وجه أصحاب النظرة أحادية التفكير الذين رأوا فى ضربها تقويمًا وفى عزلتها منعًا للضرر!، بعد أكثر من مائة عام على صدور «تحرير المرأة» فتاوى تتهم قاسم أمين ومحمد عبده بأنهما سبب فى سفور المرأة.
كان حلقة من حلقات التنوير التى ظهرت فى أواخر القرن التاسع عشر، والتى ضمت جمال الدين الأفغانى والإمام محمد عبده وسعد زغلول ومصطفى كامل، الذين آمنوا بالحرية والمساواة والنضال وحق مصر والشرق فى العلم والمعرفة.
إنه أحد أبرز رجال عصره: قاسم أمين والذى ناضل ضد الشرقيين والغربيين ودخل نقاشات تهدف بالأساس إلى إصلاح المجتمع وبالتالى الأمة. كان يرى أن الأمة لا بد وأن تستعد للقتال وتأخذ أهبتها وتستجمع من القوة ما يساوى القوى التى تهاجمها من أى نوع، لاسيما تلك القوة المعنوية وهى قوة استخدام العقل والعلم التى هى أساس كل قوة، فقوة العلم والعقل هى سبيلنا من الاضمحلال والفناء، ويجب أن تستعد الأمة وتتسلح بتلك الأسلحة.
عصر الحرملك
لا بد فى البداية أن ننظر إلى الظرف الاجتماعى والسياسى والاقتصادى الذى نشأ فيه قاسم أمين، وكيف كانت أفكاره نابعة من الظلم الذى رآه واقعًا على المرأة ومدى الاضمحلال المجتمعي، فى ظل وجود أفكار تنادى بنهضة مصرية حقيقية وبداية للبعثات الخارجية وفى ظرف سياسى مضطرب بين محاولة الفرار من الاستعمار الفكرى والسياسى وما بين الانغماس فى العادات والمعتقدات التى تؤدى إلى دونية المرأة والإقلال من شأنها، وحرمانها من أبسط حقوقها والذى رآه بالتالى يؤثر سلبًا على المجتمع.
كانت المرأة تُنعت بالحريم ووظيفتها فى المجتمع تقتصر على كونها آلة للإنجاب وتربية الأولاد وطاعة الزوج ومجرد دور جنسى بوصفها امرأة خُلقت لإمتاع وإرضاء رغبات الرجل الجنسية، بل كان يُحرم عليها فى كثير من الأحيان أن تأكل معه، والتى برع فى توصيفها "نجيب محفوظ" فى الثلاثية، متجسدًا فى شخصية أمينة الزوجة الخاضعة الخانعة المخدوعة الجاهلة التى لا تعرف طريقًا للشارع، ولا يجوز لها التصرف دون الرجوع إليه وبالتالي، لا تقدم شيئًا للمجتمع.
قالت عنه هدى شعراوى فى مذاكراتها:«لم يكن قاسم أمين رجلًا عاديًّا فى تاريخ الحركة النسائية المصرية، فقد كان صاحب تحرير المرأة، وكان الصوت الذى لفت الأنظار إلى هذه القضية، وكان صاحب أكبر رصيد من الهجوم عليه والتجريح فى شخصه، رغم أنه لم يكن صاحب أول صوت نادى بتحرير المرأة».
ولم تقتصر النظرة الدونية للمرأة بل كان لوجود بعض كتابات الغربيين التى تصف المرأة المصرية بالجهل والتخلف، والتى تلجأ للمنجمين والخرافات مثل كتابات إدوارد لاين فى كتابه عادات المصريين المحدثين، والدوق داركور والذى بدأت أولى معارك قاسم أمين الفكرية له، وكانت البداية الأولى له لكى يرد عليه بالبرهان والدليل وسببًا فى إتقانه للشريعة وأحكامها، وجاءت ردود قاسم أمين على ما كتبه الدوق داركور الذى كتب كتابًا عن مصر والمصريين فى عام ١٨٩٣ حمل به آراءً قاسية نعت فيه الجماعة المصرية بأحط الكتابات، والتى انتقد فيها نظم الحكم والأخلاق والعادات التى كانت عليها الجماعة المسلمة، وأن مصر لا تتمتع بخلق قومى واضح، وأن فى المصريين ضعفًا قوميًّا عامًا.
