الإثنين 25 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

تقارير وتحقيقات

أينما تكونوا تحرُسكم مصر| من فزع الحرب في الخرطوم لبر الأمان بالقاهرة.. حكايات يرويها العائدون من السودان (ملف خاص)

طائرة مصرية لإجلاء
طائرة مصرية لإجلاء العالقين في السودان
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

ظُروفٍ حالكة الظلمة والقسوة؛ عاشها المصريون المُقيمون في السودان، بعد أن تبدلت الأوضاع الهادئة نسبيًا بين ليلة وضحاها لبركان غضب عسكري ثائر؛ يبث الرعب والفزع في قلوب القاصي والداني؛ فمروحيات الطائرات الحربية لا تتوقف عن التحليق في السماء؛ وباتت الدبابات تملأ الشوارع، وسط استمرار قصف غاشم ورصاص طائش لا يُفرق بين مدني وعسكري؛ جاء تحرك مصر بالفعل لا بالقول، لإجلاء رعاياها وآخرين حول العالم، تاركة رسالة مُفادها أينما تكونوا تحرُسكم مصر - فمن ليبيا واليمن تارة، ومن الصين وأوكرانيا وأفغانستان والسودان تارة أخرى، كانت يد مصر العليا مغيثة العالقين. 

نور سمير: الأشقاء في السودان ساعدونا للهروب.. والجيش حملنا لبر الأمان

"عُمرنا ما جه في دماغنا إنهم يرجعوا بالهدوم اللي عليهم".. تلك الجملة القاسية بدأت بها والدة طالب الفرقة الثالث بالثانوية العامة في السودان نور محمد سمير، حديثها لـ "البوابة نيوز"، بعد أن جاءت الحرب هادمة لأحلام أسرة مصرية بسيطة تعيش بإحدى قرى مركز قويسنا بمحافظة المنوفية، والتي كانت تعتقد أن مُكوثهم بالسودان سيمتد لسنوات طويلة. 

فبعد 12 عامًا من عمل الزوج مُحاسبًا في إحدى الشركات بالسودان؛ والتحاق الابن البكري للأسرة بالثانوية السودانية؛ أتت الحرب طاوية سنوات العمل والتعلم، قاطعة مسار التخطيط لالتحاق البنت الصغرى للأسرة بالثانوية السودانية – أسوة بأخيها - بعد اندلاع حربٍ قاسية ألمت وآلمت سودانًا شقيقًا. 

يسرد الطالب الذي حصل على المركز الأول في الصف الثاني الثانوي بمدرسة العالمية في السودان؛ لـ "البوابة" كواليس رحلة إنقاذ حياته هو وأبيه من جيحم الحرب لبر الأمان؛ بعد أن انتشلتهما طائرة حربية أقلعت من القاعدة الجوية بـ وادي سيدنا هابطة في مطار شرق القاهرة؛ بعد اندلاع حرب قاسية توشك على تدمير الأخضر واليابس في العاصمة السودانية الخرطوم. 

عاش "نور" برفقة أبيه لمدة عامين بالسودان، وتحديدًا بالقرب من منطقة المطار في العاصمة السودانية الخرطوم، بعد أن أقنعته أسرته بالسفر مع أبيه لاستكمال مسيرته التعليمية في السودان؛ ليلتحق بالصف الثاني الثانوي بمدرسة العالمية، فتفوق دراسيًا وحصد المركز الأول على زملاءه في المدرسة، وهو الأمر الذي دفعه للاستمرار والالتحاق بالصف الثالث الثانوي في المدسة ذاتها، أملًا في تحصيل أعلى الدرجات ومن ثمّ العودة إلى وطنه مصر؛ والالتحاق بإحدى جامعاتها.   

