثة بهذا المعنى، لاتضح لنا أن الحداثة ليست انسحاقًا أمام الغرب، وفقدانا لهويتنا، وتقليدًا أعمى، خصوصا أن اليابان كانت فى وقت من الأوقات مقلدة، وكان كل امتيازها فى القدرة البارعة على التقليد. والآن، العالم كله يقلدها، فيجب أن نعيد النظر فى مفهوم كلمة حداثة، ونزيل عنها التشويه الذى لحق بها نتيجة الربط المتعسف بينها وبين أنظمة الغرب.
أزمات الشباب ونظرة للمستقبل
كان الدكتور فؤاد زكريا يرى أن الشباب فى فترة التسعينات فى محنة حقيقية، وأن ظروفهم أصعب من ظروف جيله كثيرًا، فالشباب يواجه مشاكل لم يواجهها جيله على الإطلاق سواء كانت مشاكل اقتصادية أو اجتماعية. ولكن ما كان يهمه فى الأمر هو الناحية الثقافية. فتكوين جيله العلمى كان مختلفًا، لأنهم كانوا يعملون على تطوير أنفسهم على نحو متواصل وهذا لا يتوفر لمعظم أفراد الجيل الحالى. ويقول الدكتور «زكريا»، ما أريد قوله لشبابنا، مع إقرارى بصعوبة الظروف التى يعيشونها هو أن تقدمهم الشخصى صار كالنحت فى الصخر. ولكن لا يصح، بأى حال من الأحوال، أن يتوقفوا، أى لا بد أن يبذلوا الجهد المضاعف ليفهموا هذا العالم وما يحدث حولهم. أما مسألة الاكتفاء بقشور ثقافية، فهذا حرام وأنا أعتبره جريمة. لأن الغالية العظمى من الشباب تعيش الآن على بعض الترجمات التى تصدر هنا وهناك وخصوصا فى لبنان، إذ إن ترجمات لبنان هى جرائم أكثر منها ترجمات فلا بد أن يبذل الشباب مجهودًا للعودة إلى المنابع الأصلية للثقافة، وبقدر الإمكان، أن يتخلصوا من السطحية الموجودة حولهم فى كل مكان.
مؤلفات فؤاد زكريا
قدّم الدكتور فؤاد زكريا المولود فى مدينة بورسعيد فى ديسمبر عام ١٩٢٧م، مجموعة من الكتب الفلسفية المتنوعة منها: «التفكير العلمى»، و«آراء نقدية فى مشكلات الفِكر والثقافة»، و«الجوانب الفِكرية فى مُختلِف النُّظم الاجتماعية»، و«الحقيقة والوهم فى الحركة الإسلامية المعاصرة»، و«الصَّحْوة الإسلامية فى ميزان العقل»، و«الثقافة العربية وأزمة الخليج». وكان له بصمات بارزة فى الترجمة، حيث قدّم «المنطق وفلسفة العلوم» لموى، و«الفلسفة الإنجليزية فى مائة عام» لمتس، و«نشأة الفلسفة العِلمية» لِريشنباخ، و«التساعية الرابعة فى النفس» لِأفلوطين، و«حكمة الغرب» لِرسل. وكان له اهتمامات كبيرة بالثقافة الموسيقية، حيث قدّم عدد من الاسهامات منها كتاب «التعبير الموسيقى»، و«مع الموسيقى»، و«ريتشارد فاجنر».
مسيرة ومسار
عمل الدكتور فؤاد زكريا ورئيسًا لقسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة عين شمس حتى عام ١٩٧٤م، انتقل بعدها إلى الكويت أستاذًا ورئيسًا لقسم الفلسفة بجامعة الكويت حتى عام ١٩٩١م، وذلك خَلَفًا لأستاذه الدكتور زكى نجيب محمود. وعمل بالأمم المتحدة مستشارًا لشئون الثقافة والعلوم الإنسانية فى اللجنة الوطنية لليونيسكو بالقاهرة، ومستشارًا لسلسلة «عالَم المعرفة» التى تَصدُر عن «المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب» الكويتى، والتى يُعَد من مؤسِّسيها. كما ترأس تحريرَ مجلتى «الفكر المعاصر» و«تراث الإنسانية» فى مصر.
حصل الدكتور فؤاد زكريا على عدد كبير من الجوائز منها، جائزة الدولة التشجيعية ١٩٦٢م عن كتابه «اسبينوزا»، وجائزة الدولة التقديرية فى العلوم الاجتماعية ١٩٩٦م، وجائزةَ مؤسسة الكويت للتقدُّم العلمى عام ١٩٨٢م عن ترجمته لكتاب «حكمة الغرب» لِبرتراند راسل، وجائزةَ سلطان العويس عام ١٩٩١م، وجائزةَ الرابطة الفرنسية للتعليم والتربية، ورحل الفيلسوف الفذ عن علامنا فى ١١ مارس عام ٢٠١٠م، عن ثلاثة وثمانين عامًا، بعد أن أثرى المكتبة المصرية والعربية بكتاباته الرصينة، وشكّل حراكًا واعيًا فى الوسط الثقافى المصرى والعربى.