الأربعاء 01 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

سياسة

مشاعل التنوير.. مراد وهبة في مواجهة «مُلاك الحقيقة المطلقة» و«جرثومة التخلف».. الرئيس السيسي منشغل بتغيير العادات الذهنية المتخلفة.. و«التأويل» يسمح بالتعددية والتجاور والتسامح

المفكر الدكتور مراد
المفكر الدكتور مراد وهبة
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

المفكر الدكتور مراد وهبة.. محارب بلا هوادة، يؤمن بإعلاء شأن العقل، وركز طوال مشواره الفلسفى على استعادة الأفكار الخاصة بابن رشد الأندلسي(١١٢٦-١١٩٨م) لتأسيس تيار سماه «الرشدية العربية» فى مقابل «الرشدية اللاتينية»، بهدف بعث تنوير جديد، يجعل من مقولة الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط شعارًا له وهى: «كن جريئا فى إعمال عقلك»، ويطرحها «وهبه» فى مقولة أخرى وهى: «التنوير يعنى ألا سلطان على العقل إلا العقل ذاته»، خاصةً أن مقولة كانط وردت فى مقال له بعنوان «جواب عن سؤال ما التنوير؟».
اتجه "وهبه" إلى القاعدة الشعبية الكبيرة، ومبتعدًا عن التغيير الشكلي والسطحى، جاعلًا من توليد الوعي الاجتماعي هدفًا لمشروعه الفكري، معترفًا بأن هذا التوليد وما ينتج عنه من تغيير يُعد بحسب وصفه "مغامرة تاريخية" لأنها ليست ميسورة، حيث تعتمد على إثارة الفكر النقدي، والبحث عن جذور الوهم فى كل القضايا التى يتناولها، وأغلب الظن أنه إذا اكتشف هذه الجذور فإنه سوف يكتشف الأوهام التى تسيطر على المجتمع.. والأوهام هنا هى كل المحرمات الثقافية التى يمتنع على المثقف أن يتناولها بالتحليل والنقد، والملاحظ أنه كلما زادت المحرمات الثقافية زاد تخلف المجتمع.
فى الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضى، أكد "وهبه" أن العالم العربى يواجه أزمة تتمثل فى الحد من نشاط العقل، وهو ما يمنع من ممارسة الفكر الفلسفي داخل المجتمع، الذى يحتاج دائما إلى الإقرار بسلطة العقل، وهو شرط غير متوفر.. لذا فليس هناك من سبيل أمام المفكر العربى إلا اكتشاف "طريق لولبى" لطرح وتوصيل أفكاره، وألح "وهبه" على مشروعية هذا الأسلوب آنذاك. هذا الأفق المسدود الذى تغول فى تلك الفترة التى تحدث فيها مراد وهبه قاد المجتمع العربى كله إلى الهاوية والسقوط فى يد الأصوليات الأكثر عنفًا فى العالم مثل داعش والقاعدة وجماعة الإخوان، إلا أن هذا السقوط تبدد وأعطى الفرصة للدول كى تستعيد عافيتها وتفتح المجال أمام الفكر التنويرى لانتشال المجتمعات المخطوفة من قبل الأصوليات الدينية المتطرفة، تبدد هذا السقوط وتعثر مشروع الأصولية مع ثورة الثلاثين من يونيو فى مصر، وقد رافقها انتباه شديد لخطورة هذه المشاريع الهدامة فى بقية البلدان العربية.
وقد أشار "وهبه" إلى هذا التغيير الذى أدت إليه ثورة الثلاثين من يونيو، حيث أسقطت مشروع تخريب العقل العربى ورهنه للقوى الخارجية المستحوذة على الأصوليات المتمددة فى بلادنا، كما أن الثورة جاءت بالرئيس عبد الفتاح السيسي، وهو وفق تعبير "وهبه": "منشغل بتغيير العادات الذهنية المتخلفة". وهنا يتجلى للدكتور مراد وهبه صورة الحاكم الإصلاحى المنشغل بتغيير جذور التخلف وإزالة الوهم والأسطورة والمنادى دائمًا بضرورة تحديث الفكر الديني، وتجديد الخطاب الدينى، الأمر الذى سيشرح تعويل "وهبه" على السلطة السياسية الراغبة فى التغيير.

السلطة السياسية ودعم التنوير
فى استعادة ابن رشد، ألح «وهبه» على دور السلطة السياسية فى إفساح المجال لذلك بل ودعم مثل هذه المسارات وتغذيتها، وذلك حينما يشير إلى قصة الإمبراطور الألماني فريدريك الثانى، الذي استمع لنصيحة البعض بضرورة ترجمة مؤلفات الفيلسوف العربى أبى الوليد بن رشد، لأن بها فكرًا يسمح بالتطور، خاصةً وأن الإمبراطور كان مشتبكًا آنذاك مع السلطة الدينية المتشددة.