ويكمل قائلًا: "كانت الأمور تسير بطبيعتها المُعتادة في الخرطوم قبل الـ 15 من أبريل 2023؛ ولكن في اليوم المذكور انقلبت الدنيا رأسًا على عقب؛ بعد اندلاع اشتباكات مُسلحة دامية لا تفرق بين مسلحٍ وأعزلٍ؛ لتتبدل الحياة الهادئة والروتينية لحجيم مُتواصل الليل بالنهار؛ وبات الموت أقرب ما يكون للإنسان. 

على مدار 7 أيام منذ اندلاع الاشتباكات في الحي الذي أسكن فيه بالقرب من حي المطار في العاصمة الخرطوم؛ بكثت أنا وأبي في عزلة وظلام دامس، فالتيار الكهربائي مُنقطع بشكل شبه مستمر؛ وشح المياه ضرب الحي الراقي فيما اختفت تمامًا خدمات الإنترنت والاتصالات؛ ولا يسمع إلا أصوات المدافع والرشاشات ولا يُرى سوى الجُثث والحرائق والانفجارات، وأصبحنا مُحاصرين داخل جُدران منزلنا.. فالخروج من المنزل يعني الموت المُحقق. 

ويُضيف الطالب العائد من حجيم الحرب في الخرطوم، فسدت السلع الغذائية المُخزنة في الثلاجات، وتزامن ذلك مع ارتفاع درجات الحرارة وصيام رمضان؛ ولم يبقى لدينا سوى "خبزًا ناشفًا و4 زجاجات مياه فقط" وهو ما مكننا للعيش 10 أيام على قيد الحياة؛ إلى أن تمكن صديقًا لأبي للوصول إلينا وكان هو طوق النجاة لنا، من بؤرة الجيحم  وفك حصارنا.   

بعد 10 أيام من اندلاع الاشتباكات، تمكن أحد العملاء بالشركة الذين كانوا يعمل بها والدي منذ 12 عامًا في السودان، من مساعدتنا على الهروب من حي المطار في العاصمة السودانية الخرطوم، قاصدين حي الطائف على أطراف الخرطوم ليفتح لنا "الصديق السوداني" منزله، مُلبيًا كل مُتطلباتنا من مأكل ومشرب وإقامة. مؤكدًا لـ "البوابة نيوز": "الأشقاء في السودان عملوا معانا حجات جميلة لم تكن في الخيال.. وهم أصحاب الفضل في هروبنا من جحيم الحرب". 

يكمل "نور" قائلًا: أيام معدودة وتمكن الأشقاء في السودان من تأمين رحلتنا من حي الطائف في الخرطوم وصلًا إلى القاعدة الجوية بمنطقة وادي سيدنا، والذي مكثنا بها 3 أيام؛ فيما كانت مصر تسير جسورًا جوية يوميًا للقاهرة لنقل المصريين من السودان، وكانت الأولوية لكبار السن والمرضى وذوي الهمم والحوامل والأطفال؛ لافتًا إلى أنه فور إخبار السلطات بالمطار بعُاناته من مرض السكري، كان في صباح اليوم التالي صاعدًا برفقة أبيه على متن طائرة حربية نقلتهم إلى مطار شرق القاهرة، ومنه إلى منزلنا بمركز قويسنا بمحافظة المنوفية.

شاذلي محمد: الخارجية طمأنتني.. وجيشنا أنقذ ابني من بركان حرب السودان

سرد والد الطالب بالصف الثاني بكلية الطب البشري في الخرطوم، مُصطفى شاذلي محمد، لـ "البوابة نيوز" كواليس رحلة عودة نجلة من قلب النار لبر الأمان في القاهرة، مُؤكدًا أن نجله كان يقطن في شارع الـ 60 بالخرطوم، وفور اندلاع الحرب السودانية؛ انتقل بعد نحو 3 أيام لـ حي المعمروة جنوب العاصمة الخرطوم بمساعدة عدد من الزملاء السودانيين؛ ولكن كان الخطر يقترب منهم كلما فروا منه؛ فالوصول إلى المعمروة لم يكن سهلًا على الإطلاق خاصة وأن الدوريات العسكرية التابعة للدعم السريع استوقفتهم؛ ولكن بيان حالتهم وجنسيتهم المصرية كانت بطاقة العبور وسط الرصاص والقذائق التي تكاد تواصل الليل بالنهار. 

