واشنطن تحاول استخدام كارثة الحرب في السودان نافذة لاستعادة دورها المتراجع في الشرق الأوسط
من سورية إلى الصومال، ومن بغداد إلى الجزائر، فقدت الولايات المتحدة قدرتها على التأثير في مجرى الأحداث في الشرق الأوسط، وأصبحت واحدا من المتفرجين، بعد أن كانت المحرك الرئيسي للأحداث في العقود الأخيرة منذ غزو العراق عام 1991. الآن تدور العملية السياسية في سورية بين روسيا وإيران وتركيا والحكومة السورية. وتدور العملية السياسية في اليمن بين السعودية وإيران والقوى السياسية في جنوب اليمن وشماله بمشاركة سلطنة عمان والعراق. وفقدت الولايات المتحدة تقريبا دورها في دفع عملية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين.
لكن الصراع العسكري الذي انفجر فجأة في منتصف أبريل بين الجيش وقوات الدعم السريع في السودان، منح الدبلوماسية الأمريكية فرصة ذهبية لمحاولة استعادة نفوذها في الشرق الأوسط من خلال عملية لإحلال السلام، بدأت بمبادرة أعلنها وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن لوقف إطلاق النار لمدة 24 ساعة، تلتها اتفاقات أخرى لتنفيذ هدنات مؤقتة لتوفير ممرات إنسانية آمنة لدفن القتلى، وإخلاء الجرحى، وتوفير إمدادات صحية للمستشفيات، وامدادات غذائية للسكان، إضافة للسماح للراغبين في النزوح عن مناطق القتال للانتقال إلى مناطق أخرى. وتضمنت اتفاقات الهدنة، تنسيق أعمال نقل أفراد البعثات الدبلوماسية والجاليات الأجنبية إلى خارج السودان. وقد سمحت أعمال الإغاثة الإنسانية وإجلاء البعثات الدبلوماسية والجاليات الأجنبية، أن تلعب الولايات المتحدة دورا دبلوماسيا بارزا بالتنسيق مع السعودية ومصر والإمارات إضافة إلى التشاور مع قيادة كل من القوتين العسكريتين المتصارعتين، الجيش والدعم السريع. ولم يتوقف التنسيق على الجانب الدبلوماسي فقط، وإنما شمل أيضا تنسيق العمليات اللوجستية والتأمين العسكري وتوفير إمدادات الوقود الضرورية.
وخلال المجهود الدبلوماسي الذي تقوم به الولايات المتحدة من أجل إيجاد حل للصراع العسكري الحالي في السودان، لم ينس أنطوني بلينكن أن يوجه أصابع الاتهام إلى روسيا، مشيرا إلى الدور الذي قال إن مجموعة "فاجنر" العسكرية الروسية غير الحكومية تقوم به في السودان، وذلك في محاولة لإبعاد روسيا تماما عن العملية السياسية المحتملة لتطبيع الأوضاع بين الجيش وقوات الدعم السريع. وقد أعلن بلينكن ان الخارجية الأمريكية تجري حاليا مشاورات مع السعودية ومصر والإمارات والاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي من أجل تشكيل مجموعة عمل إقليمية للإشراف على وقف دائم لإطلاق النار في السودان، يسمح بالعودة إلى العملية السياسية، التي تهدف لنقل السلطة إلى المدنيين وإنهاء دوافع النزاع بين العسكريين. وإذا استطاعت الولايات المتحدة أن تقود، بالمشاركة مع أطراف إقليمية، عملية سياسية ناجحة لإنهاء القتال في السودان، ووضع خطة عملية لتنفيذ الاتفاق السياسي الإطاري الذي كانت القوى المدنية والعسكرية قد اتفقت عليه في أواخر العام الماضي، فإن هذا قد يفتح لها مساحة واسعة للتفاعل السياسي مع قضايا الشرق الأوسط من خلال نافذة السودان.
وكانت الولايات المتحدة قد بدأت في أوائل الشهر الماضي حملة دبلوماسية كثيفة ومنظمة لإعادة تأكيد وجودها في الشرق الاوسط، والمحافظة على ما تبقى لها من نفوذ، في أعقاب الزلزال السياسي الذي شهدته المنطقة بنجاح الوساطة الصينية في استعادة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وايران، بكل ما لذلك من تداعيات عالمية واقليمية. وتضمنت الحملة الدبلوماسية الأمريكية التي بدأت وتطورت خلال شهر أبريل زيارة سرية للرياض قام بها "وليام بيرنز" مدير المخابرات المركزية الأمريكية، حيث التقى هناك الأمير محمد بن سلمان ولي العهد ورئيس الوزراء السعودي. كما شملت اتصالا هاتفيا بين جيك سوليفان مستشار الأمن القومي الأمريكي مع الأمير محمد بن سلمان. وقد زار السعودية أيضا ثلاثة من كبار مسؤولي الإدارة الأمريكية المختصين بشؤون الشرق الأوسط، وهم "بريت ماكجورك" مستشار الرئيس بايدن لشؤون الشرق الأوسط، وعاموس هوكستاين مبعوث الولايات المتحدة لشؤون أمن الطاقة والبنية الأساسية، إضافة إلى تيم ليندركينغ المبعوث الأمريكي لليمن. وتضمن نشاط الوفود والشخصيات السياسية الأمريكية لقاءات مع الأمير محمد بن سلمان ولي العهد ورئيس الوزراء، والأمير عبد العزيز بن سلمان وزير النفط والأمير فيصل بن فرحان وزير الخارجية، والأمير خالد بن سلمان وزير الدفاع. وكانت أهم موضوعات المحادثات كيفية تطوير العلاقات الثنائية، وتعزيز التنسيق بين البلدين بشأن القضايا الإقليمية، والتنسيق بشأن قرارات أوبك. كذلك فإن الكونغرس الأمريكي شارك في هذه الحملة الدبلوماسية من خلال الزيارة التي قام بها السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام، إلتقى فيها الأمير محمد بن سلمان وفريق العمل المساعد له. ووصف جراهام اللقاء بأنه كان "مثمرا" للغاية، على الرغم من أنه في حوار مع "سي إن إن" لم يذكر نتيجة عملية واحدة للقاء، لكنه كان حريصا على الإشادة بـ "الصفقة" التي عقدتها السعودية لشراء طائرات من شركة بوينج الأمريكية بقيمة 37 مليار دولار.