موضحًا أن فريدريك "طلب من العلماء المسيحيين واليهود أن يترجموا مؤلفات ابن رشد لأنه قيل له إن فلسفة ابن رشد تسمح بمقاومة سلطة الكنيسة فى أوروبا، وكان يرغب فى نقل أوروبا من النظام الإقطاعي إلى النظام البورجوازى ابتداءً من نشأة المدن، وبعد أن ترجمت أعمال ابن رشد انقسم الفكر الفلسفى فى أوروبا إلى تيارين، أحدهما تيار يتبنى أفكار ابن رشد، والآخر تيار يقف ضده".
عوَّل "وهبه" على دور السلطة السياسية فى إعطاء الفرصة للأفكار التنويرية التى تصنع بدورها جدلًا مع وضد، لأنها تمنح المفكر والفيلسوف مساحة لطرح أفكاره، وفى نفس الوقت تحميه من هجمات المتطرفين وغوغاء العامة وتشنيع الجهلة، وهى محاولة تريد تجنب النكبات المدمرة التى تعرض لها المفكرون، فبحسب "وهبه" فإن ما حدث لابن رشد من نفى وإحراق مؤلفاته حدث مع آخرين فى العالمين العربى والإسلامى.
والمفارقة التى حدثت لابن رشد، كما يرى وهبه، أنه حى فى الغرب ميت فى الشرق، لأن فلسفته قد أجهضت فى العالم العربى إثر ما يسمى بنكبة ابن رشد وهى النكبة التى حدثت حين أصدر يعقوب المنصور (ت. ١١٩٩م) أمرًا بنفى ابن رشد إلى اليسانه فى حين أن الإمبراطور فردريك الثانى قد أمر بترجمة مؤلفات ابن رشد ونشرها، وقد كان فى صراع مع رجال الدين المسيحى وكانت فلسفة ابن رشد العقلية هادية له فى مواجهة هذا الصراع. والمفارقة هنا أن ابن رشد ميت فى الشرق حى فى الغرب وهى مفارقة فى حاجة إلى تفسير.
لم ينخدع "وهبه" فى كلمات ابن رشد الخاصة بالقيود التى فرضها على العامة أو الجمهور لدخول عالم الفلسفة، قائلًا إن الفيلسوف الأندلسي لم يكن راغبًا فى إبعاد الجمهور عن مجال الفلسفة ولكن بشرط ألا ينغمس الجمهور فى المتع الحسية، لأن من شأن هذه المتع أن تمنع الإنسان من التحكم فى ذاته، ومعنى ذلك أن التحكم فى هذه المتع يسمح للإنسان بمجاوزة ما هو حسى إلى ما هو عقلى، أى بمجاوزة ما هو خطابى أو ما هو شعرى إلى ما هو برهانى، ومعنى ذلك أن الباب مفتوح أمام الجمهور كى يصل إلى ممارسة البرهان العقلى، وإذا دخل الجمهور من هذا الباب أصبح من الميسور أن يكونوا رؤساء فى مدينة ابن رشد، وبذلك ينتفى الانفصال بين الجمهور والحكماء.
محورية التأويل
انتبه «وهبه» إلى مقولة محورية فى فلسفة ابن رشد، وهى مقولة «التأويل»، أى تأويل ظاهر النص ليتوافق مع العقل، إذ يقول ابن رشد، فى شأن العلاقة بين الشرwيعة والبرهان العقلى: "إن أدى النظر البرهانى إلى نحو ما من المعرفة بموجود ما، فلا يخلو ذلك الموجود أن يكون قد سكت عنه الشرع أو نطق به. فإن كان مما سكت عنه فلا تعارض هناك وهو بمنزلة ما سكت عنه من الأحكام فاستنبطها الفقيه بالقياس الشرعى. وإن كانت الشريعة نطقت به فلا يخلو ظاهر النطق أن يكون موافقًا لما أدى إليه البرهان فيه أو مخالفا فإن كان موافقا فلا قول هناك وإن كان مخالفا طلب هناك تأويله".
منح التأويل ابن رشد مساحة كبيرة للقول باستحالة قيام "إجماع حقيقى"، وأن خرق الإجماع لا يقتضى التكفير، ونقلًا عن «وهبه» فإن «التأويل يخرق الإجماع، إذ لا يتصور فيه إجماع، ولهذا يمتنع تكفير المؤول، ولهذا فقد غلط أبو حامد الغزالى عندما كفر الفلاسفة من أهل الإسلام مثل الفارابى وابن سينا فى كتابه «تهافت الفلاسفة».