ويضيف "شاذلي" والقيم بمحافظة الفيوم، مكث نجلي برفقة زملاءه بالمعمورة 4 أيام؛ وفي اليوم الخامس والوافق 22 من أبريل تواصلت مع وزارة الخارجية المصرية طالبًا المُساعدة لإجلاء نجلي وأصدقائه من بركان الغضب العسكري الذي يجتاح الخرطوم. 

ويُكمل الأب لـ "البوابة نيوز" قائلًا: "كان اتصالي بالخارجية مُجرد استكمالًا للمساعي المُتعددة لإنقاذ نجلي؛ وكنت أظن أنه لن تكون هناك استجابة - وربما لن يتم الرد من الأساس على اتصالاتي- خاصة في ظل الأوضاع المُلتهبة وتواجد آلاف المصريين في السودان؛ ولكن مُكالمتي للخارجية كانت مُطمئنة لأقصى درجة مُمكنة.

وأكد مسؤول تلقي الاتصالات بوزارة الخارجية المصرية استجاب للاتصال على الرحب والسعة؛ وبعث بالعديد من رسائل الطمأنينة؛ واستمع للقصة كاملة وتلقى أيضًا أرقام التواصل مع نجلي وكافة المعلومات المُتاحة لدي؛ وهو الأمر الذي ترتب عليه اتصالًا عاجلًا من السفارة المصرية بالخرطوم بنجلي؛ قائلًا: "مندوب السفارة كلم ابني وسأله عن عدد المصريين الذين برفقته وكانوا 7 طلاب" ليرد عليهم مسؤول السفارة المصرية بالخرطوم قائلًا: "خليكوا في أماكنكم واحنا هنيجي ناخدكم نوصلكم لبلدكم". 

لم يمر سوى ساعات معدودة؛ حتى تلقى الـ 7 طلاب كلًا على حدى اتصالًات آخرى من السفارة المصرية بالخرطوم تُخبرهم بمكان تواجد السيارات لنقلهم وتأمينهم لمسافة 40 كيلو مترًا لمنطقة وادي سيدنا والتي تقع فيها القاعدة الجوية؛ والتي منها يتم تسير الجسور الجوية لمصر .

 

 ويستطرد الأب الذي كان يعيش حالة من الرعب والهلع خوفًا على فلذة كبدة منذ اندلاع الشتباكات، قائلًا: "القاعدة كانت تضم العديد من الجنسيات المتعددة؛ ومكثوا بها 3 أيام، مُأمنين بعيدًا عن الصراع المسلح التي تشهدها أزقة وشوارع الخرطوم وضواحيها؛ لافتًا إلى أنه خلال الـ 3 أيام كان يُوزع عليهم زجاجات المياه والأطعمة والعصائر. 

ويختتم الأب حديثه مع البوابة نيوز قائلًا: "مكنش فارق معايا أي حاجة غير رجوع ابني بالسلامة.. احنا حقيقي عايشين في بلد كبيرة وقيادة حكيمة.. كون إن الجيش المصري يحرك طائرات لرجوعهم لأوطنهم.. فهذا فخر وعزة يعجز اللسان عن وصفه.. فكل الشكر والسيادة والريادة للقيادة الحكيمة". 

محمود السيد: أهالي رام الله السودانية خاطروا بأنفسهم من أجلنا.. والسفير المصري لم يتأخر في المساعدة

"حين اندلعت الحرب في رمضان، كنت أعتقد أنها فترة قصيرة وستنتهي مثل المظاهرات التي عاصرها من قبل في السودان؛ ولكن ساءت الأوضاع سريعًا وطال الدمار أغلب الخرطوم، بما فيها منطقة شرق النيل التي أقيم بها؛ وحاصرت قوات الدعم السريع سكني وبات الدخول والخروج مُحرمًا خوفًا من موت مُحقق". هكذا بدأ ابن مركز طهطا بسوهاج محمد السيد، والطالب بكلية الطب البشري بجامعة المنهل حديثه مع "البوابة" راويًا كواليس هروبه من حرب السودان حتى وصوله إلى معبر أرقين المصري الحدودي. 

