بعد مطالبات عدة بضرورة محاسبة رموز العشرية السوداء التي تحكمت فيها حركة النهضة الإخوانية في مفاصل السلطة السياسية التونسية، خضع راشد الغنوشي رئيس الحركة للتوقيف والاحتجاز، منذ أكثر من أسبوع، للتحقيق معه بتهمة "التآمر على أمن الدولة الداخلي"، وكان القضاء التونسي قد استدعى الغنوشي للاستجواب أكثر من مرة في تهم تتعلق بالانضمام لتنظيم إرهابي، وغسيل أموال لصالح وفاق إرهابي.
في كل مرة، يخاطب الغنوشي جمهوره إعلاميًا كي يؤكد لهم أنه برىء من كل هذه التهم، وأنها مجرد مكائد سياسية، مستشهدا بعدد كبير من المؤلفات التي كتبها عن الحريات والديمقراطية، واصفًا نفسه بأنه "مُنظر الوسطية والاعتدال"، وهي الصفة التي تروجها له كذبًا جماعة الإخوان الإرهابية، وفي بيان لها صادر عن جبهة لندن رفضت الجماعة احتجازه ومثوله أمام القضاء، لأن له "مكانة فكرية وسياسية"، هذه المكانة التي تبرزها الجماعة الإرهابية كي تشفع له لم تكن إلا مكانة زائفة ترددها أبواق الجماعة في كل بلد، خاصة أن الغنوشي سخَّر جهوده الفكرية لخدمة المشروع الإخواني التخريبي، ولأن الإخوان في تونس أقاموا في بلاد أوروبية وقللوا من تأثير فروع إخوانية عليهم فإنهم تمكنوا من إضفاء نوعا من البريق على أفكار الجماعات وفكر جماعة الإخوان الإرهابية.
لم يكن الغنوشي إلا واحدا من هؤلاء المفكرين الذين فعَّلوا قدراتهم ومارسوا دورهم لتضليل الشعوب العربية، من خلال تلميع فكر الجماعة، وتطوير فكر مُنظر التطرف سيد قطب كي يتلاءم مع الظروف العصرية.
استغلال المرأة
أبرز الأمثلة هنا الموقف من المرأة والعمل، ففي الوقت الذي يطالب فيه سيد قطب المرأة بعدم الانجرار وراء العمل وتقليد الدول الاشتراكية والكافرة، وتفضيل المكوث في البيت لتربية الأبناء، فإن الغنوشي طالب بخروجها وكي يبرر مخالفته لـ"قطب" ولمن سبقوه ممن رفضوا خروجها للعمل، لفت الغنوشي إلى فائدة ونفعية تعود على الجماعة، وهي عدم ترك المصالح والمؤسسات في يد نساء خرجت للعمل لكنها ليست تحت سيطرة الجماعة، فمن الأفضل بل والواجب هو خروج المرأة الإخوانية لمزاحمة غير الإخوانية للسيطرة على المؤسسات، وعدم تركها لأخريات لسن من عناصر الجماعة الملتزمين بخططها في السيطرة على المصالح الحكومية واختراق المؤسسات الحيوية، فهنا تصبح المرأة عنصرا وجندا في معركة الجماعة التي تهدف للاستحواذ على مفاصل الدول.
بالنظر إلى رأي "قطب"، فإن المرأة التي تفضل العمل مضيفة في فندق أو سفينة أو طائرة أو تفضل الإنتاج المادي بصورة عامة فهي تساهم في التخلف الحضاري وتشترك في الجاهلية. هذه الرؤية المتشددة في التعامل مع المرأة دفعت المنظّرين الآتين بعد “قطب” للتعديل منها قليلًا بحسب حاجتهم للاستغلال والاحتيال، فزعيم الجماعة في تونس، راشد الغنوشي، في كتابه "المرأة بين القرآن وواقع المسلمين"، يختار للمرأة أن تخرجَ للعمل لتعيل أسرتها، والأهم من ذلك هو أن تزاحم الآخرين، فتتمكّن نساء الجماعة من السيطرة على المناصب في المؤسسات بدلًا من تركها لمن هم خارج الجماعة، مع الحفاظ على الدور الأساسي للمرأة في التربية وإعداد الجيل المسلم المنتَظَر.
ولا يشعر "الغنوشي" بالحرج أمام رؤية “قطب”، وهو الزعيم الأكبر للجماعات المتطرّفة، فيبرّر وجهة نظر الأخير بأنها مرتبطة بزمنٍ سادت فيه ثقافة المستعمِر الغربي في الأوطان العربية، فكان يخشى على المرأة من طريقة الملابس والاختلاط ومن فِتن الزمن، لكن التحولات التي أحدثتها الجماعات في المجتمع العربي يُغري المرأة الآن بالخروج ومتابعة الاستحواذ والاختراق لكلِّ المؤسسات البعيدة عن أيديهم؛ بحسب كتاب الغنوشي "المرأة بين القرآن وواقع المسلمين".
