الملك الموحّد أمنحوتپ الرابع المعروف بـ"إخناتون"، من ملوك الأسرة الثامنة عشر، والده أمنحوتب الثالث، ووالدته تيي ذات الأصول المصرية الشعبية، في نادرة غريبة عن المُتعارف عليه عن زوجات ملوك مصر المُنحدرات من سلالات نبيلة، أما مُرضعته فهي تي، وزوجها قائد المركبات “المواكب” الملكية أيي.
حكم مع زوجته نفرتيتي لمدة 17 سنة منذ عام 1369 ق م، تقريبًا، وكلمة إخناتون معناها الجميل مع قرص الشمس، وأسمه مستوحى من فكرة توحيد آلهة مصر القديمة في شكل الإله الواحد أتون المُتمثّل في قرص الشمس، الذي نقل من أجله العاصمة المصرية من طيبة إلي عاصمته الجديدة أخت أتون بالمنيا، والتي شكّل من خلالها مدارس جديدة على الديانة والفن المصري على حد سواء، حيث ظهرت الواقعية في الفن، لاسيما في النحت والرسم وظهر أدب جديد يتميز بالأناشيد للإله الجديد آتون، وهو ما عُرف بنظام تل العمارنة.
كانت الاصلاحات الدينية هي الشغل الشاغل للملك المُلهم الأمر الذي صرفه عن عن السياسة الخارجية وإدارة الإمبراطورية الممتدة حتي أعالي الفرات والنوبة جنوبا، وقد حصل امنحوتب الرابع على أسمه الملكي الذي حمله بعد تتويجه وهو “نفر خبر ورع”، ولكنه بعد ست سنوات من اعتلائه عرش مصر دعا نفسه إخناتون.
في الفيلم الوثائقي "ثورة إخناتون الدينية"، رصدت قناة MG المتخصصة في التاريخ، سيرة عاشر ملوك الأسرة الثامنة عشرة.
ورصد الفيلم، في البداية، أتباع الملك المصري لديانة الإله "رع" رب الشمس، وتودده لكهنة هليوبوليس لكسر شوكة كهنة آمون المسيطر في "طيبة" عاصمة الدولة الحديثة، الذين زاد نفوذهم وسلطتهم، وإعلانه دينًا جديدًا قائمًا على توحيد جميع الآلهة في إله واحد أطلق عليه اسم "آتون"، وهو أحد المسميات القديمة للإله "رع".
هكذا، أعلن الملك رفضه التام للديانة السائدة في مصر القديمة ذات الآلهة المتعددة، وجعله إلها عالميا لكل الشعوب، ورمز لهذا الإله بقرص الشمس، ورفضه أن يتم تصويره في أي هيئة، كانت سواء بشرية أو حيوانية، مثلما كان يحدث مع آلهة مصر في وقت سابق لحكمه.
وفى محاولة منه للإجهاز على عبادة آلهة متفرقة، اتهم إخناتون الكهنة بالسحر والشعوذة، وجردهم من مناصبهم -بما فيهم كهنة آمون- وأصبح هو الكاهن الوحيد للإله الجديد؛ وشاركته في تلك الثورة الدينية زوجته الملكة الشهيرة "نفرتيتي"، التي كانت شريكته في الحكم.
كذلك، نقل إخناتون عاصمته إلى الصحراء، في المنطقة المعروفة بـ "تل العمارنة"، وأطلق عليها اسم "أخيتاتون" وتعنى "أفق آتون".
وانشغل الملك بدينه الجديد وصراعاته مع الكهنة وانصرف عن السياسة، مما أدى إلى انفصال الأقاليم الآسيوية عن الإمبراطورية المصرية، ونمو قوى إقليمية جديدة.
وتُظهر "رسائل العمارنة" المكتوبة بالخط المسماري، عدم اهتمام الملك بالسياسة الخارجية، وعدم حمايته لحلفائه الآسيويين أمام تنامي خطر الحيثيين.
وهم التوحيد
في كتابه "إخناتون.. وهْمُ التوحيد"، الذي صدرت نسخته العربية عن المركز القومي للترجمة، وقام بترجمتها أيمن شرف، يجمع عالم الاجتماع والدراسات الثقافية الألماني فرانتس ماشيفسكي خلاصة البحوث المتصلة بتأكيد أو نفي أن إخناتون هو مؤسس أول ديانة تعترف بوجود إله واحد فقط في تاريخ البشرية، واضعاً في الاعتبار النقوش المسمارية، والتراتيل والنقوش في الفنون والعمارة، ذات العلاقة.