ويقول "السيد" اشتد وطيس الحرب وبدأت قوات الدعم السريع في مُواجهة قوية مع الجيش بالأسلحة الثقيلة والخفيفة؛ حتى أن كثافة الرصاص كانت تخترق الحوائط؛ وأصبحنا محبوسين مُحاصرين داخل غرف السكن مغلقين الأبواب والنوافذ؛ ومع شدة الاشتباكات كان النزول للدور الأرضي ضروريًا؛ خوفًا من انهيار المبنى الذي يضم 4 طوابق أغلبهم من الطلبة المصريين فوق رؤوسنا. 

ويضيف، عايشت النزاع العسكري الذي يواصل الليل بالنهار لمدة 7 أيام بحي النصر بمنطقة شرق النيل؛ وسط انقطاع تام لـ الكهرباء والمياه ونفاذ المواد الغذائية وفساد ما كان تم حفظه سابقًا في الثلاجة؛ فلا مأكل ولا مشرب، ونهاية الحياة تقترب كل يومٍ عن اليوم لآخر.

ومع وصول نحو 32 عربة مُصفة تابعة لقوات الدعم السريع في اليوم الرابع من الاشتباكات ازدادت الأوضاء سواءً؛ واقتحمت قوات الدعم السريع مسكننا بالأسلحة؛ والذي يحتوي على (3 شقق بنات + شقة بنين) وسط تهديدات ونهب وسرقة للمتلكات الخاصة؛ ولكن حسن الحظ كان الاقتحام لـ الشقة التي يسكن فيها 7 طلاب من البنين. 

اقتحام الشقة دفعنا لاتخاذ قرار الهروب واللجوء بعيدًا عن فوة الجحيم في شرق النيل؛ ولكن القرار كان صعبًا وخطرًا للغاية؛ وسط انعدام شبه تام للمواصلات وارتفاع أسعارها لـ 5 أضعاف بسبب اختفاء البنزين؛ ولكن كان أمامنا خياريين: الأول الذهاب لولاية الجزيرة خارج الخرطوم؛ والثاني اللجوء لمنازل أصدقائنا السودانيين في منطقة رام الله الريفية وهو ما وقع عليه الاختيار. لزيادة الأمان. 

دارت بيننا نحن الطلبة مُشاورات ومُناقشات بشأن طريقة الإنتقال والهروب، وتمكنا من إبرام اتفاق مع سيارة ميكروباص لتنقل نحو 32 طالب وطالبة مصريين على دفعتين لمنطقة رام الله الريفية؛ ولكن قوات الدعم المحاصرة للسكن رفضت خروجنا؛ لولا صاحب السكن ذلك الرجل السوداني الذي ظل يتفاوض لأكثر من ساعتين متواصلتين حتى تمكن من انقناعهم وأخيرًا سُمح لنا بالخروج. 

ترجلنا لمسافة ليست بالطويلة؛ واستقلينا الميكروباص متوجهين إلى رام الله؛ ولكن يبدوا أن الحظ السيء يتعقبنها؛ فبعد تحرك الحافة بدقائق معدودة؛ نفذ الوقود وتعطلت السيارة على مقربة من معسكر للدعم السريع؛ ليبدأ تبادل النيران العشوائي مع قوات الجيش؛ فتواصلنا مع زملائنا السودانيين وكان لهم الفضل في سرعة إسعافنا وإنقاذنا من هلاك يلاحقنا من جديد. 

