الإرهاب لا يعيش، ولا ينمو إلا فى ظل الديماجوجية.. وإلا عندما تفقد العين القدرة على التمييز بين الإرهاب وبين الشرعية، وإلا عندما ينادي البعض بأن هناك إرهابا مشروعا وإرهابا غير مشروع.. وإرهابا مستحبا وإرهابا غير مستحب
العنف والإرهاب نشأ على يد التنظيم السرى لجماعة الإخوان المسلمين
هذا حديث سوف ينكره الكثيرون، لأنهم يودون أن يسمعوا ما يحبون، فالنفس تأنس لما تهواه، وتعشق ما استقرت عليه، ويصعب عليها أن تستوعب غيره ، حتى لو تبينت أنه الحق، أو توسمت أنه الحقيقة، وأسوأ ما يحدث لقارئ هذا الحديث، أن يبدأه ونفسه مسبقة بالعداء، أو متوقعة للتجنى، وأسوأ منه موقف الرفض مع سبق الإصرار للتفكير واستعمال العقل.
الحقيقة الغائبة"
كانت هذه الكلمات مفتتح كتاب "الحقيقة الغائبة" لشهيد الكلمة "فرج فودة" الذى أثارت كتابات منذ اللحظة الأولى جدلا واسعا بين المثقفين والمفكرين ورجال الدين وشنت جبهة علماء الأزهر والجماعات الإسلامية معا هجوما كبيرا عليه، وصلت حد تكفيره والدفاع عن قاتله "بأنه لم يتورط فى جريمة قتل، بل طبق حدود الله على المرتد"، بحسب شهادة الشيخ محمد الغزالى فى المحكمة.
ولد فرج فودة فى قرية الزرقا بالقرب من مدينة دمياط فى ٢٠ أغسطس ١٩٤٥.التحق فرج فودة فى الستينيات بكلية الزراعة وحصل على شهادة البكالوريوس فى الاقتصاد الزراعى فى يونيو ١٩٦٧. وفى الشهر نفسه، استشهد شقيقه الملازم محيى الدين فودة - والذى كان يصغره بعام واحد - فى حرب ٥ يونيو ١٩٦٧، وذلك بعد ثلاثة أيام فقط من تخرجه من الكلية الحربية، ولم يتم العثور على جثمانه. وشارك فرج فودة فى مظاهرات الطلبة الغاضبة عام ١٩٦٨ واعتقل لعدة أيام فى عهد الرئيس جمال عبدالناصر.
أثرت هزيمة ٥ يونيو ١٩٦٧ فى فرج فودة بشدة، حيث يروي: "خيل لى أن مصر، قد ماتت وانتهت." وهو يعتبرها أحد الأسباب الرئيسية لنمو التيارات الدينية فى مصر والعالم العربى ويعتبر من نتيجتها "أن يبرز اتجاهان فكريان: أولهما يدعو إلى مواجهة العدو الإسرائيلى بمزيد من معرفة المعلومات عنه، وبمزيد من التأقلم مع حضارة العصر. ليس فقط من خلال مظاهر الحضارة، بل بالأخذ بجوهرها، ممثلا فى احترام العقل وتقدير العمل وإعلاء قيمة الإنسان. أما الاتجاه الثانى فقد رأى أن الهزيمة لم تكن للإنسان المصرى أو القيادة المصرية، بقدر ما كانت هزيمة لتبنى المصريين للاختيار الغربي. وقد ساعد على تقوية حجة المساندين لهذا الاتجاه، أن إسرائيل نفسها كيان دينى فى الأساس … وأنه من الواجب أن تواجه إسرائيل بنفس السلاح، وهو التوحد (الإسلامي) فى مواجهة الغزو (اليهودي). خاصة وأن تاريخ الدولة الإسلامية فى عهد الرسول، حافل بالمواجهة مع اليهود، وحافل أيضا بالانتصارات عليهم."