وفي قراءته للكتاب، يشير الكاتب الصحفي علي عطا إلى أنه "بداية من العنوان، يحسم ماشيفسكسي الجدل في هذا الصدد، منتصراً لـ "حقيقة" أن إخناتون أسَّس دولة ثيوقراطية ذات إله مركزي، لكن ظلت آلهة مصر القديمة الأخرى تُعْبَد، حتى في عاصمة دولته".
ويقول أيمن شرف في مقدمة ترجمته لهذا العمل: "ليس مهماً أن تقول إن إخناتون هو أول الموحدين، أو أن تقول غير ذلك، بل المهم هو أن تبني مقولتك على أساس ومنطق متماسكين، لا على استنتاجات مصدرُها بالأساس رغبة في تأكيد حالة إيمانية ذاتية، أو حتى حالة انحياز شوفينية تغري بنسب كل ما هو عظيم في التاريخ إلى مصر، أو حتى حالة انحياز لخطاب ثقافي عام، تمثل فكرة التوحيد بؤرته الفاعلة، وتغري بالبحث عن جذر أقدم لها في التاريخ الإنساني. المهم هو أن تدقق جيداً في السياقات الثقافية التي أدت إلى تكوين صورة ذهنية عن إخناتون، عبر سلسلة طويلة من القراءات والتحليلات والتنظيرات والأبحاث حول العالم وفي مصر".
كما يُشير الكتاب، أثبتت أعمال التنقيب في إطار "مشروع معبد إخناتون" بقيادة دونالد ريدفورد وأعمال "جمعية استكشاف مصر" بقيادة باري كيمب، اكتشاف ما يضع تكامل أطروحة التوحيد في اختبار قاس.
إخناتون والمركزية الإفريقية
في تحليلها لجانب من شخصية ملك التوحيد في مصر القديمة، ترى الكاتبة ميرفت عبد الناصر، أستاذة للطب النفسي بجامعة كنجز كوليدج بلندن، أن الملك - الذي كان أول متمرد في التاريخ - أصبح "رجلا لكل العصور، ورمزا للأمريكيين الأفارقة، والمهمشين والضعفاء، الذين ادعوا حق امتلاكه".
وترصد ميرفت في كتابها "معنى الوطن"، الصادر عام 2009 عن دار نهضة مصر، اهتمام مفكرين وفلاسفة وموسيقيين وأدباء وسياسيين في القرن العشرين بالملك المصري الموّحد، بسبب الإغراء المتمثل في ثراء شخصيته كرومانسي حالم وشاعر مسالم وثائر مثالي وبطل ملحمي؛ فهو "الشخصية الراديكالية الأولى في التاريخ.. مؤسس أول مدينة فاضلة".
وتتساءل الكاتبة عما إذا كان إخناتون "ثائرا حقيقيا"، أم مجرد "متمرد على سلطة أبيه لإثبات ذاته"، مستندة إلى أنه كان محورا لنظريات التحليل النفسي الفرويدية، وبخاصة "تمرده السافر على أبيه، وعلاقته القوية بأمه "تي"، التي كان لها تأثير كبير على تكوينه النفسي والفكري".
وتشير مرفت إلى أن محاولات "البعث الإخناتوني" تبدو منطقية؛ مشيرة الى أنه "أصبح لدي مسلمي أمريكا السوداء رمزا للنبي الذي يجمع بين الاسلام والأصول المصرية للقارة الإفريقية. وبهذا، تحول إخناتون - أدبيا وفكريا - لرجل لكل العصور. وتتجدد حياته وفقا لاحتياجات وأشواق الحالمين بالعدل".