تساءل «وهبه»: «ماذا يعنى تكفير الفلاسفة؟ يعنى أن الذى يكفر هو الذى يتوهم أنه مالك الحقيقة المطلقة وهذا الوهم هو الذى يحد من سلطان العقل، وقد أراد ابن رشد إزالة سلطان هذا الوهم بحيث لا يبقى سوى سلطان العقل، وهذا هو جوهر التنوير. ومن هنا يمكن القول إن ما حدث لابن رشد من إحراق كتبه ومحاكمته ونفيه مردود إلى دعوته إلى التأويل على نحو ما ارتآه».
يعتقد "وهبة" أن مقولة التأويل لديها الكثير كى تقدمه من أجل نهضة فكرية عربية، فالتأويل منع الإجماع لأنه أعطى مساحة أوسع للاختلاف والبحث عن مضامين أكثر عقلانية ومنطقية، كما أنه يعترف بضرورة التعددية أى أنه يتسامح مع الآخر لذا فسوف ينتفى معه التكفير، أى أن التأويل مفتاح للوصول إلى مرحلة التعددية وقبول الآخر ونفى سلطة الرأى الأوحد، قائلًا إن التأويل الحقيقى يمتنع معه التكفير لأن التأويل معناه التسامح تجاه الاختلاف. ولماذا التسامح؟ لأن العقل لديه بدائل العقل لا يكتفى ببديل واحد وإذا اكتفى العقل بديل واحد يقع فى براثن الدوجماطيقية أى أنه يقع فى توهم أنه يمتلك الحقيقة المطلقة وإذا وقع العقل فى هذا الوهم امتنع التطور وبناء عليه فإن مفهوم التأويل عند ابن رشد يبيح التعددية فيمتنع التكفير ويلزم من ذلك التطور.
شرح "وهبه" فكرة تقديم العقل التى استفادها من ابن رشد بأننا باذلون الجهد الفطرى فى استكناه حقيقة الكون بالفكر الفلسفى البرهانى فإن وجدناها متفقة مع الشريعة كان خيرا وإلا فنحن مضطرون عند التعارض أن نختار بين التصديق القائم على الإيمان الصرف والأخذ بما أنتجه البحث العقلى أو نلجأ إلى تأويل الشريعة بما يتفق مع نتائج البرهان، فإذا ورد فى البرهان وهو أساس التأويل ما يبدو مخالفا للشرع وجب تأويل الشرع ليطابق البرهان لأنه لا يخالف الشرع من حيث أن كليهما حق، فإن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له.
إجمالًا، فإن "وهبه" حدد طبيعة قانون التأويل الذى رسمه الفيلسوف الأندلسى، بأنه لا يأتى إلا من قبل الراسخين فى العلم. وأن نشر التأويلات فى غير كتب البرهان يفضى إلى تكثير أهل الفساد. وأن الإجماع فى التأويل أمر محال، لأن تحقيق الإجماع يستلزم معرفة جميع العلماء الموجودين فى عصر معين، كما يستلزم ألا يكون هناك من العلماء من يجهل وجوده أو تعلمه ولكنه يكتم رأيه. وأنه لا يجوز التكفير على خرق الإجماع فى التأويل، لأن الذى يكفر هو الذى يتوهم أنه مالك للحقيقة المطلقة ومن شأن هذا الوهم أن يَحد من سلطان العقل، والتأويل بالمعنى الرشيدى هو الذي يمنع الإنسان من الوقوع فى ذلك الوهم فلا يبقى حد لسلطان العقل.
خيانة المثقفين
عكس ما كان يردد "وهبه" فإنه اقتنع مؤخرًا أن المثقف الذى يصمت عن قضايا التخلف فى مجتمعه، ولا يتصدى للجهل وخاصة المشاريع التى تطرحها الجماعات الأصولية والدينية المتطرفة، ويتجاهل الوصف الدقيق لحالة المجتمع مكتفيًا بدوره فى معاندة السلطة السياسية والدخول معها فى صدام، فى حين أنه يضع أسبابًا غير حقيقية لانتشار الجماعات والإرهاب، فإن هذا المثقف يستحق أن يوصف موقفه بـ"الخيانة".
