اعتبارًا ١٥ أبريل، أصبح السودان ضحية القتال بين الحليفين السابقين والرجلين القويين فى البلاد، اللواء عبد الفتاح البرهان والجنرال محمد حمدان دقلو (المعروف باسم حميدتي).. ومع ذلك، وبعيدًا عن ذلك الصراع الدموى على السلطة، فإن هذا الصراع هو جزء من سياق جيوسياسى أوسع بكثير وفى بلد يمثل استراتيجية مهمة لدول أخرى متعددة.
حتى عام ٢٠١٩، كانت قوة عمر البشير (١٩٨٩-٢٠١٩) مزيجًا من الحكم العسكرى والإسلامى وبعد المظاهرات الشعبية الكبرى فى عام ٢٠١٩، بدأت فترة انتقالية حتى عام ٢٠٢١، بناءً على تعاون نظرى بين الجيش (الذى طرد البشير) وبين المدنيين، وكان ذلك من المفترض أن يؤدى إلى نظام ديمقراطى إلا أن كل ذلك توقف فى ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١ بما أقدم عليه قائد الجيش اللواء عبد الفتاح البرهان، ثم تحالف مع محمد حمدان دقلو، زعيم الميليشيا شبه العسكرية القوية التابعة لـ«قوات الدعم السريع».
حميدتى هو راعٍ وتاجر جمال سابق، أصبح من أغنى الرجال فى البلاد بفضل تجارة الذهب فهو من دارفور حيث كان أثناء الحرب أحد أمراء الحرب المرهوبين للغاية، أما البرهان فهو من الجيش النظامى وينحدر من شمال السودان.
ومن المسلم به أن الرجلين قد انضما إلى قواتهما عام ٢٠٢١، وتم تحديد تاريخ أبريل ٢٠٢٣ لانتقال السودان إلى حكومة مدنية ومع ذلك، تعمق الخلاف بين الحليفين السابقين البرهان وحميدتى حيث وجد الرجلان نفسيهما على خلاف حول الجدول الزمنى والتسلسل الهرمى للاندماج الكامل لقوات الدعم السريع فى الجيش السودانى.. لقد تمزق تحالفهما الذى يعيد السودان اليوم إلى العنف ويثير مخاوف من اندلاع حرب أهلية جديدة.
والسؤال الذى نطرحه هنا: هل يمكن أن يفسر ذلك الصراع على الحكم الوضع الحالي؟ بالفعل لستُ متأكدًا من ذلك.. لأنه عندما يحدث هذا النوع من الأحداث فى بلد مثل السودان، والذى يعد بلدًا جيوستراتيجيًا للعديد من الدول فى المنطقة إضافة إلى أنه أيضًا ذو أهمية جيوستراتيجية للعديد من القوى الرئيسية المتنافسة؛ ففى مثل هذه الحالات من الحكمة البحث فى بعض الظروف عن أسباب أعمق وقبل كل شيء أسباب «خارجية» لفهم وتحليل أسباب اندلاع الحريق قدر الإمكان.. كما هو الحال فى التحقيق الجنائى، فى علم الجغرافيا السياسية؛ عليك أحيانًًا أن تسأل من المستفيد من الجريمة لترى بشكل أكثر وضوحًا.
صراع بالوكالة؟
فى مقابلة حديثة مع صحيفة لومانيتيه، تحدث الأمين العام للحزب الشيوعى السودانى عن صراع بالوكالة بين عشيرة موالية لإحدى الدول وعشيرة موالية لدولة أخرى. من المسلم به أن هناك بعض الحقيقة فى هذا التحليل، لكنه يقدم رؤية اختزالية للغاية وغير كافية لشرح هذه الأزمة من تلقاء نفسها.
