لا شك أنه من الصعب جدا التنبؤ بأى مسألة حتى بالمستقبل القريب؛ ففى عام ٢٠٢٢، اعتقد العديد من المحللين (وأنا أحدهم) أن فلاديمير بوتين لن يغزو أوكرانيا لأن البيانات الواردة من المصادر المفتوحة فقط أظهرت أن هذه العملية لن تكون ناجحة ولم يأخذ هؤلاء المحللون فى الاعتبار رغبة بوتين الشديدة فى إطلاق عمليته وقد كلف هذا بالفعل روسيا ثمنًا باهظًا سواء من الناحية الاقتصادية أو عدد الخسائر البشرية. واليوم، تبرز نفس المعضلة: تريد كييف شن هجوم مضاد لاستعادة أكبر قدر ممكن من الأرض المفقودة حتى لو تمكنت من استعادة السيطرة على جميع أراضيها قبل عام ٢٠١٤.
إذا قمنا بالاستماع إلى وجهة نظر «منطقية» فى الغرب، فلن يكون لدى الأوكرانيين الوسائل البشرية ولا المواد ولا الذخيرة الكافية لشن هجوم واسع النطاق مع أدنى فرصة «للانهيار» كما يقول الاستراتيجيون العسكريون.
علاوة على ذلك، فقد دفن الروس أنفسهم فى خطوط دفاعاتهم المختلفة، وبالتالى فإن لديهم ميزة تكتيكية - إذا استثنينا خط ماجينو (الذى لم يتم اختراقه ولكن تم التحايل عليه) أو الجدار الأطلسى (الذى كان بعيدًا عن الانتهاء فى يوم النصر) ومن الصعب سماع دعاة الحرب الغربيين وهم يحثون الأوكرانيين بأقصى طاقتهم على الذهاب إلى «خرق» الدفاعات. ولا يبدو أنهم يهتمون على أقل تقدير بأن الآلاف من الشباب الأوكرانى يخاطرون بفقدان حياتهم هناك، ومن المثير جدا أن نطلب من هؤلاء «المراقبين» أن يذهبوا إلى هناك بأنفسهم، خاصةً أن أوكرانيا أنشأت فريقا دوليًا ومستعدة لدمج هذا الفريق فى صفوفها.
وفى الوقت الحالى، مع بدء الربيع فى أوكرانيا، ساد هدوء صامت للأعمال العدائية فى ساحات القتال. يبدو أن القوات منهكة ولم يتجسد هجوم موسكو الشتوى حتى الآن على الرغم من حشد مئات الآلاف من الرجال، ومعظمهم من ذوى التدريب السيئ وضعاف التجهيز حيث تم إرسال العديد منهم إلى الجبهة وتم القضاء على العديد منهم أما الناجون من ذلك فقد أكدوا أن هذه الحرب بمثابة «عاصفة قتل الجنود وحصد الأرواح بالمدافع».
ويبدو أن بوتين قد حقق انتصارات ضد المعارضة الوطنية أكثر مما حققه فى أوكرانيا، حيث أحرزت القوات الروسية تقدمًا ضئيلًا فى مدينة باخموت، التى أصبحت رمزًا للمقاومة الأوكرانية ومن الواضح أن القوات المسلحة الروسية وأعوانها المرتزقة يواصلون إظهار عدم كفاءتهم.
ولكن فى الوقت نفسه، لم تستعد أوكرانيا أى مساحة من الأراضى فى منطقتى خيرسون أو خاركيف؛ فى حين أن الأرض الموحلة تجعل حركة القوات والأسلحة الثقيلة صعبة للغاية، فيما تحاول كييف حشد قوات جديدة مدربة على استخدام الأسلحة الغربية التى يتم استلامها حاليا.. هناك أيضا من يقولون إنها: «الأسلحة المعجزة» والتى لم تكن مستخدمة من قبل باستثناء القنبلة النووية التى أجبرت اليابان على وقف الحرب.
