"الناس صنفان موتى في حياتهما
والآخرون ببطن الأرض أحياءُ"
أحمد شوقي
فقدت مصر عالمة جليلة ومناضلة حقيقية، هى الدكتورة ناهد يوسف.. تعرفت على هذه الإنسانة النبيلة في بيروت 1978 في منزل المفكر محمود عزمي بالروشة بصحبة زوجها الكاتب عادل حسين والذي كان قد انتهى من الجزء الثاني من كتابه "الاقتصاد المصري من الاستقلال إلى التبعية"، ودار نقاش كبير عن الأوضاع في مصر وسمعت آراء د. ناهد وأدركت أنني لست أمام سيدة جميلة أنيقة بل عالمة تحمل أفكارًا عظيمة لا تقل عن جمالها وحضورها الإنساني وأناقة أفكارها التي تتناسب مع أناقة ملبسها، والتقيتها للمرة الثانية في ضيافة الزعيم الفلسطيني الشهيد صلاح خلف "أبو إياد" بحضور نخبة من المناضلين منهم الكاتب المصري ميشيل كامل والقائد الفلسطيني المصري فاروق القاضي والكاتب الكبير مصطفى الحسيني، وكان اللقاء علي شرفها هي وزوجها عادل حسين، وبعد العشاء دار حوار حول الأوضاع في مصر والقضية الفلسطينية وفوجئت بشكر أبو إياد للدكتورة ناهد على علاقتها بمنظمة التحرير الفلسطينية، وكيف قدمت خدمات كثيرة ومنها إخفاء قيادة فلسطينية هربت لمصر من الاحتلال الإسرائيلي.. وابتسمت د ناهد وهي تقول: "تربينا على أن فلسطين قضية مصرية".
كتبت عنها الصديقة الزميلة إيمان رسلان: (تربطنى بنانا هكذا أناديها علاقة خاصة جدا جدا أحببتها من كل قلبى ليس فقط لأنها فى مقام الأم أو تشجيعها لكل من يطلب منها المعونة ولكن كأستاذة ومفكرة عظيمة ومناضلة صاحبة رأي واضح فيما يدور حولنا وفي عملها، وهى من الرائدات فى العمل ليس الوطنى والسياسى والنسائى وإنما الصناعى، كان كتابها عن صناعة الدواء وأسراره علل ودواء وهى أحد رموزه المهمة والمؤسسة فى تصنيع وتأسيس هذه الصناعة الوطنية والحساسة للأمن القومى المصرى وتوفير الدواء للداخل فى مصر لأننا نملك الكوادر والعقل النابغ، وهى كانت أحد هذه العقول البارة والكتاب الذى أصدرته مؤخرا وبعد إلحاح لتوثيق التجربة كتاب قيم للغاية وإنسانى جدا، وأنصح بقراءته لأنه وثيقة حية على هذه الصناعة الوطنية بل عن مصر وهو شهادة الأستاذة فى هذا المجال المهم).
…
تخرجت في كلية الصيدلة وذهبت في بعثة إلى إنجلترا وتعلمت صناعة الدواء وبعد عودتها من إنجلترا عينها د. أبو العينين رئيس مجلس إدارة النيل للأدوية في الشركة، وأصبحت مسؤولة عن أهم قسم في الشركة وهو الأنبول الذى لا غنى عنه لأي مريض وكان يباع رخيص جدا، وتقول السيدة العظيمة ألفت علي: كانت مهمومة بالكادحين بالمصنع وتقف مع العاملين المضطهدين وكنت وقتها مسؤولة عن التنظيم النسائي للاتحاد الاشتراكي لقسم الزيتون والمطرية التي تضم أهم مصانع الدواء في مصر.
ويكتب عنها المهندس سعيد أبو طالب: (الدكتورة ناهد يوسف رحمها الله كانت مدير عام مصنع الأمبول فى شركة النصر للزجاج والبلور وأنا كنت مهندس صغير فى مصنع القوارير، التحقت بالمصنع عام 82، قادت حركة مهندسى المصنع احتجاجا على تعيين رئيس مجلس إدارة من الحديد والصلب رغم وجود من يصلح لهذا المنصب فى الشركة وهو الكيميائى على عيسى، لم تنجح حركة الاحتجاج طبعا، طوال فترة عملها كان لها رأى تعتز به وتدافع عنه)..
بعدها انتقلت من شركة النيل للأدوية إلى مصنع ياسين للزجاج بإلحاح من رئيس مجلس الإدارة فكانت تصنع العبوات الزجاجية التي لا تتفاعل مع الدواء فكانت تنتج ملايين العبوات الزجاجية لجميع مصانع الدواء في مصر.
اللقاء الثالث كان في القاهرة بمنزل المناضلة فاطمة زكي في حضور زوجها المحامي العظيم نبيل الهلالي، وأدركت العلاقة التاريخية بينهما منذ أن عملتا معا فى التنظيم النسائي قسم عابدين التابع للاتحاد الاشتراكي وعرفت من حوارهما كيف كانت د.ناهد كانت قيادة في التنظيم الطليعي ومسئولة عن وضع خطط الدواء للتنظيم ومنها للمسئولين.
ولا يتوقف دور راحلتنا العظيمة على النضال السياسي بل قالت لي الصديقة ألفت على أن أثناء فترة سجنها اخذت د. ناهد يوسف ابنها سامح وأشرفت عليه وعلى دراسته.
أيضا كانت عالمتنا العظيمة تركت خبرتها في كتاب بعنوان: "دواء وعلل قصتي مع صناعة الأدوية من الازدهار إلى الأزمة".. وفى التعريف بالكتاب، نقرأ: (هذا الكتاب ليس مجرد سيرة ذاتية. بل هو سيرة بناء وتطور صناعة الدواء في مصر، والتي تعد جزءا من سيرة بناء وقصة تطور الصناعة، وخاصة القطاع العام الصناعي. لكنها في الوقت نفسه ليست سيرة موضوعية، لأن صاحبتها هي واحدة ممن ساهموا في رسمها وتنفيذها. وهكذا، تختلط المشاهد الشخصية والذكريات بالمشاهد العامة لتحكي القصة عن أبطالها غير المعروفين).
هكذا كانت راحلتنا العظيمة د. ناهد يوسف ليست إنسانة نبيلة فقط بل عالمة ومثقفة مثلما كتب المفكر الإيطالي جرامشي "مثقف عضوي"، هكذا فقدنا إنسانة من القلة النادرة من العلماء والمناضلات.
خالص العزاء للوطن وللجماعة العلمية في ما تبقى من صناعة الأدوية وللأسرة الكريمة.