ولعل أبرز ما كتبه الدوق داركور هو الفصل الذى خصصه للكتابة عن المرأة وحجابها وأنه كتب على المرأة بالحجاب هو خوف الحاكم المستبد الظالم، وذلك الذى جعله كان يخفى المرأة فى أعماق البيت "الحرملك"، هذا بالإضافة إلى أن الدين الإسلامى يفرض على المرأة الحجاب، وهو ما جعل قاسم أمين يشعر بحمى إثر ما قرأه فى كتاب "داركور" والذى حمل عنوان مصر والمصريين، ولأنه رأى فى ذلك طعنًا فى المصريين المسلمين، وهو الأمر الذى جعله يبحث وينقب فى كل ما أورده اللورد فى كتابه، وألف كتاب "المصريون.. ردًا على الدوق داركور" وقد كتب هذا الكتاب باللغة الفرنسية حتى يقرأه الغرب ويقارن بما كانت عليه الدولة الفرنسية قبل ثورتها الكبرى والتى كان فيها الزراع مرتبطين بالأرض إذا كانوا يباعون ويشترون فيها كما يباع الرقيق، وكان القضاء الفرنسى يتصف بالقوة الغاشمة، وكان النبلاء الفرنسيون يحتقرن التجارة والصناعة والفن.
ودارت المعارك الفكرية بين الدوق داركور وقاسم أمين فى العديد من المناحى ومنها المقارنات بين المرأة الفرنسية والمصرية والاختلاط والحرية والدين والعلم والحكام ومحاولات التقدم، كانت لتلك المعركة الأثر الكبير فى نفس قاسم أمين والتى خرج منها ببعض المفاهيم والحقائق التى فتحت عينيه على كثير من المشاكل التى تعانى منها البيئة المصرية، فقد تطور تفكيره، وشعر بأن هناك مظاهر الاضمحلال الخلقى والمادى وظل قرابة الأربعة سنوات يدرس تلك المظاهر، وكتب مقالاته فى جريدة "المؤيد" والتى جاءت وكأنها دراسة مسلسلة لكل الأمراض الاجتماعية، والتى انطلقت من الآية الكريمة «إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ».
ليس الأول
ولم يكن قاسم أمين أول من لفت نظر المصريين إلى تعليم المرأة، فقد بدأ تعليمها فى أيام محمد على نفسه حينما احتاجت صناعة الطب إلى طالبات، ثم فتحت المدرسة السنية فى سنة ١٨٧٣؛ ولم يكن قاسم أمين أول من بحث فى أمر تعدد الزوجات والطلاق؛ بل لقد كانت هناك سلسلة من المفكرين المصريين أتى بعضهم فى إثر بعض؛ وقد تنبه هؤلاء إلى ما كانت فيه المرأة المصرية من جهل فدعوا إلى تعليمها، وكان منهم على مبارك ورفاعة رافع الطهطاوى، والشيخ محمد عبده.
وكان لكتابات هؤلاء الأثر الطيب فى إقبال قاسم أمين على كتابه «تحرير المرأة» ومن ثم «المرأة الجديدة».
ولكن يعود الفضل لقاسم أمين باعتباره هو أول من دعا الى كل تلك الإصلاحات، وكان أول من أصر على دعوته، وكان يعشق الحرية للمرأة والرجل على حد السواء، ودافع عن الحرية فى جميع مظاهرها حرية القول، وحرية الفعل وحرية العقيدة، ثم كان أول من دعا إلى إصلاح المرأة لتصلح العائلة والأمة، وكان فى دعوته مصلحًا اجتماعيًّا توفّرت له أخلاق المصلحين.