انتمى فرج فودة إلى الاتجاه الأول، فهو يرجع الهزيمة إلى الجهل بلغة الحضارة الحديثة.. وبالرغم من منهجه الفكرى المناقض لسياسات الرئيس عبدالناصر، ورفضه لممارسات التعذيب التى اتسم بها عصره، إلا أنه رفض أن يعزى عنف الجماعات الإسلامية المسلحة إلى التعذيب والقمع اللذين نالها خلال ذلك العصر. فهو يشدد على أن عنف هذه الجماعات الموجه إلى المدنيين المصريين قد نشأ على يد التنظيم السرى لجماعة الإخوان المسلمين فى الأربعينيات قبل عصر عبد الناصر، ودون سابق تعذيب أو قمع، مما جعله يؤمن بأن استخدام العنف نابع من فكر هذه الجماعات فى الأساس.
وفى عصر السادات عمل فرج فودة معيدا بكلية الزراعة فى جامعة عين شمس، وحصل على درجة الماجستير فى الاقتصاد الزراعى عام ١٩٧٥، ثم على درجة الدكتوراه فى الاقتصاد الزراعى من جامعة عين شمس فى ديسمبر ١٩٨١، وكان عنوان رسالته: "اقتصاديات ترشيد استخدام مياه الرى فى مصر.” عمل مدرسا بجامعة بغداد فى العراق، ثم خبيرا اقتصاديا فى بعض بيوت الخبرة العالمية، ثم أسس "مجموعة فودا الاستشارية” المتخصصة فى دراسات تقييم المشروعات.
كان فودة يخطط للعمل فى التدريس الجامعى غير أن الاضطرابات السياسية التى شهدتها تلك الفترة، ونمو الجماعات الإسلامية خلال السبعينيات، والذى انتهى باغتيال الرئيس محمد أنور السادات فى ٦ أكتوبر ١٩٨١ على المستوى الداخلي، وانتصار الثورة الإسلامية فى إيران فى ١٩٧٩ على المستوى الخارجي، خرجت به من مهنة التدريس الجامعى إلى العمل السياسى العام. وإن ظل يؤكد أثر الدراسة الأكاديمية على أسلوب كتابته ومنهجه الفكري.
أيد فودة إعادة السادات للحياة الحزبية عام ١٩٧٨. على الرغم من ذلك، فلقد حمل السادات المسئولية عن نمو التيارات الدينية، إذ يؤكد أن الجماعات الإسلامية فى الجامعات، قد تكونت على يد مباحث أمن الدولة، لمواجهة الناصريين واليساريين وبتوجيه من السادات. واعتبر أن "اكتساحها للانتخابات الطلابية فى نهاية حياته، بعد أن فقد السيطرة عليها، كان كابوسا يؤرق منامه".
تقبل فودة تضمين دستور ١٩٧١ ضمن نصوصه، لأول مرة، "أن مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسى للتشريع". بدعوى أن أغلب القوانين المدنية مستقاة من أحكام الشريعة الإسلامية. لكنه عارض السادات عند تعديل المادة السابقة بالنص على أن الشريعة الإسلامية هى "المصدر" الرئيسى للتشريع، بإضافة حرفى الألف واللام." وطرحها ضمن استفتاء عام قبل وفاته فى عام ١٩٨١، ضمن مجموعة من البنود والتى على الناخب أن يجيب عليها جملة واحدة بالإيجاب أو النفي. ومنها وقد اعتبر فرج فودة إضافة هذه المادة تمهيداً لقيام الدولة الدينية، المقوضة بالضرورة للدولة المدنية.
وفى فترة حكم مبارك خاض فودة معركه داخل حزب الوفد الجديد لمنع تحالف الحزب مع الإخوان المسلمين فى الانتخابات البرلمانية فى عام ١٩٨٤. أورد فرج فودة أفكاره السياسية خلال هذا الصراع فى كتابه الأول "الوفد والمستقبل" (١٩٨٣)، وفشل فرج فودة فى منع ذلك التحالف، والذى قاده داخل الحزب الشيخ صلاح أبوإسماعيل (١٩٢٧-١٩٩٠)، ونجح بفضله الوفد فى الحصول على ٥٨ مقعدا (١٥٪ من مجلس الشعب)، واستقال فرج فودة من الحزب فى ٢٦ يناير ١٩٨٤.
