أنا أعشق الحرف حرا طليقا يطير ويحط حيث شاء وأؤمن أن الكلمات صلصالا تشكلها في البدء المشاعر ثم مخزون المعاني المكتسب، فالبعض يجمع مفرداته من معاجم الحياة والبعض يجمعها من معاجم اللغة وربما تجد نفس الصور ونفس المعنى في قصيدتي نثر وفصحى.
لا أعرف الشاعر الشاب روماني صبحي البقطر معرفة شخصية لكن واحدة من الصدف السعيدة تلك التي أهداني فيها ديوانه "التقينا في شتاء" وساقني الشغف لأن أعرف لمن وجه عنوانه ولماذا لم يترك اللقاء في العنوان غير محدد الزمان، واكتفى ب"التقينا"؟ لكني حينما طالعت الأبيات الأولى أدركت أنه قصد ما اختار وصفا مختصرا لحالة الشتاء بما فيه من عواصف وأمطار وبرق ورعد وتقلبات أشبه بتلك الحالة التي عاشها في هذا اللقاء.
في مجموع قصائد ديوانه التي بلغت العشرين كان روماني دائم الحديث مع حبيبته وخاصة في القصائد الأولى وكأنه أراد أن يبعث لها برسائل يذكرها بهذا اللقاء حتى أنه اختار عناوين بعض قصائده صريحة لهذا الأمر مثل "تذكري"، "هل تعلمين" وقبل أن يتسلل الشعور إلى القارئ بالدهشة لاستدعائه لاستعادة هذا اللقاء انتقل روماني بسلاسة ليعطي مبررا للقارئ إذ وضع عنوانا أشبه باعتذار للقارئ كان "تشغلني"، تلك القصيدة التي بدأ بسؤال لكل من حوله: هل جاءت أخبار عنها؟، والبديهي أن نتسائل جميعا من هي؟ من تكون؟ لذا انتقل في نفس القصيدة من السؤال للجواب بوصفها كما يراها قلبه، ثم عاد ليصف ذلك اللقاء بأنه لم يكن حبا عذبا برغم جمال وصفها ولكنه كان "جرح السنين".
اختلطت واختلفت المشاعر وتناحرت بتناحر ظواهر فصل السنة الذي اختاره، فما تلبث أبيات قصائده أن ترى صفاء العلاقة حتى تحجب غيوم الفراق الشمس فيكتب لها "حين تغيبين" في وجه الريح تخار قواه فيناشدها البقاء.. يشعر ببرد اللقاء وبرودته فلا يتعالى ويصرخ "ضميني"، لكنها تعصف بكل هذا الرجاء فيشعر بغربة الزمان، وكأن هذا الفصل من العام ليس أوان طرح ثمرة الحب وكأن اللقاء كان لابد أن يكون في الربيع، ولا يدري أهو من تعجل أوان النضج أم هي من استعجلت موسم الفراق.
يتحول خرير كلماته إلى حمم من نار فيتهمها بأنها قاتلته وأنها زرعت هما في القلب وتظهر في مفرداته حيرة المحب ما بين التمني والواقع، فيخلع عن نفسه رداء الهلاوس ويطلب العذر من القارئ متعللا بأن كلماتها نغم.. وفيما يبدو أن بطلة ديوانه استاءت من فضح مشاعره أمام الجميع فصرفت عنه وجهها قبل قلبها فعاد لها بصيغة الرجاء: "كوني بجواري" ولن أخبر أحدا بحبك، لكنها تصر على رحيلها فيترك لها سؤالا لم يجد له إجابة: لماذا التقينا؟.
المفردات جاءت سلسلة ومتطابقة في معظمها مع هذه العلاقة غير المستقرة، لكن في مثل هذه العلاقات كنا نحتاج أن نغوص بالصورة أكثر في تفاصيل هذه العلاقة فبرغم محاولة الشاعر تعريفنا بتفاصيلها إلى أنه بدا في بعض المواضع أنه يتحفظ على الإفصاح خشية العقاب مع أنه قد وقع الهجران، ربما ترك ذلك أثرا فخاف أن يفقد ما تبقى له من ذكريات وأراد أن يجعل للحكاية بقية.. فاختار لحبيبته اسم ليلى ذلك الأكثر شيوعا في قصص الحب التي تنتهي بالهجران.. لكل منا ليلاه لذا كان لابد أن يرهق روماني روحه أكثر في البحث عن وصف يتميز به عن غيره مادام اختار الاسم الدارج عنوانا.
وأخيرا هو يضع قلمه في مدواة الشعر بجرأة ما لديه من موهبة لا يجب أن يضعها في إطار بل عليه أن يهدم كل جدار يحول بين حرفه وفضاء الخيال الرحب.. وأظن أنه وكما أجاد في اجتياز اختبار الشتاء سيفوح عطر حرفه في ربيع الكلمة.