العقلانيّة جزء من ثقافتنا وليست دخيلة علينا.. والعقل لم يكن غائبًا فى تراثنا
عندما أصدرت «البوابة» عددًا خاصًا تحت عنوان «مشاعل التنوير»، جاءت ردود الأفعال لتؤكد أن العقل العربي ما زال بخير برغم كل ما يحيط بنا من محاولات للعودة إلى الخلف والانغلاق أمام التطور.. وطلب عدد من القراء أن نواصل فتح هذا الملف المهم، وتساءل بعضهم عن شخصيات معينة غابت عن ذلك العدد الخاص الذى صدر فى يوم الخميس ٦ إبريل الجارى.
ولأن عددًا واحدًا ما كان ليكفى لرصد كل الذين آمنوا بالعقل واهتموا بالتفكير أساسًا للتقدم والرقى، ومن خلال رؤية الكاتب الصحفى عبد الرحيم علي رئيس مجلسي الإدارة والتحرير، وإيمانًا بأهمية العقل والتنوير ومواجهة تيار الظلام والاستبداد، قرر أن تقدم «البوابة» مجموعة من الأعداد الخاصة عن مشاعل التنوير علها تكون حجرًا فى المياه الراكدة، مع فتح نقاش واسع حول فكرة العقل والتنوير، على كل المستويات الأهلية والأكاديمية، ومن خلال المؤسسات الثقافية والمعنية بالعقل وأهميته ودوره فى تقدم الحياة وتطورها.. وقد طرح القراء المهتمون أسماء شخصيات معينة، لم تكن غائبة عن ذهننا ونحن نخطط لتلك الأعداد، كما طلب بعض القراء الكرام أن نقدم فكرة عامة عن مفهوم التنوير، وهو ما نحاول أن نتناوله فى هذه المقدمة لعدد اليوم، وهو العدد الذى آثرنا أن نصدره عقب إنتهاء الأعداد الخاصة المرتبطة بشكل مباشر بشهر رمضان المعظم.
يعد مفهوم التّنوير واحدا من بين أهم المفاهيم التى شغلت عقول الفلاسفة والمفكرين فى القرون الأخيرة، ويعد موضوعًا راهنًا بالنسبة لنا فى مصر على وجه الخصوص ولأمتنا العربية بشكل عام، رغم أنه لم يظهر عندنا بشكل واضح ولا يزال مفهومًا ملتبسًا ومجهولًا عند الكثيرين، ومن هنا سوف نحاول التعرف عليه بشكل مختصر غير مخل.
التنوير حركة فكرية بدأت فى مرحلة مهمة من تاريخ أوروبا الحديث فى القرنين ١٨ و١٩، قام بها الفلاسفة والعلماء، الذين نادوا بقوة العقل وقدرته على فهم العالم وإدراك ناموسه وقوانين حركته. اعتمد التنويريون على التجربة العلمية والنتائج المادية الملموسة بدلًا من الاعتماد على الخرافة والخيال.
ومن أهم أعلام التنوير فى بريطانيا، فرانسيس بيكون، المحامى الإنجليزى الذى طالب بالاعتماد على منهج علمي جديد يقوم على أساس من التجربة. وبشّر بيكون بحالة جديدة تتحقق فى المستقبل، عندما تصبح المعرفة مصدر القوة التى تمكن الإنسان من السيطرة على الطبيعة. كذلك إسحاق نيوتن، عالم الرياضيات، الذى قال بأن العالم يسير حسب مجموعة من القواعد الطبيعية تحكمها قوى عوامل الجاذبية. وأكد نيوتن أن فى استطاعة الإنسان إذا اعتمد على نور العقل تفسير الظواهر الطبيعية وإدراك دوره فى العالم المجهول.
ويحدد إيمانويل كانت مفهوم التنوير بأنه: خروج الإنسان من قصوره الذى اقترفه فى حق نفسه من خلال عدم استخدامه لعقله إلا بتوجيه من إنسان آخر. ويحصر أسباب حالة القصور تلك فى السببين الأساسيين التاليين: الكسـل والجبــن! فتكاسل الناس عن الاعتماد على أنفسهم فى التفكير أدى من جهة إلى تخلفهم، ومن جهة أخرى هيأ الفرصة للآخرين لاستغلالهم، وذلك بسبب عامل الخوف فيهم.