ورأى فرج فودة انتصار التحالف الإسلامى ونجاح الإخوان المسلمين خطرا حقيقيا على الدولة، وأشار فودة إلى أن التيار الإسلامى قد تعلم من خطأه فى انتخابات ١٩٨٤ التى خاضها تياره التقليدى (الإخوان) الساعى فى رأيه إلى "تحقيق الإرهاب بالشرعية" بدون تأييد تياره الثوري (جماعات الإرهاب المسلح) الساعى إلى "ضرب الشرعية بالإرهاب"، ليتوحد التياران فى انتخابات ١٩٨٧. "فإن أشهر أمراء الجماعات فى المنيا قد رشح نفسه على قائمة التحالف ودافع عن شعاراته وراياته، وأصبح عضوا فى المجلس بالفعل، وزامل فى عضويته أعضاء آخرين، كانوا أمراء للجماعات الإسلامية وقت أن كانوا طلابا، وأصبحوا ممثلين لهذا التيار فى نقاباتهم المهنية." ويرى فودة أن الحملة الانتخابية للتحالف تم تمويلها عن طريق بيوت توظيف الأموال الإسلامية والتى تمثل ما أسماه فرج فودة باسم "التيار الثروي."
عادت عمليات عنف الجماعات الإسلامية المسلحة فى النصف الثانى من الثمانينيات، مثل محاولات اغتيال وزير الداخلية اللواء حسن أبو باشا والكاتب الصحفى مكرم محمد أحمد ووزير الداخلية الأسبق اللواء النبوى إسماعيل فى عام ١٩٨٧، ومثل قتل الأقباط وتدمير محلات الفيديو وأدوار السينما وصيدليات الأقباط فى سوهاج. وفى عام ١٩٨٨ سيطرت الجماعات الإسلامية على منطقة إمبابة ومارست إرهابا ضد أقباطها، وتزايدت أعمال الفتنة الطائفية وإرهاب الأقباط خاصة فى الصعيد. وكتب فرج فودة كتابه "الإرهاب" (١٩٨٨) لدراسة تنامى هذا العنف، ورأى فيه أنه بالرغم من نجاح ردود الأفعال الأمنية العنيفة من قبل الدولة فى عهدى إبراهيم عبدالهادى وجمال عبدالناصر فى تحجيم عنف الجماعات الإسلامية المتمثلة آنذاك فى الإخوان المسلمين، إلا أن مثل هذه النجاحات كانت لفترات محدودة ولم تستطع اجتثاث المشكلة من أساسها ومن ثم فإن حل إرهاب الجماعات الإسلامية يكمن فى رأى فرج فودة فى ثلاثة سبل هى اتساع ساحة الديمقراطية حتى للتيارات الإسلامية وأن يسود القانون، وأن يكون للإعلام خط ثابت مدافع عن أسس الدولة المدنية.
تيار الإسلام السياسي:
يرى فرج فودة أن اعتبار تيار الإسلام السياسى المعاصر فى مصر تياراً واحداً هو "خطأ شائع،" فهو يقسمه إلى ثلاثة تيارات مختلفة هى:
التيار التقليدى: ويتمثل فى جماعة الإخوان المسلمين التى نشأت فى العشرينيات والتى – رغم خدعة اعتدالها الظاهرى – ينبئ تاريخها فى مصر بلجوء بعض أجنحتها إلى "اغتيال المعارضين فى ظل الأنظمة الديمقراطية أو قلب نظام الحكم فى ظل الأنظمة الشمولية. ورغم رفض مؤسسها حسن البنا تحول الجماعة إلى حزب سياسى، إلا أنها الأكثر تنظيماً ومشاركة فى الحياة السياسية منذ دخولها مجلس الشعب لأول مرة عام ١٩٨٤.
التيار الثورى: ويتمثل فى الجماعات الإسلامية المسلحة التى نشأت فى أواخر الستينيات، وهى تعتقد بجاهلية المجتمع وترفض الدستور والديمقراطية وتؤمن بالعنف كأسلوب وحيد للعمل السياسي.