ويرجع الفضل فى رسوخ عقيدة قاسم أمين بحتمية تنبيه الرأى العام فى مصر بصفة خاصة والعالم العربى بصفة عامة إلى واحدة من أكثر القضايا إلحاحًا، ألا وهى رفع المستوى الاجتماعى للمرأة، فقد كان معنيًّا بالرقى الاجتماعى والثقافى فى مصر.
بدعة قاسم أمين
هكذا يصدم قاسم أمين القارئ فى بداية كتابه "تحرير المرأة" بأن ما سيتطرق إليه فى كتابه ما هو إلا بدعة أتى بها إلى القارئ، بل لعله فى هذا الحكم يرى ما سيتهم به لاحقًا حينما يشرع فى طرح أفكاره حول المجتمع لاسيما وأن تاريخ الشعوب والأمم مملوء بالمناقشات والجدل والحروب التى قامت فى سبيل استعلاء فكر لى فكر ومذهب على مذهب، وقد تكون الغلبة للحق تارة وللباطل تارة أخرى، بل أننا قد نعيش فى حالة جهاد داخلى بين أفراد الأمة، وجهاد خارجى بين الأمم بعضها مع بعض، لافتًا إلى أن الصراع الداخلى قد يتجسد فى حالة الكسل والضعف وعدم القدرة على التفكير، والتى قد يكتفى البعض بإطلاق كلمة "بدعة" على كل محاولة فى التفكير لتحريك المياه الراكدة داخل المجتمعات.
بدأ قاسم أمين بإلقاء الحجر الأول لتحريك تلك المياه بقوله: إن ما أتى به من أفكار تقدميه سيراها الغالبية من أحادى التفكير بأنها بدعة، لتأتى تلك الصدمة بطرحه مجموعة من التساؤلات والتى بدأها بـقوله: "تلك بدعة فى الإسلام، وما يرمى بهذه الكلمة إلاَّ حبُّ التخلُّص من مشقَّة الفهم، أو الخروج من عناء العمل فى البحث أو الإجراء، كأن لله خلق المسلمين من طينة خاصة بهم، وأقالهم من أحكام النواميس الطبيعية التى يخضع لسلطانها النوع الإنسانى وسائر المخلوقات الحية".
ويتابع قائلًا:"سيقول قوم إن ما أنشره اليوم بدعة؛ فأقول نعم أتيت ببدعة ولكنها ليست فى الإسلام، بل فى العوائد وطرق المعاملة التى يُحمَدُ طلب الكمال فيها.
وطرح عددًا من التساؤلات ومنها لِمَ يعتقد المسلم أن عوائده لا تتغيَّر ولا تتبدَّل، وأنه يلزمه أن يحافظ عليها إلى الأبد؟ ولِمَ يجرى على هذا الاعتقاد فى عمله مع أنه هو وعوائده جزء من الكون الواقع تحت حكم التغيير والتبديل فى كل آن؟ أيقدر المسلم على مخالفة سنَّة لله فى خلقه إذ جعل التغيير شرط الحياة والتقدُّم والوقفة والجمود مقترنين بالموت والتأخُّر؟ أليست العادة عبارة عن اصطلاح أمَّة على سلوك طريق خاصة فى معيشتهم ومعاملاتهم حسبما يناسب الزمان والمكان؟ مَنْ ذا الذى يمكنه أن يتصوَّر أن العوائد لا تتغيَّر بعد أن يعلم أنها ثمرة من ثمرات عقل الإنسان، وأن عقل الإنسان يختلف باختلاف الأماكن والأزمان؟ المسلمون منتشرون فى أطراف الأرض. فهل هم أنفسهم متَّحدون فى العادات وطرق المعاش؟ مَنْ ذا الذى يمكنه أن يدَّعى أن ما يستحسنه عقل السودانى يستحسنه عقل التركى أو الصينى أو الهندي؟ أو أن عادة من عادات البدوى توافق أهل الحضر، أو يزعم أن عوائد أمَّة من الأمم -مهما كانت بقيت جميعها على ما كانت عليه من عهد نشأتها بدون تغيير؟.