يستفيد البرهان من المساعدة والدعم الكامل من مصر، وهو نموذج حقيقى للسودانيين (انظر كتابى، عبد الفتاح السيسى، بونابرت المصرى، ٢٠٢٣). لطالما اعتبر المصريون، منذ الفراعنة، السودان، الذى سيطروا عليه فى القرن التاسع عشر، ساحتهم الخلفية وبلد «شقيق» وبالفعل، فإن القاهرة تعول على الاستقرار «لتأمين» الخرطوم.. فيما يظهر حميدتى كمحاور متميز للإثيوبيين ومن الواضح أن الجارتين النيليتين العظيمتين سيكون لهما هدف معين وهو أن يكون موقف السودان واضحًا، خاصة فيما يتعلق بالمسائل المتفجرة المتمثلة فى تقاسم مياه النهر.
ومع ذلك، لدى مصر وإثيوبيا قبل كل شيء مصلحة فى ضمان عدم غرق السودان فى حرب أهلية من شأنها أن يكون لها تداعيات خطيرة حتمًا على أراضيهما، كما هو الحال فى المنطقة بأكملها.. لهذا السبب، تشاور الرئيس المصرى عبد الفتاح السيسى ونظيره فى جنوب السودان، سلفا كير، بسرعة كبيرة حول خطورة الوضع والاشتباكات العسكرية الجارية.
ودعا الرئيسان إلى وقف فورى لإطلاق النار، مؤكدين «دعمهم الكامل للشعب السودانى الشقيق فى تطلعاته إلى الأمن والاستقرار والسلام» ومن المؤكد أن الرئيس السيسى ودبلوماسييه يتدخلون على أعلى مستوى كوسطاء للصراع (كان الجيش المصرى موجودًا فى السودان قبل الأحداث خاصةً مع وجود طائرات مقاتلة فى قاعدة مروى الجوية وذلك ضمن مناورات مشتركة بين البلدين وكان مخططا لها من فترة طويلة).
لكن مرة أخرى، لا تريد مصر أن تحترق البلاد بأى شكل من الأشكال.. وكذلك بالنسبة للمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، فقد أصبحت الإمارات أكبر مستثمر خارجى فى السودان؛ وبالتالى، من الصعب أن نرى هذه القوى الإقليمية الثلاث والحلفاء والشركاء يدفعون نحو الصراع خاصةً أنهم عملوا دائمًا معًا من أجل الاتفاق السياسى بين البرهان وحميدتى حتى ١٥ أبريل الماضى.. ولا شك أن هذا الصراع، كما قيل من قبل، من شأنه أن يزعزع استقرار المنطقة بأكملها وسيكون أكثر ضررًا لمصالح كل منهم.
على أية حال، فإن حميدتى بعيد كل البعد عن الغباء والانتحار؛ فعلى الورق، يضم الجيش السودانى النظامى حوالى ٢٠٥٠٠٠ رجل، وحوالى ٢٠٠ طائرة مقاتلة (معظمها قديم) ونحو ١٠٠ دبابة.. ومن الناحية النظرية، هذا يعنى أنه سيكون له اليد العليا ولديه فرصة أفضل لهزيمة القوات المتمردة وقائدها حميدتى.. وهذا الأخير، عندما أخذ زمام المبادرة فى منتصف أبريل وبدأ انقلابه على الجيش السوداني؛ لابد هنا من القول أنه قبل اتخاذ هذا القرار كان على يقين من ضمان الدعم (المالى والمادى).
هناك حدث يمكن أن يوضح لنا ملابسات كثيرة حول تلك النقطة؛ ففى ١٣ فبراير، كان وزير الخارجية الروسى سيرجى لافروف فى الخرطوم والتقى وزير الخارجية بالوكالة على الصادق وبالطبع اللواء دقلو ثم اللواء البرهان.. وهذا الأخير أعطى موافقته على افتتاح قاعدة بحرية روسية فى بورتسودان كما رحب بنشر مرتزقة فاجنر الروس مع قوات الدعم السريع.
ومع ذلك، حدث هناك تحول مأساوى للأحداث بعد أيام قليلة: عارض حميدتى أخيرًا هدية بورتسودان للروس! مفاجأة بالنسبة لشخص كانت له علاقات وثيقة منذ فترة طويلة مع رجال الشركة العسكرية الروسية الخاصة.