التيار الثروى: ويتمثل فى أصحاب الثروات المتضخمة التى تكونت نتيجة للعمل فى الخليج أو فى مصر بعد الانفتاح الاقتصادى فى السبعينيات.
وبصورة عامة، فيمكن اعتبار العديد من كتب فرج فودة دراسات تفصيلية للتيارات الثلاثة، إذ أن كتابه "حوار حول العلمانية" (١٩٨٧) هو نقد للتيار التقليدى، و"الإرهاب" (١٩٨٨) نقد للتيار الثورى، و"الملعوب" (١٩٨٥) نقد للتيار الثروى وتحذير من أثر بيوت توظيف الأموال الإسلامية على الاقتصاد المصرى وتدمير مدخرات المصريين وإضعاف السيولة اللازمة للاستثمار وإبخاس قيمة الجنيه المصرى. كذلك يعتبر كتابه "النذير" (١٩٨٩) تأريخا لحركة هذه التيارات الثلاثة والتى بدأت منفصلة شبه متناحرة فى انتخابات ١٩٨٤، ثم متحالفة فى انتخابات ١٩٨٧.
كما يرى فرج فودة أن انعدام وجود برنامج سياسى لدى أنصار التيار الإسلامى هو أكبر الأخطار على مستقبل مصر. وهو يعزيه فكرياً إلى قصور فكر الاجتهاد لدى أنصار هذا التيار: "هذه الدولة الإسلامية تحتاج إلى برنامج سياسى يعرض تفصيلاً وتأصيلاً للعموميات والجزئيات، وأنهم أعجز من أن يصيغوا مثل هذا البرنامج أو يتقدموا به، وأنهم يهربون من الرحى برميها فوق رؤوسنا، داعين إيانا إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، التى تقودنا بالحتم إلى دولة دينية إسلامية، نتخبط فيها ذات اليمين وذات اليسار، دون منارة من فكر أو اجتهاد مستنير، وليحدث لنا ما يحدث، وليحدث للإسلام ما يحدث، وما علينا إلا أن نمد أجسادنا لكى يسيروا عليها خيلاء، إن أعجزهم الاجتهاد الملائم للعصر رفضوا العصر، وإن أعجزهم حكم مصر هدموا مصر."
العقل المصرى
"فالعقل المصرى قابل للمحاورة معك مهما اختلقت معه بشرط أن تكون واضحاً ومقنعاً، وهو أيضا مستعد لتلقى آرائك مهما كانت بشرط أن يتيقن من صدقك فى التعبير والدفاع عنها، وحاسته فى إدراك الصدق وتميزه حاسة باهرة. ولعل هذا يفسر لنا تقبل المصريين لفكر رواد الحضارة فى بداية القرن العشرين، أمثال: رفاعة الطهطاوي، وعلى مبارك، وأحمد لطفى السيد، وسعد زغلول، وقاسم أمين، وطه حسين، وعلى عبدالرازق، وأحمد أمين.. وغيرهم"
ربما كلام فرج فودة هذا يعطينا دفعة للتعامل مع العقل المصرى والاهتمام بمحاورته بديلاً عن فرض الوصاية عليه من قبل بعض العلمانيين أو ممن يطلقون على أنفسهم هذه التسمية بأنه شعب متخلف ولا يجد الحوار معه نفعاً، إذ يؤكد فرج فوده على أهمية الحوار ولكن بشروط مهمة، أساسها المصداقية، والدفاع عن الرأى ليس بتجهيل الآخر أو فرض وصاية عليه بل بالحوار الصادق، والاستمرارية حيث يضرب لنا مثلاً برواد نهضتنا فى العصر الحديث.
فلم يكن واحداً من هؤلاء يسير مع التيار العام، أو يرضخ لما يطلبه الرأى العام. أو يتمسك بالثابت والمستقر، وقد تكالبت عليهم العقول الراضخة والظلامية إلا أن من بقى هم الرواد وأما الزبد فيذهب جفاء.