القهر الواقع على المرأة
هذا التشكيك فى كل ما يتعلق بالعادات والمعتقدات التى ترتبط بطرق حياة المسلكين والتى أثبت أنها تتغير بتغير المجتمعات وطرق وظروف حياتهم باختلاف البيئات التى نشأوا فيها والتى ترتبط بعادات ومعتقدات تلك المجتمعات وتتغير باختلاف بيئتهم، فهذا الارتباط بين عادات كل أمة منزلتها من المعارف، وقد تتغلب تلك العادات -فى بعض الأحيان على الدين نفسه.
وربط قاسم أمين القهر الواقع على الرجل بالقهر الواقع على المرأة إذا طرح مثالًا على القهر الذى يجسده عمدة بلدة -على سبيل المثال- على الفلاحين، إذا قال: «فمن طبيعة هذه الحالة أن الإنسان لا يحترم إلاَّ القوَّة ولا يُردَع إلاَّ بالخوف، ولمَّا كانت المرأة ضعيفة اهتضم الرجل حقوقها، وأخذ يعاملها بالاحتقار والامتهان، وداس بأرجله على شخصيتها، عاشت المرأة فى انحطاط شديد أيَّا كان عنوانها فى العائلة؛ زوجة، أو أمًا، أو بنتًا، ليس لها شأن ولا اعتبار ولا رأى خاضعة للرجل؛ لأنه رجل ولأنها امرأة».
ولم يتوقف عند هذا الحد بل أكد أن الرجل قد فنى شخصية المرأة وعمل على تجهيلها ومحو شخصيتها، وأحجبها بستار من الظلمات، كما استعملها الرجل باعتبارها جزءًا من ملذاته، وأن له مُطلق الحرية فى أن يحتفظ بها متى يشاء وأن يلقى بها فى الطرقات متى يشاء، تلك الصدمة التى يطلقها قاسم أمين فى وجه المجتمع جعلت الكثيرين يسنون سهامهم فى صدره، من خلال تلك النظرة الدونية التى يرى بها الرجل المرأة واحتقاره لها والتى تجسدت فى بعض الممارسات التى يمارسها الرجل فى حق المرأة مثل قضية تعدد الزوجات، وانتشار ظاهرة الطلاق، وعدم تناولها الطعام معه فى نفس الوقت وأن تكتفى المرأة بأكل فضلات طعامه، بل قد يصل الأمر إلى سجنها بالمنزل، ويفاخر بذلك، هذا الرصد الدقيق لما كان يحدث فى المجتمع والذى يرسخ لدونية المرأة واحتفار مكانتها بداخل المجتمع وبأنها ليست محلًا للثقة.
تحرير المرأة
ونرى أن قاسم أمين أعاد الاعتبار للمرأة فى الجزء الذى حمل عنوان «تربية المرأة» والذى نادى من خلاله بحق المرأة فى المساواة مع الرجل باعتبارها إنسان له نفس الحقوق، كما نادى بأحقيتها فى التعليم، فيقول: "ففى رأيى أن المرأة لا يمكنها أن تدير منزلها إلاَّ بعد تحصيل مقدار معلوم من المعارف العقليَّة والأدبيَّة. فيجب أن تتعلَّم كل ما ينبغى أن يتعلَّمه الرجل من التعليم الابتدائى على الأقل حتى يكون لها إلمام بمبادئ العلوم يسمح لها بعد ذلك باختيار ما يوافق ذوقها منها، وإتقانه بالاشتغال به متى شاءت، فإذا تعلَّمت المرأة القراءة والكتابة، واطلعت على أصول الحقائق العلميَّة، وعرفت مواقع البلاد، وأجالت النظر فى تاريخ الأمم، ووقفت على شيء من علم الهيئة والعلوم الطبيعيَّة، وكانت حياة ذلك كله فى نفسها عرفانها العقائد والآداب الدينية استعدَّ عقلها لقبول الآراء السليمة وطرح الخرافات والأباطيل التى تفتك الآن بعقول النساء".