ساعات معدودة؛ ووصل 32 طالبًا وطالبة مصريين إلى رام الله السودانية؛ ليفتح أهالي القرية أذرعهم لنا بالترحاب مُوفرين لنا أماكن للإقامة والمأكل والمشرب مجانًا؛ وكانوا يُلبون لنا كل مُتطلباتنا.. بل وصل الأمر للمخاطرة بأنفسهم من أجلنا"؛ على مدار يومان كاملان مكثنا في رام الله حتى استقر الأمر على التحرك بـ"الباصات" نحو المعابر الحدودية المصرية السودانية؛ مؤكدين أنهم كانوا يتواصلون مُباشرًا مع السفير المصري بالسودان الذي لم يتأخر عن مساعدتهم؛ ولكن كانت الخطورة في وصولهم؛ فاجمعوا على السفر لـ معبر أرقين.

بعد معاناة كبيرة؛ تمكنا أخيرًا من الاتفاق مع ساق حافة لنقلنا لـ معبر أرقين الحدودي؛ ولكن سعر الذكرة التي كان يبلغ 20 ألفًا جنيهًا سودانًا قبل الحرب وصل لـ 200 ألف جنيهًا بسبب اختفاء البنزين؛ ولكن لا خيار آخر أمامنا؛ بدأنا التحرك صباح ثاني أيام عيد الفطر حتى وصلنا لموقف الأوتوبيس بمنطقة شندي بحري التابعة للخرطوم؛ ولحسن الحظ تمكن السائق من إنهاء إجراءات التحرق في نصف ساعة تقريبًا وبعد تحرك الباص لـ معبر أرقين بساعة تقريبًا علمنا باستهداف وحرق موقف الأوتوبيس بمنطقة شندي.

يكمل الطالب محمود، سرد مسرة النجاة من قلب نار السودان قائلًا: مكثنا 48 ساعة في الطريق حتى وصلنا إلى معبر أرقين السوداني أولًا؛ التحرك بالأتوبيس كان صباحًا فقط وإذا جاء الليل نبيت في الاستراحت على أن يكون التحرك فجرًا؛ إلى أن وصلنا إلى المعبر السوداني وهنا كانت المفاجأة عدم إلغاء رسوم عبور الخروج؛ وقد سدد 30 شخصًا الرسوم إلا أنا وزميل آخر فقد نفذت الأموال؛ ولكن الظابط السوداني عافانا من الرسوم المستحقة. 

دقائق معدودة؛ حتى وصلنا لمعبر أرقين المصري لنجد الهلال الأحمر المصري في استقبالنا على الرحب والسعة؛ فرحين بعودتنا؛ ومن ثم تم إجراء علينا الكشوف الطبية والإطمئنان على سلامتنا إلى جانب توزيع المياه والأطعمة المغلفة وأدوات النظافة الشخصية؛ وكان الإستقبال راقيًا؛ إلى جانب المساعدة في إيصال الأشخاص لمنازلهم وتوفير لهم سبل النقل والمواصلات المجانية؛ أما إتمام أمور الجوازات في المعبر المصري كان في غاية السهولة والسلالة وكانت هناك سرعة كبيرة في إنهاء أختام العبور لأرض السلام والأمان. 

محمد ماهر: الحرب أمامنا واللصوص خلفنا والموت يطوف فوق رؤوسنا.. ويد مصر كانت العون والسند  

قُبيل ساعة تقريبًا من أذان مغرب يوم الخامس عشر من أبريل الماضي؛ استقظ محمد ماهر الطالب بالفرقة الثالثة بكلية الطب والجراحة بالجامعة الوطنية في السودان، على دوي أصوات الرصاص ومروحيات الطائرات التي كانت تحلق فوق مسكنه الكائن في تقاطع شارعي "جوبا والستين" وسط العاصمة السودانية الخرطوم؛ قائلًا: فتحت النافذة تفاجأت بحالة فزع كبيرة.. فأصوات الرصاص تخرق الآذان والفوضى العارمة تملأ الشوارع ودخان الحرائق يحجب رؤية السماء". فأغلقت نافذة غرفتي مُسرعًا واستقر بي الحال "تحت السرير". 