ويقال إن الهجوم المضاد الأوكرانى الذى طال انتظاره «وشيك».. هكذا أعلن رئيس الوزراء دنيس شميجال فى بداية أبريل: «نحن مقتنعون بأن الهجوم المضاد سيحدث فى المستقبل القريب.. الولايات المتحدة تدعمنا تمامًا» ووفقًا لتسريبات البنتاجون التى تصدرت عناوين الصحف، تتمثل نقاط الضعف الرئيسية فى كييف فى النقص الحاد فى القوات المضادة للطائرات (على الرغم من وصول أنظمة باتريوت الأولى إلى أوكرانيا) ونقص الذخيرة.
يبدو أن كييف تعتزم بشكل أساسى استغلال المعنويات المتدنية للغاية للقوات الروسية وأيضًا نقص الأسلحة والذخيرة.. ولا شك أن الأمل بالنسبة لأوكرانيا هو أن الجيش الروسى سوف ينهار من الداخل كما فى عام ١٩١٧.
إضافة إلى كل ذلك، تحتاج أوكرانيا إلى نصر أو اثنين لضمان استمرار الإمداد بالمساعدات العسكرية والمالية الغربية مع تضاؤل الدعم الشعبى الغربى لقضيتها ويمتد خط الجبهة الحالى على شكل هلال ممتد من شرق أوكرانيا إلى جنوبها لمئات الكيلومترات. لذلك سيتعين على كييف أن تختار بعناية مكان الهجوم المضاد أولًا؛ حيث يتم أخذ جميع الافتراضات وأيضا من الممكن أن يكون هناك هجومان، الأول يعمل بمثابة تجميع القوى المعارضة الروسية والآخر - وهو الهدف الرئيسى - الاستيلاء على مناطق مهمة سياسيًا.
ومع ذلك، هناك ثابت واحد: الغرب لا يريد لكييف أن تدخل روسيا لتجنب أى تصعيد ومنع استخدام الأسلحة النووية التكتيكية من قبل موسكو وتعتمد أوكرانيا بشكل كبير على الإمدادات الغربية للتغلب على هذه المخاوف وفى غضون كل ذلك، تختلف أهداف الكرملين الحالية اختلافًا جذريًا عن حساباتها الأولية. فيما فشلت موسكو فى تحقيق خططها للاستيلاء على كييف والإطاحة بحكومة زيلينسكى كما فعلت فى كابول عام ١٩٧٩ عندما بدأ التدخل السوفيتى فى أفغانستان.
لقد تعلم الكرملين بالطريقة الصعبة مدى ضعف القيادة العسكرية واللوجستيات والتنسيق فى ساحة المعركة، وهو أمر لا يحتاج إلى تفكير، لذلك تبحث موسكو الآن فقط عن كسب الوقت ومن الضرورى بالنسبة لموسكو تجميد الصراع والسيطرة بشكل أفضل على الأراضى المحتلة كما تريد موسكو أن تنزف من أوكرانيا بينما تشكل تهديدًا باستئناف هجماتها التى من شأنها أن تثبط عزيمة المستثمرين وتدفع الناس إلى مغادرة البلاد لأسباب اقتصادية أكثر منها لأسباب أمنية.
وفى النهاية، فإن النتيجة هى أنه من المشروع التساؤل؛ عما إذا كان هجوم الربيع الأوكرانى سيحدث أم أنه مجرد عملية خداع تهدف إلى الاستمرار فى الحصول على دعم لا يتزعزع من العالم الغربى؟.
معلومات عن الكاتب:
آلان رودييه.. ضابط سابق، يشغل منصب مدير الأبحاث فى المركز الفرنسى لأبحاث الذكاء (CF2R) منذ عام 2001، له العديد من المقالات والتقارير والكتب حول الجغرافيا السياسية والإرهاب والجريمة المنظمة.. يتناول التصريحات الأوكرانية عن الهجوم المنتظر لاستعادة الأرض المحتلة.