وقاوم المحافظون هذه الدعوى بقوة حتى أن خلع الحجاب لم يتحقق إلا فى عام ١٩٢٢ "أى بعد حوالى ربع قرن من ظهور كتاب "تحرير المرأة"، كما أنشئت أول مدرسة ثانوية للفتيات عام ١٩٢٥ على غرار مدارس الفتيان فى مناهجها وبرامجها.
المرأة المصرية والفرصة
أكد "أمين" أن المرأة المصرية لا تقل عن نظريتها الغربية فى أن تبدع وتحتل مكانتها بداخل المجتمع إذا ما توافرت لها الفرصة لتحقيق ذلك، وتلك الفرصة لن تتوفر إلا بتوفير فرص التعلم وأخذ مكانتها بداخل المجتمع فنجده يقول مؤكدًا: "ولا شيء يمنع المرأة المصريِّة من أن تشتغل مثل الغربيِّة بالعلوم والآداب والفنون الجميلة والتجارة والصناعة إلاَّ جهلها وإهمال تربيَّتها، ولو أخُذَ بيدها إلى مجتمع الأحياء، ووُجِّهت عزيمتها إلى مجاراتهم فى الأعمال الحيويِّة واستعملت مداركها وقواها العقليَّة والجسميِّة لصارت نفسها حيِّة فعالة تنتج بقدر ما تستهلك، لا كما هى اليوم عالة لا تعيش إلاَّ بعمل غيرها. ولكان ذلك خيرًا لوطنها لما ينتج عنه من ازدياد الثروة العامَّة والثمرات العقليَّة فيه".
وأن العلم هو الوسيلة الوحيدة التى يرتفع بها شأن الإنسان من منازل الضعة والانحطاط إلى مراقى الكرامة والشرف، ولكل نفس حق طبيعى فى تنمية ملكاتها الغريزية إلى أقصى حد ترمى إليه باستعدادها، مؤكدًا أن الشرائع الإلهية والقوانين الوضعية تخاطب النساء كما تخاطب الرجال، ويستدل على ذلك قائلًا: "جاء فى القصص الدينية المسطورة فى الكتب السماوية أن الله خلق حواء من ضلع آدم، وفيه على ما أظنُّ رمز لطيف إلى أن الرجل والمرأة يكوِّنان مجموعًا واحدًا لا يتمُّ إلاَّ باتحادهما، ومن هذا المعنى أخذ الغربيون تسميتهم المرأة بنصف الرجل، وهو تعبير فصيح يدلُّ دلالة واضحة على أن المرأة والرجل هما شقان لجسم واحد مفتقر بعضه إلى بعض ليتمَّ له الكمال بالاجتماع".
حجاب المرأة
ولعل أبرز ما أثار حفيظة بعض المتشددين دينيًا هذا الشق المتعلق بحجاب المرأة والذى أثاره من خلال كتابه "تحرير المرأة"، وتم اتهامه بالسفور، وهو ما لفت إليه النظر فى بداية هذا الجزء من الكتاب إذ قال: "ربما يتوهَّم ناظر أننى أرى الآن رفع الحجاب بالمرَّة، لكن الحقيقة غير ذلك، فإننى لا أزال أدافع عن الحجاب، وأعتبره أصلًا من أصول الأدب التى يلزم التمسُّك بها، غير أنى أطلب أن يكون منطبقًا على ما جاء فى الشريعة الإسلاميَّة، وهو على ما فى تلك الشريعة يخالف ما تعارفه الناس عندنا؛ لما عرض عليهم من حب المغالاة فى الاحتياط والمبالغة فيما يظنُّون عملًا بالأحكام حتى تجاوزوا حدود الشريعة، وأضرُّوا بمنافع الأمَّة".