وارتبط التّنوير بانتشار المعرفة العلميّة والاقتداء بآراء العلماء، ومما مهد الطريق أمام هذه الفكرة؛ أى فكرة المعرفة العلميّة، هو انتشار البروتستانتيّة التى سبق أن طرحت فكرة الإيمان الفردي، و"أن كل شخص ينبغى أن يتصرف وفق تقديره هو" فكذلك أصبح من واجب الإنسان أن يتطلع إلى الطبيعة بنفسه من خلال التجربة والخطأ وتصحيح الخطأ؛ أى بواسطة العلم. ومعلوم أن عصر التّنوير، هو تقدير للنشاط العقلي، يستهدف نشر النّور، حيث كان الظلام من خلال من كانوا يدافعون عن النظريات الباليّة القديمة من رجال دين وساسة مستبدين. ولذلك، نجده ارتبط بجماعة "أصحاب الأقلام" الذين وضعوا الموسوعة وأشرفوا على صالونات باريس الثقافيّة. فالموسوعة هى الأثر البارز الذى خلقه التنوير فى القرن الثامن عشر، وهى عبارة عن عمل ضخم تضمن كلّ المعرفة العلميّة المتاحة فى ذلك العصر، وكان واضعوها التنويريون يأملون أن ينتجوا بها أداة فعالة فى الصراع ضدّ ظلام السلطة.
والحقّ أن من يقرأ تاريخ الفكر الإسلامى، يلاحظ أنه وجدت فى تاريخنا جماعة فلسفيّة سبقت الموسوعيين؛ أعنى جماعة إخوان الصفاء وخلان الوفاء، التى ألفت الرسائل الموسوعيّة فى الإلهيات والطبيعيات والأخلاق والديانات والسياسة...إلخ، يقول إخوان الصفاء عن رسائلهم: "وقد عملنا فى هذه العلوم والآداب إحدى وخمسين رسالة، كل واحدة منها فى فنّ من العلوم ونوع من الآداب، فاطلبها واقرأها، تجدها سهلة من غير تعب وكدّ." وقالوا فى أجمل عباراتهم: "ولا تشغلن بذكر عيوب مذاهب النّاس، ولكن انظر هل لك مذهب بدون عيب. فضلًا عن أن الباحث فى الفكر الإسلامى ينتبه لفرقة المعتزلة التى رأت أن الله يرغب فى سيادة العقل، لأنه أشرف شيء خلقه. وقديمًا قيل: إن المعتزلة تهدم الإسلام من الداخل، مع أنّ هذه الفرقة الكلاميّة لم تظهر إلا لتقاوم الفكر الغنوصي، كما أن إخوان الصفاء لم يظهروا إلا لتقويم الشريعة و"نفى شبهة الملاحدة وجحد الأنبياء." فأنقذوا الإسلام، ولم يهدموه.
إن التّنوير أو العقلانيّة ليست دخيلة علينا، وإنّما هى جزء من ثقافتنا وتراثنا، ولم يكن العقل غائبًا فى تراثنا، رغم المحاربة التى تعرض لها.. حتى أن عددًا من كبار علماء الأزهر الشريف نادوا بضرورة إعمال العقل وأهمية الاجتهاد للخروج من دوائر مغلقة كانت تعطل التقدم الإنسانى، ولطالما سمعنا وقرأنا أن استعمال العقل واجب وأن الإسلام لا يجافى العقل، مع أن الواقع يقول خلاف ذلك دائمًا، كما أن التّاريخ الإسلامى لم يفسح مجالًا للتيار العقلى إلا نادرًا. ولذلك، فمن الضرورى التوقف لمناقشة هذا الموضوع بشكل واسع وفى كل المجالات، ونتناول فى هذا العدد من شيوخ الأزهر الشريف الشيخ حسن العطار والشسخ مصطفى عبد الرازق، إلى جانب مفكرين أضاءوا لنا طريق الاستنارة، مثل قاسم أمين والدكتور مراد وهبة والدكتور على مبروك والمفكر فرج فودة.. فإلى صفحات العدد.