وصف المفكر المغربي محمد عابد الجابري (1936- 2010) العقل العربي بأنه "استقال عن وظيفة الإبداع والنقد والتطور"، لكنه في الوقت نفسه أعطى الأمل لعودته من خلال إيقاظ العناصر الحية داخل تراثنا، وذلك من شأنه أن ينتشل مجتمعاتنا العربية من هوة التشدد والتطرف، فالمجتمع الذي عاش في أحضان "اللامعقول"، من الطبيعي أن يُنتج حالة التشدد والتطرف للتيارات الإسلامية، التي نجحت في تقويض عدة دول مثل العراق وسوريا واليمن وليبيا.
الجابري، الذي تحل ذكرى وفاته في الثالث من مايو الجاري، طالب في مقدمة كتابه "ابن رشد.. سيرة وفكر" بتعميم الروح الرشدية في الأوساط الثقافية والمؤسسات التعليمية من أجل الحد من التطرف الديني إلى درجته الأدنى، وترشيد "الإسلام السياسي".
في الوقت ذاته، حذر "الجابري" من تفاقم حركات التطرف، فالأخيرة موجودة في كل الحضارات ولا يقتصر وجودها على العرب فقط، لكن مكانها الطبيعي أن يكون في أطراف الدول والمناطق الهامشية، فمثلا الخوارج قديما كنا نجدهم يسيطرون على مناطق في أطراف العالم الإسلامي، ولم تنجح في الوصول إلى مركز الدولة، فعندما تصل إلى الوسط والمركز، فهذا دليل على فقدان تلك الدول للمبادئ الأساسية في الحكم كالعدالة والديمقراطية، أي فقدت الأمور التي تضمن الاستقرار.
السمات العامة للعقلانية الرشدية
ركز "الجابري" على دراسة السمات العامة لعقلانية ابن رشد الواقعية، ويبرزها من خلال عدة نقاط كالتالي: الفصل بين الدين والفلسفة باعتبار أن لكل منهما مجاله الخاص وطريقته الخاصة، والنظرة الاكسيومية إلى كل من البناء الديني والبناء الفلسفي، أي ربط القضايا بمنظومتها الفكرية الأصلية. تأكيد العلاقة السببية في عالم الطبيعة وعالم ما بعد الطبيعة سواء بسواء، وفهم حرية الإرادة البشرية ضمن الضرورة السببية وربطها بالعلم والأسباب. الميل إلى نوع عقلاني خاص من وحدة الوجود، يعتبر الإله كقوة رابطة بين أجزاء الكون وظواهره، قوة روحية هي في آن واحد مندمجة في الكون ومتعالية عليه.
من ناحية أخرى: الشعور المرهف بخصوصية الخطاب الديني والخطاب الفلسفي وبثقل المسئولية الملقاة على كاهل الفيلسوف. صعوبة الإمساك بالحقيقة، بل باستحالة الإمساك بها كاملة سواء في مجال الدين أو مجال الفلسفة، الإدراك الواعي للإخطار التي تحدق بمن يغامر بالكشف عنها لمن ليس مؤهلا لتقبلها، وبالتالي الإدراك الواعي لثورية الحقيقة من جهة أخرى.
القطيعة بين المغرب والمشرق
شرح "الجابري" فكرته حول الانفصال العميق بين فلاسفة المشرق أمثال ابن سينا وفلاسفة المغرب أمثال ابن رشد، واصفا الاتصال بين المدرستين بالظاهري، لأن الروح التي تحكمهما مختلفة ومتناقضة.
رأى صاحب مشروع "نقد العقل العربي" أن فلاسفة المشرق كانوا يمارسون نوعًا من التفكير العقلاني ولكنهم ينتهون دومًا إلى نوع من التصوف والغنوصية. أما ابن رشد فلقد احتفظ بعقلانيته الصارمة وواقعيته المتفتحة إلى آخر لحظة من حياته.
شرح الجابري أن نقطة الانطلاق غالبًا ما تحدد نقطة الوصول، حيث كان الفكر الفلسفي في المشرق مؤسسًا على نظرية الفيض ومحكوما بها، بينما يرفض ابن رشد هذه النظرية بقوة ويصفها بأنها "خرافات وأقاويل أضعف من أقاويل المتكلمين"، لقد كانت فكرة الفيض تشكل القاعدة الأبستمولوجية للفكر النظري الفلسفي في المشرق.
ونقلا عن الدكتور محمود قاسم، أستاذ الفلسفة المصري، أكد الجابري أنها نظرية شهيرة تفسر لنا كيف وجدت الكثرة في العالم ابتداء من موجود واحد، قد لعبت دورا كبير الأهمية في توجيه الفلسفة الإسلامية توجيها حاسمًا نحو نوع من التصوف ذي طابع خاص كل الخصوص.
وتحفَّظ "الجابري" على مقولة "قاسم" السابقة: توجيه الفلسفة الإسلامية. موضحًا أن التوجيه كان للفلسفة الإسلامية في المشرق تحديدًا. ويشير إلى أن هذا "النوع الخاص" من التصوف هو ما سماه باحثون بالتصوف العقلي أي التصوف النظري المؤسس على التأمل العقلي، وذلك تمييزا له عن "التصوف الوجداني" الذي نجده عند الحلاج، والتصوف العملي المبني على الزهد لدى أهل السنة وغيرهم.
ووصف الفلسفة في المشرق أنها كانت متجهه إلى الوراء لأنها استعملت العقل لإضفاء نوع من المعقولية على ما هو "لا عقلي" أي على نزعتها الصوفية، ومن هنا اكتسبت طابع الفلسفة الدينية.
أما فلسفة ابن رشد فلسفة مستقبلية، على الرغم من ارتباطها بأرسطو، متأثرة بالحركة الإصلاحية التي قادها ابن تومرت مؤسس دولة الموحدين والتي اتخذت شعار "ترك التقليد والعودة إلى الأصول" ومن هنا انصرفت المدرسة الفلسفية في المغرب إلى البحث عن الأصالة من خلال "قراءة جديدة" للأصول وفلسفة أرسطو بالذات.