تبرير العنف
في الوقت الذي يواجه فيه الغنوشي تهمًا متعلقة بالإرهاب، ويشاركه في الاحتجاز والاستجواب نائبه الأول علي العريض، وزير الداخلية ورئيس وزراء في فترة العشرية الإخوانية، ونائبه الثاني نور الدين البحيري وزير العدل الأسبق، ويواجه أعضاء حركة النهضة وبعض الدعاة ورجال أعمال تهمة تسفير الشباب إلى بؤر التوتر والعنف، ومنح جوازات سفر غير قانونية للعائدين من مناطق النزاع، وسط كل هذا فإن الغنوشي الذي يصف نفسه بالوسطية والاعتدال لم يتعامل فقط مع الإرهابيين بحسب التقارير ودعوات الاستجواب، بل ذهب قبل سنوات لتبرير أعمال العنف والإرهاب في مؤلفاته بحجة أنها تأتي بسبب المضايقات السياسية.
في تطرقه لمشكلات التطرف، برر الغنوشي العنف بأنه نتيجة لتضييق العمل الدعوي والسياسي من السلطات، لذا جرها ذلك لتكفير الأنظمة وإعلان الحرب عليها. فإعلان الحرب هنا ليس محلًا للرفض إنما انتقاده موجه للسلطات التي ضيقت العمل الدعوي على الجماعات، أما القتل الذي تلجأ إليه فيدينه بصورة جزئية ومحدودة، لأنه قتل عشوائي لا يميز بين المسالم والمقاتل، فالقتل هنا أيضا ليس محلا للنقد بل العشوائية، ثم يوجه نقدا للجماعات وكأنه نصيحة، وذلك عندما يتحدث عن أسباب القتل العشوائي ويرجع بعضها إلى ضحالة "مفهوم الجهاد" لدى الجماعات، لأن الفهم الجيد سيوضح "موازين القوى" التي ترجح أي الطرق المناسبة المستخدمة في إزالة المنكرات القائمة، والتي تحدد عامل الاستطاعة، بما يعني أنه لا يعترض على القتل بل يعترض على إعلان الحرب في وقت موازين القوى لصالح الأنظمة، أو إعلان الحرب قبل الاستطاعة.
تشدد مؤلفات الغنوشي على مفردات مثل الحريات والديمقراطية والتعددية، لكن صميم فكرته تناقض كل هذه الشعارات التي يرددها، فالغنوشي الذي يؤمن بالتعددية يؤمن بفكرة لا تقبل التعددية أبدا وهي أن الإسلام طالب بوجود دولة، وجاء بقيم يستحيل تنفيذها دون وجود نظام سياسي، وأن إيجاد نظام سياسي واجب على المسلمين، وواجب على العلماء الاجتهاد لوضع تفاصيله، وواجب على المسلمين تأسيسه أو إصلاحه إن كان موجودا، بما يعني أنه لن يقبل إلا بنظام إسلامي حسب فكره، فإن لم يكن موجودا فهو مأمور بإيجاده، وإن كان قائما بالفعل فهو مأمور بإصلاحه، والمعنى هنا هو الواجب الديني بما يعني تركه إثمًا، ساعتها سيكون ترك أي فرص لمشاركة التيارات الأخرى التي لا تحلم بالمشروع الإسلاموي نوعًا من الإثم.
خداع الشعوب
في أواخر الثمانينيات، زار المفكر المصري الراحل فرج فودة تونس، والتقى عددًا كبيرًا من شباب الحركات الإسلامية، وقارن بين ما يؤمنون به وما يصدر عن قيادات هذه التيارات من شعاراتٍ وأفكارٍ تأخذ الصورة الليبراليَّة لتسهيل خداع الأفراد والمؤسسات المتخوِّفة من تجربتهم الوشيكة.
حينئذ، أطلق فودة تسمية “حزب لا بأس” على حركة النهضة التونسيَّة، وذلك لقدرتها الفائقة على خداع المتربِّصين بها، فهي -بحسب فودة- تتبنَّى معك أي شيء، وتوافق على كل شيء، وتنثني معك أينما انثنيت، وعبثًا يذهب جهدك إن حاولت إحراجها. وهذه العبارة تشرح قدرة حزب النهضة على نفاق المثقفين والليبرالييِّن، وسعيه الدؤوب لطمأنَة الرأي العام، ولصناعةِ وجهٍ بريءٍ لهذا التيَّار، حيث يخبرنا فودة أن محاولة وضع الحزب في مأزق لمجرَّد توجيه أسئلةٍ من نوع: ما موقفك من صناعة الخمور لو وصلتَ للحكم؟ لأجابك لا بأس. والسُفُور؟ لا بأس. ولباس البحر؟ لا بأس. والاختلاط؟ لا بأس.
ولاية غير المسلم، واحدة من القضايا التي تشرح تلاعب وخداع الغنوشي كمثال، فهو حينما يرد على هذه المسألة يشرح أولا أن رفضها يجلب الهجوم، وأنها عمليا لن تتحقق لأن غير المسلم ليس له شعبية تمكنه من الوصول إلى البرلمان أو الرئاسة، ويلمح بطرف خفي لضرورة الاستفادة من قضية عمليًا لن تحدث، كأن ترفع الحركات شعار ليس هناك ما يمنع ولاية غير المسلم لو تحققت له شعبية جارفة وتمتع بالعدل، وهذه القضية توضح طريقة تركيز الغنوشي على اللعب بورقة العدل وحرية الشعوب في الاختيار، ثم يندفع في قبول الفكرة التي يتاجر بها فيشرح أن ولاية أحد المنتمين للأقلية الدينية يدفعه للتردد في القمع.