يد واشنطن؟
من السابق لأوانه القول إن يد الأمريكيين وراء تحول دقلو ومهما كان الأمر؛ لدينا القوة الأجنبية الوحيدة هنا التى لها مصلحة ملحوظة فى تدهور الوضع.. حاليًا الصراع محدود ولكنها قد تتحول إلى أزمة طويلة الأمد، تنتشر فى الوقت والجغرافيا، وقد تتحول إلى حرب إقليمية. وسوف يثير ذلك تساؤلات جدية حول توطين الروس على شواطئ البحر الأحمر؛ لكن قبل كل شيء، سيكون ذلك خطرًا جيوسياسيًا على مصر، والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة.. وقادة هذه الدول الثلاث، كما نعلم، ليسوا من الأشخاص المفضلين فى إدارة بايدن.
كما أن لديهم قبل كل شىء الجرأة على عدم الخضوع للضغوط الأمريكية لمعاقبة روسيا فى حربها فى أوكرانيا، بل اقتربوا منذ ذلك الحين (فلنتذكر اتفاقية محمد بن سلمان / بوتين بشأن النفط) من الصين وذلك من خلال منظور التحول الكبير فى مركز الثقل العالمى فى الوقت الحالى.
ومن ثم كانت الأوضاع فى السودان نتاج سياسة دونالد ترامب فى الشرق الأوسط، والتى صممت فرق بايدن منذ ذلك الحين على تفكيكها بأيديولوجية بسيطة خاصة فى ظل تراجع النفوذ الأمريكى بشكل متزايد فى المنطقة. وفى الواقع، انطلاقا من البراجماتية والواقعية وخططه السياسية الإقليمية، عمل الرئيس الأمريكى السابق على فك الارتباط الأمريكى فى هذه المنطقة تاركًا وراءه تحالفًا قويًا من الدول، هو حجر الأساس، حيث كان الرئيس الأمريكى السابق مفضلًا دائمًا للعسكريين السودانيين.
وفى مقابل كل ذلك، كان ترامب قد وعد برفع العقوبات عن الخرطوم، والتى سارع خليفته إلى إعادتها بعد أحداث أكتوبر ٢٠٢١، لأن هذه الأحداث لم تكن على الإطلاق محبوبًة من الديمقراطيين فى السلطة فى واشنطن أو المدافعين عن الديمقراطية.
فى ظل كل ذلك، كما يؤكد رينو جيرار: «الأمريكيون يتحدثون مع حميدتى». وبالمثل، فمن الصحيح أنه منذ ١٥ أبريل، بدأت تسمع القليل من الموسيقى فى وسائل الإعلام الغربية، والتى تكرر تغريدات الجنرال المتمرد على تويتر.
مرة أخرى، من السابق لأوانه القول إن تحول حميدتى إلى الهجوم مرتبط بشكل مباشر أو غير مباشر باستراتيجية توتر أمريكية جديدة؛ لكن ما هو مؤكد، والتاريخ موجود لإثبات ذلك، كما حدث مؤخرًا فى أوكرانيا لأكثر من عام، فإن أعضاء إدارة بايدن، الورثة للمحافظين الجدد لفرق كلينتون وبوش الإبن وأوباما، لن يترددوا أبدًا فى التضحية بالشعوب وإغراق بلد بأكمله أو منطقة بأكملها فى الفوضى لتكون فى وئام تام مع الأوهام الأيديولوجية المناهضة لروسيا أو «حقوق الإنسان» أو تغيير النظام أو بناء الأمة.
معلومات عن الكاتب:
رولان لومباردى.. رئيس تحرير موقع «لو ديالوج» حاصل على درجة الدكتوراه فى التاريخ، وتتركز اهتماماته فى قضايا الجغرافيا السياسية والشرق الأوسط والعلاقات الدولية وأحدث مؤلفاته «بوتين العرب» و«هل نحن فى نهاية العالم» وكتاب «عبدالفتاح السيسى.. بونابرت مصر».. يطرح، فى افتتاحيته للعدد، رؤيته للأحداث الجارية فى السودان.