ويُضيف صاحب الـ 22 ربيعًا في حديثه لـ "البوابة" عن أهوال حرب السودان التي عاصرها، أمسكت هاتفي المحمول متصفحًا مواقع السوشيال ميديا؛ فإذا بكم كبير من الأخبار والمنشورات ومقاطع الفيديو تؤكد اندلاع الاشتباكات العسكرية بين الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية؛ صدمة كبيرة وتجربة مُخيفة ومفاجأة؛ ولكن تمالكت أعصابي مُعتقدًا أن هذه الأمور ستنتهي بعد 3 أيام على الأقصى؛ مثلما عاصرت سابقًا بعض التظاهرات في السودان. 

ولكن في اليوم الثاني؛ ازدادت الأوضاع سوءً؛ فالطائرات الحربية لا تتوقف عن التحليق في السماء؛ والدبابات تملأ الشوارع والقصف يستهدف المباني وألسنة النيران تخرج في كل مكان؛ يأتي هذا إلى جانب الأخبار السيئة والمخيفة التي يتناولها المواطنين والطلاب المصريين في السودان بشأن تعرضهم للقصف؛ كما أن المقطاع المصورة كانت توثق أهوال الحرب.. هنا تخلل الخوف والرعب لقلبي؛ خاصة وأنني وحيدًا أسكن بمُفردي في بلادٍ غربية جئت إليها طالبًا العلم... فماذا أفعل وكيف أنجوا؟ 

يكمل طالب الطب، حديثه، مكثت مختبئًا بين جدران منزلي لـ 3 أيام منذ بدء اندلاع الاشتباكات؛ بلا ماء ولاغذاء ولا كهرباء وانقطاع شبه مستمر لخدمات الإنترنت والاتصالات تزامنًا مع ارتفاع شديد في درجات الحرارة وصيام رمضان؛ فكان الطعام المُتاح "فتات الخبز.. والبيبسي بديلًا للماء"؛ بعد أن صفدت كل أبواب المحالات التجارية بالجنازير والأقفال، خشية أعمال النهب. تلك الأيام الثلاثة بلاليها ذُقت فيما مرارة الحاجة وفزع الموت حتى تمكنت من التواصل مع زملاء مصريين في الجامعة؛ اتفقنا على الهروب سويًا من أهول حرب ضروس لا تفرق بين مدني وعسكري. 

أتممنا الاتفاق فيما بيننا على مُحاولات الاتفاق مع أحد "باص النقل" لتسيير رحلة للفرار من الحرب في الخرطوم إلى القاهرة؛ مُقابل 125 ألف جنيهًا سودانيًا؛ ما يوازي 200 دولار للفرد؛ واتفقنا على نقطة تلاقي تقاطع شارع "مشتل والستين" وقد تجمع 15 طالب وطالبة (6 طالبات-9 طلاب) في نقطة التلاقي وسط انتشار مُكثف لدوريات الدعم السريع؛ فاختبئنا في الشوارع الجانبية في نقطة التجمع المتفق عليها، وأصبحنا مُحاصرين فـ "الحرب أمامنا.. واللصوص من خلفنا.. والموت يطوف فوق رؤوسنا". 

مكثنا ننتظر وصول"الباص" منذ الساعة السابعة وحتى الحادية عشر من مساء اليوم الخامس للاشتباكات؛ ولم يأتي "الباص" رغم سدادنا إلكتورنيًا جزءً من ثمن الرحلة المُتفق عليه، وهنا علمنا أننا وقعنا في "فخ النص" وأصبحنا في حيرة شديدة من أمرنا فالموت أقرب ما يكون لنا؛ ولكن يد العون مُدت إلينا من صحاب منزل كان يراقبنا في كاميرات منزله؛ فخرج متسائلًا: عن سبب تواجدنا لأكثر من 5 ساعات أمام منزله وبصحبتنا حقائب السفر؛ أخبرناه بأننا طلبة مصريين وننتظر "باص" للسفر إلى القاهرة، ففتح لنا منزله وأدخلنا لنحتمي من الرصاص الطائش الذي كان لا يتوقف؛ رغم أنباء عن هدنة 3 أيام بسبب عيد الفطر؛ وقدم لنا الطعام والشراب وكرم الضيافة. 