وتضيف أن الأمريكيين من أصل إفريقي يعتمدون في أيديولوجيتهم "المركزية الإفريقية / الأفروسنتيرك"، على استثمار رأس المال الثقافي المصري المستلهم من مصر القديمة في صراعهم ضد العنصرية. وتنقل عن لويس فرقان، زعيم جماعة "أمة الإسلام" التي تأسست عام 1930م قوله في أولى خطبه: "أعجوبة العالم الكبرى هي أبو الهول والأهرامات.. تاريخ العالم كله محفور هناك في الصخر.. أسرار الأهرامات ما زالت تخفى على الجنس الأبيض. وهذا الأسد الذي يحمل وجه رجل أسود ما زال يصرخ فيهم: أنا الأسد.. أنا الزعيم.. أنا الملك.. أنا موجود قبل أن تأتوا، وسأظل من بعد أن ترحلوا. أنا البداية، وأنا أيضا النهاية".
وتلفت الكاتبة إلى أن السود في أمريكا "وجدوا في إخناتون بملامحه الإفريقية رمزا حماسيا حيا يجسد إفريقية الحضارة المصرية"، وفق زعمهم.
وأضافت: "أصبح إخناتون جذرا تاريخيا يربط الثائر الأسود في أي مكان بالأرض الإفريقية، وأصبح ضعفاء ومهمشو العالم يرغبون في الانتساب إليه، ويدّعون حق امتلاكه. فلقد صار إخناتون وطنا لكل من لا وطن له".
كما ترى الكاتبة أن السود يستمدون أيديولوجيتهم من الدينين المسيحي والإسلامي، وأن عالم المصريات الأمريكي جيمس هنري بريستيد، مؤلف كتاب "فجر الضمير" لعب دورا كبيرا في تشكيل هذه الأيديولوجية، خاصة في كتابه "غزو الحضارات" الصادر عام 1926 "والذي كان له أثر كبير في تمحور الأفرومركزية حول الحضارة المصرية القديمة. وهو الذي وصف إخناتون بأنه أول من تمرد في التاريخ. هذا التمرد هو السر الحقيقي وراء بقاء إخناتون واستمرارية استنساخه".
ثورة إخناتون الدينية
الملك الشاب في حياته كان مثالاً للطهر والأمانة، فرفض سطوة الكهنة واستخدامهم السحر، كما رفض نبوءات آمون، فثار على ذلك كله ثورة عنيفة، وقال في هذا: "إن أقوال الكهنة لأشد إثماً من كل ما سمعت حتى السنة الرابعة "من حكمه"؛ وهي أشد إثماً مما سمعه الملك أمنحوتب الثالث. رفض إخناتون الفساد الذي مارسه كهنة آمون، وسيطرتهم على دين مصر القديمة، فكره المال الحرام والمراسم المترفة التي كانت تملأ هياكل المعابد، كما رفض الأموال الطائلة التي يحصل عليها الكهنة وأعلن ثورته على كافة الأوضاع التي وصفها بالفاسدة، معلنًا رفضه للإله آمون وطقوس اتباعه، وما يقوم به كهنته من تجاوزات في حق المصريين، معلنًا أنه ليس للعالم إلا إله واحد هو آتون. ورأى إخناتون أن الألوهية أكبر ما تكون في الشمس مصدر الضوء وكل ما على الأرض من حياة، وملأ هذا الإله نفس الملك بهجة وسروراً، فألف أغاني حماسية في مدح آتون، منها هذه القصيدة التي تُعد أجمل ما بقى لدينا من الأدب المصري القديم:
ما أجمل مطلعك في أفق السماء!
أي آتون الحي، مبدأ الحياة؛
فإذا ما أشرقت في الأفق الشرقي
ملأت الأرض كلها بجمالك.
إنك جميل، عظيم، براق، عال فوق كل الرؤوس،
أشعتك تحيط بالأرض، بل بكل ما صنعت،
إنك أنت رِى، وأنت تسوقها كلها أسيرة؛
وإنك لتربطها جميعاً برباط حبك.
ومهما بعدت فإن أشعتك تغمر الأرض؛
ومهما علوت، فإن آثار قدميك هي النهار،
وإذا ما غربت في أفق السماء الغربي
خيم على الأرض ظلام كالموت،
ونام الناس في حجراتهم،
وعصبت رؤوسهم،
وسدت خياشيمهم،
ولم ير واحد منهم الآخر ،
وسرق كل متاعهم،
الذي تحت رؤوسهم،
ولم يعرفوا هم هذا.
وخرج كل أسد من عرينه
ولدغت الأفاعي كلها...
وسكن العالم بأجمعه…