ويستطرد فرج فودة ويقول: "وليس عليهم إلا أن يدركوا حقيقة واحدة، وهى أنهم موجودون لأداء دور تفرضه عليهم معطيات الواقع ومتطلبات المستقبل، ويدفعهم إليه إيمانهم بأوطانهم وبمستقبل الأجيال القادمة، وأن وجودهم مرتبط بأداء هذا الدور، وأنهم بقدر هذا الأداء سوف يكونون، وبقدر التضحية سوف تنتصر دعوتهم، وبقدر قوة مناوئيهم وعنفهم وجبروتهم، بقدر ما يكون لأدائهم مضي، ولدورهم تأثير".. هكذا كان فرج فوده يعطى نفسه وإيانا الدرس فى الدفاع عن أفكارنا وحريتنا ووطننا.
الإرهاب حسب الطلب
يقول فرج فودة " إن الإرهاب لا يعيش، ولا ينمو إلا فى ظل الديماجوجية، وإلا عندما تفقد العين القدرة على التمييز بين الإرهاب وبين الشرعية، وإلا عندما يتنادى البعض بأن هناك إرهاباً مشروعاً، وإرهاباً غير مشروع، وإرهاباً مستحباً، وإرهاباً غير مستحب".. وضرب فرج فوده مثلاً بقتل السادات وقتل رجال الشرطة فى أسيوط حيث صنفت بعض القوى الحزبية قتل السادات بأنه عمل بطولى، وأما قتل ضباط الشرطة فقد صنفوه إرهاباً.
وهنا يضع فرج فودة يده على الجرح وعلى الأزمة الحقيقية لدى نخبنا الثقافية وفى القلب منهم هؤلاء الليبراليون الذين يتشدقون طول الوقت بحقوق الإنسان طالما هذا الإنسان ضد السلطة، بينما لو كان مع السلطة فليس له أى حقوق بل يكون بالنسبة لهم خائناً وعميلاً و"أمنجياً"، وليس شرطاً أن يكون مع السلطة فى كل المواقف، فقط لو أيد السلطة أو الحكومة مرة واحدة يريدون إقامة حد الخيانة والعمالة عليه.
هذا الجزء من كتاب "الإرهاب" لفرج فودة يضعنا أمام أزمتنا بالفعل، وأعتقد أننا جميعا نتذكر ما حدث من عاصرى الليمون وما حدث بعد ٣٠ يونيو ٢٠١٣، وموقفهم من فض اعتصامى رابعة والنهضة، ودفاع الكثير من العلمانيين والليبراليين حتى اليوم عن هؤلاء الإرهابيين فى السجون المصرية أو بعد النطق بالحكم ضدهم، وكأن هؤلاء الإرهابيين حمائم سلام لم يغتالوا الوطن، ولم ينتهكوا حرماته. وخير مثال على ذلك هؤلاء الذين مازالوا يدافعون عن جماعة إرهابية أرادت قتلنا جميعا ورفعت شعار "يا نحكمكم يا نقتلكم".
الشائعات والطلقات:
يقول فرج فودة: "للإرهاب أنياب ومخالب، تتمثل فى إطلاق الشائعات الكاذبة المدروسة، والتى تمثل – إذا استعرنا أسلوب حرب العصابات- ستار الدخان الذى يحمى الإرهابيين، سواء فى إقدامهم على الفعل، أو فى الهروب بعده، بأقل قدر من الخسائر، وبأكبر قدر من تجميد وتحييد الاستنكار الشعبي".
وياصل شرح فكرته قائلاً "لست أدرى كيف لم ينتبه أحد إلى أنها أصبحت سمة أساسية للعمليات الإرهابية فى السنوات الأخيرة، وكيف لم تصل درجة التنبه إلى دراسة كيفية مواجهة هذه الشائعات إعلامياً، وسياسياً، وأمنياً. لأنها فى النهاية لا تقل خطراً عن البندقية فى كل الأحيان، وترتبط بها ارتباطاً وثيقاً فى أغلب الأحيان".
