ها أنا ذا أعود بعد أسابيع من التوقف لمملكة السلطنة، أعود إلى ما أحب، أعيد مزاجي لمؤشره الطبيعي بعدما عبث بعض الأشخاص والمواقف به، لا أنا ولا غيري نستطيع إنهاء حالة العبث لدى الأشخاص والأشياء لكن نستطيع إعادة ضبط تردد الوجدان، المهم السرعة في التخلص مما يعرك صفو الروح، ولأن ثومة هي طبيبة المزاج وأول دواء في روشتة العلاج كان لابد أن نستمتع أكثر بالجلوس في غرفة طربها قبل الانتقال للقاء عبد الوهاب ثم كل قياثير الطرب في مملكة السلطنة.
ولك أن تعرف يا صاح أن إعادة المزاج لطبيعته ليست بالأمر الهين لكنها مكلفة فما عادت الأجواء كالماضي، أن تأتيك أم كلثوم بفرقتها على راديو بحجاير، أو أن تسمعها لساعات دون الأخذ في الاعتبار استهلاك الكهرباء، كما أنه لم يعد هناك أسطوانات ولا شرائط كاسيت من صوت الفن، هذا غير صخب البيوت والشوارع وتغير ذائقة الأجيال ما بين قمم الجبال وسفوحها. لذا كانت تطلعاتي أن يكون لي مكان مستقل وأمام غلاء الوحدات السكنية كانت سيارة "سيات" هي الحل لكني شعرت أنها لا تليق باستضافة ثومة وفرقتها وجمهورها فأخذت كل سنتين اتخفف من هذا الحرج بتطوير السيات إلى 128 ثم 131 ثم ريجاتا ثم شاهين حتى دخلت الألفية الثانية بعد انتهائها بونبيرا عجوز لكنها رصينة تحقق لي الغرض، وفي النهاية وجدت ضالتي انا والمذياع وأم كلثوم وحدنا لا يهم الوقت المهم هو البنزين فمقدمة حفلات أم كلثوم وحدها تحتاج سفر لكن لا بأس بقليل من النفقة في سبيل تحقيق متعتك الوحيدة التي تتمناها، بنزين 85 هو الحل ولمن لا يعرفه هو كوكتيل شعبي يلجأ إليه أبناء الطبقة التي لم تعد متوسطة بتفويل بنزين 80 ووضع بنزين 92 ككاتشب على رغيف العيش لإيهام النفس أنها شطيرة باللحم.
منتصف الليل على خط 12 وهو طريق خلفي لقريتي يصل بين مدينتي بنها والقناطر يداعب القمر وجه النيل فيبتسم، تتراقص ظلال المصابيح مع الموسيقى ويخرج الهواء من محبسه يجري بلا وجهة كأطفال فتحت لهم بوابة المدرسة بعد يوم دراسي ثقيل.. رشفة قهوة وإعلان من ثومة مصحوب بجلال الرفض لكل الظروف والأشخاص الذين عكروا أمزجتنا.. أنا لن أعود إليك
إذا ستغني الست قصيدة "قصة الأمس" لذلك الشاعر الذي عذبته الحياة كما عذبه الشعر والحب، في الحقيقة هم كثر لكن وحده أحمد فتحي من استطاع أن يكتب مالم يستطيع غيره كتابته:
أنا لن أعود إليك
مهما استرحمت دقات قلبي
أنت الذي بدأ الملامة والصدود
وخان حبي
فإذا دعوت اليوم قلبي للتصافي
لن يلبي
كنت لي أيام كان الحب لي
أمل الدنيا ودنيا أملي
يقول الناقد الفني حنفي المحلاوي في كتابه "شعراء أم كلثوم" عن التعاون بينهما أن أحمد فتحي كان يبعث بأغانيه إلى ثومة حتى أعجبتها "قصة الأمس" فغنتها عام 1958، لكن صالح جودت في كتابه "شاعر الكرنك" أكد أن ام كلثوم قرأت القصيدة بعد نشرها في جريدة الأهرام، وكان أجر شاعرها آنذاك خمسين جنيها توارى صاحبها بعد ذلك عن الانظار ومات بعدما غنتها ثومة بعامين.
وفي كتابه "اعترافات شاعر الكرنك" كتب الأديب محمد محمود رضوان جزء من عذابات شاعر "قصة الأمس" قائلا:" كان في حياة أحمد فتحي قصة حب صهرته بالعذاب فخرجت كلماته تنزف دمعا.
يا ترى ما تقول روحك بعدي
في ابتعادي وكبريائي وزهدي
عش كما تهوى قريبا أو بعيدا
حسب أيامي جراحا ونواحا ووعودا
وليالي ضياعا وجحودا
ولقاء ووداعا يترك القلب وحيدا