بل أنه انتقد شكل الحجاب الذى كان منتشرًا فى تلك الحقبة الزمنية باعتباره لا يمثل الإسلام، وأن الحجاب هو دور من الأدوار التاريخية لحياة المرأة فى العالم، بدليل استخدام نساء اليونان للخمار، كما هو فى الأمم الشرقية، كما أن الدين المسيحي، والذى كان يستعمل لحماية الوجه من التراب والبرد، وأن الحجاب الموجود ليس خاصًا بنا، ولكنه عادة عرفت عند كل الأمم، ثم تلاشت تلك العادة طبقًا لمقتضيات المجتمعات، وناقش "قاسم أمين" تلك المسألة من الناحية الدينية والناحية الاجتماعية.
ويقول: "خوَّلت الشريعة للمرأة ما للرجل من الحقوق، وألقت عليها تَبعة أعمالها المدنيَّة والجنائيَّة؛ فللمرأة الحقُّ فى إدارة أموالها والتصرُّف فيها بنفسها. فكيف يمكن لرجل أن يتعاقد معها من غير أن يراها ويتحقَّق شخصيتها؟".
بل أن نصوص القرآن وروايات الأحاديث وأقوال أئمة الفقه كلها واضحة جليّة فى أن الله تعالى قد أباح للمرأة كشف وجهها وكفيها، وذلك للحكم التى لا يصعب إدراكها على كل من عقل.
كان قاسم أمين ضد التبرقع والنقاب باعتباره ليس من الاسم من شيء وهوما قاله بشكل صريح:" والحق أن الانتقاب والتبرقُّع ليسا من المشروعات الإسلاميَّة لا للتعبُّد ولا للأدب بل هما من العادات القديمة السابقة على الإسلام والباقية بعده، ويدلُّنا على ذلك أن هذه العادة ليست معروفة فى كثير من البلاد الإسلاميَّة، وأنها لم تزل معروفة عند أغلب الأمم الشرقية التى لم تتدين بدين الإسلام".
وناهض فكرة عزل المرأة وحبسها بمنزلها وحظرها من مخالطة الرجال، وأن المقصد فى الآيات الكريمة هى خاصة بنساء النبى والذى أمرهم قول الله تعالى بالتحجب وبيَّن لما سبب هذا الحكم، وهو أنهن لسن كأحد من النساء وأن الخطاب خاص بنساء الرسوم لكريم، حتى أن أسباب النزول كانت خاصة بهن ولا تتطبق على غيرهن حيث قال: "فهذا الحجاب ليس بفرض ولا بواجب على أحد من نساء المسلمين".
كما تطرق أيضًا إلى قضايا تعدد الزوجات والطلاق والذى رأى فيه أنه لابد وأن تضع الحكومة نظامًا لتنظيم عملية الطلاق والذى بات ظاهرة مجتمعية خطيرة قد تؤدى إلى فساد الأمة وتخل بالمجتمع وفى هذا الشأن وضع خمس مواد استهدفت الحفاظ على الأسرة وتماسكها والتى تبدأ بضرورة إرشاد الزوج على النصوص الشرعية من الكتاب والسنة والتى تحثه على التروى قبل اتخاذ إجراء الطلاق، وأنه لابد فى البداية أن يشرح للقاضى أسباب الشاق بينه وبين زوجته عله يجد فى ذلك سبيل لحل تلك الإشكالية قبل وقوع الطلاق، والتى لوحظ ارتفاع ارقامها فى مدينة القاهرة والذى وصل إلى نسبة طلاق زوجة من كل أربعة زوجات.