وتعتبر الزيارة التي قام بها وليام بيرنز هي الأهم بين وقائع الحملة الدبلوماسية الأمريكية الأخيرة في الشرق الأوسط التي سبقت انفجار الصراع المسلح في السودان. وطبقا لتسريبات ذكرتها مصادر مختلفة، منها ما نشرته صحيفة وول ستريت جورنال، وأذاعته محطة سي إن إن الأمريكية، عن اللقاء الذي تم بين الأمير محمد بن سلمان وبيرنز، الذي حضره أيضا رئيس المخابرات السعودية الفريق خالد علي الحميدان ومجموعة من كبار ضباط المخابرات، فإن اللقاء كان متوترا على الجانب الأمريكي، قدم فيه بيرنز عددا من الطلبات غير المقبولة لدى السعودية، منها تقليص علاقات الرياض مع كل من بكين وموسكو، وتنسيق العلاقات بشأن سورية بما يتفق مع التشدد الأمريكي ضد الأسد، والعودة إلى تنسيق السياسة النفطية بما يتفق مع مصالح الدول الغربية، وذلك في مقابل تطوير العلاقات بين واشنطن والرياض إلى أفضل مستوى ممكن، بما في ذلك على الجانب الأمني. وقد رفض الأمير محمد بن سلمان الطلبات الأمريكية، رغم التهديدات المبطنة التي رددها بيرنز خلال اللقاء.
وجاءت ردود السعودية على المطالب الأمريكية في شكل خطوات عملية بعد مغادرة وليام بيرنز، تضمنت حسم مكان الاجتماع الثاني بين وزيري خارجية السعودية وإيران، ليكون في العاصمة الصينية بكين، بعد أن كانت هناك مشاورات جارية لعقده إما في العاصمة العمانية مسقط، أو العاصمة العراقية بغداد. كما تم الإعلان عن موعد اجتماع اللجنة العليا المشتركة للتعاون الاقتصادي بين السعودية والصين في الشهر الحالي (مايو)، وأن ولي العهد السعودي سيقوم بزيارة إلى الصين على رأس وفد ضخم من ممثلي الشركات ورجال الأعمال في شهر أغسطس القادم، ليكون ذلك بمثابة رد واضح لا لبس فيه بالنسبة للعلاقات السعودية - الصينية. وبالنسبة لسورية، قررت السعودية استقبال وزير الخارجية السوري فيصل المقداد، ثم أرسلت وزير خارجيتها الامير فيصل بن فرحان إلى دمشق، ليكون ردا على طلب بيرنز بألا تعيد الرياض علاقاتها مع دمشق. أما بالنسبه للمطلب الأمريكي الخاص بالسياسه السعوديه بشان أوبك وصادرات السعوديه النفطية، فكان الجواب عليه من خلال تصريحات وزير النفط السعودي الأمير عبدالعزيز بن سلمان، الذي أكد فيه أن سياسة المملكة النفطية تتم وفق مصالحها فقط، وليس وفق مصالح الآخرين؛ فالتنسيق مع دول أوبك يتم وفقا لهذه المعادلة، وأن سياسة إلزام السعودية ودول أوبك بقرارات وصيغ جاهزه قد ولت بغير رجعة.
بعد ذلك جاءت التطورات في السودان، التي التقطها وزير الخارجية الأمريكي أثناء مشاركته في مؤتمر وزراء خارجية مجموعة الدول السبع الصناعية الغربية في طوكيو، ليدعو من هناك إلى ضرورة وقف إطلاق النار وإعادة الهدوء. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة تحاول التنسيق عن قرب مع القاهرة والرياض وأبوظبي، فإن نجاح هذا التنسيق يتوقف على متغيرين، الأول هو ما إذا كان غرضه سيقتصر على إجلاء البعثات الدبلوماسية والجاليات الأجنبية وضمان المصالح الأمريكية، والثاني هو مدى توافقه مع المصالح العربية أولا؛ ذلك أن واشنطن لم تعد لها القدرة على فرض كلمتها، أو تغيير السياسة الخارجية للدول العربية بطريقة الإملاءات.