مرت الساعات دون قدوم الباص، ووصلتنا أنباء تشير لمقتل السائق.. واستقر الرأي على المكوث يوما آخر في سكن مؤقت يأوي البنات ويحفظ حقائب السفر من النهب؛ وبالفعل هذا ما حدث حتى تمكنا من الاتفاق مع "باص" آخر سينقلنا من الخرطوم للقاهرة؛ ولكن مُقابل 140 ألف جنيهًا سودانيًا.. وأخيرًا استقلينا الحافلة التي كانت تحمل 55 طالبًا وطالبة مصرية حتى وصلنا إلى منطقة قندهار والتي تبعد عن الخرطوم بـ 31 كيلو مترًا؛ ولكن توقف السائق وحدثنا بشأن رفع ثمن الرحلة لـ 15 ألف جنيه للفرد فوافقنا ودفعنا الثمن؛ ولكن لم يتحرك "الباص" لمدة ساعة كاملة وإذ بالسائق يطلب رفع الأجرة مرة ثالثة لـ 180 ألف جنيهًا سودانيًا وسيتم إيصالنا إلى أسوان وليس القاهرة كما كان متفق عليه سابقًا، فرفضنا وذلك بسبب نفاذ الأموال، فقام السائق بطردنا من الأتوبيس وإلقاء كافة الحقائب في الشارع ورفض رد أموالنا. 

موقف مُخزي وحيرة لا تتوقف وخيبة أمل وحسرة غير منقطعة النظير؛ فقد أصبحنا في الشارع وترافقنا طالبات وسط مخاوف من السرقة أوالاعتداء علينا؛ لكن لم يكن أمامنا سوى المبيت على الأرصفة ليلة كاملة؛ بعدها تمكنا من الاتفاق مع "ميكروباص" على نقل الـ 55 طالب على دفعتين إلى منطقة دنجلا مقابل 100 ألف جنيهًا للشخص؛ وبينما كان السائق ينتهي من عملية تحميل الحقائب أعلى السيارة؛ أخبرنا زميل مصري بالعثور على "باص" كبير يمكنه نقلنا جميعًا دفعة واحدة لـ منطقة وادي حلفة مُقابل 52 ألف شخص (يُوازي تقريبًا 100 دولار) فكان العرض الأخير فرصة. وهنا دب الخلاف مع سائق "الميكروباص" والذي رفض تسليمنا الحقائب حتى الحصول على المبلغ كاملًا وفي النهاية أعطيناه 600 دولارًا مقابل تسليمنا الحقائب فقط. 

صعدت الحقائب التي تم تحريرها من السائق الآخر إلى "الباص" صاحب العرض المُغري، وبينما نحن في الطريق وصلتنا أنباء بضرورة تحويل مسار الرحلة من الوصل إلى وادي حلفة والنزل بمطار دنقلا فهناك طائرة مصرية ستنقلنا جميعًا إلى مصر. 

وبعد عناء سفر 3 أيام من وسط الخرطوم وصلنا أخيرًا إلى مطار دنجلا؛ وهنا لمسنا حقًا جهود مصر التي لا تغيب عن أبنائها، فمنذ اندلاع الحرب لم نتواصل مع السفارة المصرية في السودان؛ ولكن فور وصولنا إلى مطار دنجلا كانت الأمور تسير بكل سهولة وبساطة وسرعة كبيرة؛ فخلال ساعتين فقط منذ وصولنا لمطار دنجلا أقلعت طائرة حربية وعلى متنها نحو 110  فردًا إلى مطار شرق القاهرة؛ وقدموا لنا عصائر ومياه على متن الطائرة؛ وفور وصولنا مطار شرق القاهرة واستُقبلنا استقبال الأبطال العائدون من الحرب.