بهذه الكلمات، امتلك فرج فودة القدرة على استشراف المستقبل، حيث مازلنا ندور فى نفس الدائرة، فما زالت جماعة الإخوان الإرهابية تمارس هوايتها المفضلة فى صناعة ونشر الشائعات والأكاذيب مؤيدة بأجهزة استخباراتية، وقنوات فضائية تابعة لدول معينة فى المنطقة ويمتلكون عدداً كبيراً من المواقع الإليكترونية، ولهم أسهم فى عدد من الصحف العالمية يبثون خلالها أكاذيبهم وشائعاتهم.
ويتحدث فرج فودة عما حدث بالفعل معه، ومع غيره فقد تم تكفيره وأشيع كذباً أنه ملحد كما حدث عقب محاولة اغتيال أبو باشا، حيث أشيع أنه رمى المصحف على الأرض ثم داسه بالأقدام..وهكذا تم مع نصر حامد أبوزيد، ونجيب محفوظ من بعد، وغيرهم.
تلك الشائعات التى تلقى صدى واستجابة ليس فقط من البسطاء، بل أيضا من أصحاب المستوى التعليمى المرتفع، فيقومون بترديدها ونشرها دون مناقشة أو تفكير وتكون النتيجة عدم اهتمام الشارع بالأحداث الإرهابية، أو يكون رد الفعل أقل من المتوقع.
فالشائعات هى المدخل الآمن لتنفيذ العملية الإرهابية، وحسب فرج فوده: "لو قدر للمتطرفين أن ينشئوا مدرسة للإرهاب، لكان الدرس الأول فيها: لا تتسرع بإطلاق الرصاص، وابدأ أولاً بإطلاق شائعة، وتعمد أن تكون نجسة ومثيرة، وأسهل الشائعات أن تتهم الضحية بتمزيق المصحف أو بدهسه بالأقدام، أو بأنه سب سيدنا الحسين، أو أنه يتباهى بالكفر والإلحاد، أو أنه سب الدين الإسلامي.. وبعدها أطلق النار، وسوف تجد طريقك ممهداً، وإرهابك مؤيداً، فأنت أمام الرأى العام مدافع عن الإسلام، وتأكيداً لهذا فلنراجع جملة الشائعات التى تسبق حوادث الفتنة الطائفية".
هنا يتبين أن الشائعات التى تطلقها هذه الجماعات ليست عشوائية بل هى شائعات مدروسة، وتستهدف نتائج محددة، وتستند إلى دراسات نفسية لاتجاهات الرأى العام، وما يمكن أن يؤثر فيه، وتخلق الإطار النفسى الملائم لقبول عمليات إرهابية فى مرحلة لاحقة، فهى ليست من صنع خيال أفراد كما يؤكد فرج فوده فالأقرب والأدق أن تكون من صنع أجهزة متمرسة، تصنع الشائعات المركبة فى عدد محدد من السطور، وتتركها كى تختمر ثم يحدث المحظور..وجميعنا يعلم من هى الأجهزة التى تدعم جماعات الإرهاب والتكفير فى منطقتنا.
ويخلص فرج فودة إلى أن جهاز الإرهاب لا يقتصر فقط على جملة السلاح، ومصوبى الطلقات، بل يشمل فيمن يشمل بعض الخبراء فى إعداد الشائعات، وبعض القادرين على تمريرها وأن الشائعات شأنها شأن كثير من السلع الاستهلاكية، بعضها محلية، حين يتعلق الأمر بتصفية حسابات فردية، وبعضها مستورد وتصنعه أجهزة متخصصة، حين يتعلق الأمر بتهديد الأمن الداخلى والخارجى لمصر. وإهمال هذا الجانب يفقد تحليلنا لظاهرة صناعة الإرهاب جانباً من جوانبها الأساسية، وعليه أصبحت الشائعات، وصناعتها جزء لا يتجزأ من عملية الإرهاب المتكاملة، وأن مواجهة هذه الشائعات يجب أن تتوازى مع مواجهة الطلقات.