فى وقت مبكر، نفى "وهبه" أن تكون هذه النوعية من المثقفين خائنة لأن الخيانة تقتضى العلم بحقيقة الشيء ثم العمل خلافها، واكتفى حينها بوصف تخاذل المثقف بأنه نوع من افتقاده للجسارة، لكنه مع الأيام ترسخت لديه فكرة "خيانة المثقفين" وهو مصطلح مقتبس من الفيلسوف الفلسطينى إدوارد سعيد، لأن بعض المثقفين لم يتوقفوا فقط عن المشاركة فى مواجهة تمدد الأصوليات وفرض عنفها على المجتمع وطريقة تفكيرها المتسمة بالجهل والتخلف، بل امتد دورهم إلى خلق أسباب غير حقيقية لمثل هذه الظاهرة. 
ألقى «وهبه» اللوم على المثقفين والمفكرين الذين يخذلون التنوير بابتعادهم عن مواجهة فكر المتطرفين والجماعات التى تسحب الدين إلى سلطان الكهنة وأمراء الجماعات الإرهابية، قائلًا «إن المثقف ليس لديه الجسارة فى إعمال العقل الناقد فى مجال الفكر، وإنما يستخدمه فى مجال السياسة اليومية الحياتية، ويتوهم أنه بذلك قد أدى وظيفته النقدية، إن المشكلة الأساسية ليست فى صدام المثقف مع السلطة وإنما فى صدام المثقف مع المجتمع، لأن المجتمع متخلف، وبالتالى فإن وظيفة المثقف هى الكشف عن جذور هذا التخلف، وجذور التخلف ليست قائمة فى الخارج، وإنما هى فى الداخل، وتوهم المثقف أن جرثومة التخلف مردودة إلى عوامل خارجية معناه أن هذا المثقف لا يعى حقيقة الموقف».
تحدث "وهبة" عن التخاذل فى مواجهة الأفكار المتطرفة التى تنشرها الجماعات الأصولية، منذ وقت مبكر، مندهشًا من اهتمام المثقف بأمور حنجورية وسياسية، ما يعنى أن مفهوم دور المثقف يشوبه غموض أو التعقيد لدى المثقف نفسه، الذى يجد نفسه فى الحديث عن الأمور الحياتية اليومية المتعلقة بالسياسة بينما نفتقده فى الأمور الخاصة بعلاج تجذر التخلف والجهل فى المجتمع، وسهولة السيطرة عليه من قبل مجموعات تحسن إدارة الوهم، وتتداول الأسطورة والخرافة كأنها حقيقة ماثلة أمام الجميع.
جريمة قتل لاهوتية
تنشر الأصوليات الدينية الوهم بين الناس، وتمددها يصاحبه أمراض خطيرة مثل العنف، لأن الصراعات التى تخلقها هذه الأصوليات لا تسمح بالتجاور والتعدد، وهنا يشرح "وهبه" كيف يؤدى الإيمان بالمطلق إلى جريمة، قائلًا فى كتابه "مُلاك الحقيقة المطلقة"، إن "المطلقات فى حالة تعددها تدخل فى صراع من أجل الوجود والبقاء للأصلح فى نهاية المطاف. بيد أن هذا الصراع يمارسه النسبى أى الإنسان باسم المطلق. ولهذا فإذا اعتنق إنسان مطلقًا ما فإنه يناضل من أجله إلى الحد الذى يشعل من أجله حربًا ضد من يعتنق مطلقًا آخر. وهذا ما أسميه "جريمة قتل لاهوتية" ولهذا يمكن اعتبار التنوير أعظم ثورة فى تاريخ البشرية تربى البشر على كيفية اجتثاث هذه الجريمة اللاهوتية. بيد أن هذه التربية ليست بالأمر الميسور".
يخلق المطلق نوعًا من الصراعات لأنه لا يقبل التعدد، وأسهمت المذاهب الفلسفية فى نزع فتيل الأزمة والتقليل من حدة هذه الجريمة اللاهوتية، وفى رأى "وهبه" فإن كل المذاهب الفلسفية سواء، فهو يعتقد أن المذاهب الفلسفية المغلقة هى فى إطار الكندى والفارابى وابن سينا، أما ابن رشد فلا يمكن إلا أن نقول عنه إنه صاحب مذهب مفتوح، لأنه ميز بين الباطن والظاهر، ووجد أنه لا بد من إخضاع النص الدينى للعقل وبالطبع هى مسألة تأويل.. والتأويل طالما أنه عملية إنسانية فهو يغذى باستمرار بمعطيات الواقع، وأنا أتصور الآن أنه من الممكن الأخذ بالأسس الفلسفية عند ابن رشد ولكن بتغذيتها بالثورة العلمية وفى اعتقادى أن الفكر الفلسفى سيعرف منحى جديدًا لو عرف هذا الاتجاه.

مراد وهبة في مواجهة "ملاك الحقيقة المطلقة" و"جرثومة التخلف"