تلك ما يُقال عنها: الصدفة المُقدَّسة التي تأتيك بأحلام، تظنها عصيَّة على التحقيق، لكن للأقدار حكايات، فمن ذا كان يتخيل أن نداهة الشعر ستجمع يومًا بين قلبي غريبين بعد كل هذا العمر في "باريس".
ربما لعقود كان يتم ترتيب هذا اللقاء بين ابن محافظة المنيا بمصر وابن مدينة جبلة بسوريا، فكم كانت بعيدة المسافات.. كل المسافات إلا تلك التي يربطها الحرف.. الحب.. الكلمة.
يلتقي عبد الرحيم أدونيس، ويصف اللقاء: أشعر بجمال اللقاء وروعته، أسمع أدونيس وهو يقول: الله ليس بحاجة إلى مَن يُدافِع عنه، بل إلى من يُضيئ الدروب إليه، بالفكر المنفتح المُحب. وأرى عبد الرحيم علي وهو يضع معه موازين الشعر في آخر كل كلمة كتبها ويقول:
أدونيس.. لُغَة تَرسُو بلا تَحيّةٍ في مَرْفأ الكَلامِ..
ثم يقدِّمه:
لَمْ أَرَه وَجْهًا لوَجْهٍ، كُنتُ أَرَاه منْ بَعيدٍ شِهَابًا يُضِيءُ ويختَفي خَلفَ منَابرِ الأَندلسِ القديمةِ .. وقُصُورِ أمرَاءِ الطوَائفِ.. لُغَةً تَرسُو بلا تَحيّةٍ فى مَرْفأ الكَلامِ..
مهيَارُ كُنيتِه وريحتِه وصَمتِه حينَ يبَدأُ فى التأمُّلِ..
صهوةُ جوَادٍ خبَّأتْ نَارًا تبتلعُ الفضاءَ .. كانَ هو .. طَيرًا يراوِحُ بينَ البيضَةِ والنَّارِ، يشْوِى، يتَألَّمُ، يُقَاومُ، لكنَّه أبَدًا لا يطِيرُ نحوَ الفرَاغِ ..
أيقُونة من شغفٍ تطيشُ على أثرِ تطوِيحِها قلوبًا وأوهامًا .. هَمْهَمَات العصَافيرِ حينَ تكبَحُ جماحَ قلبِها المكلُومِ .. خبطَ ناقةٍ عمياء لا تُجيدُ الرحيلَ في الصَّحَارِي البعيدةِ..
أيقَنَتها قلبَه .. هيَ روايةُ المحِبِّينَ .. والمُطوِّفينَ والرُّكّعِ السجُودِ.. هَائمي القلوبِ مُعطِّرِي الأجسَادِ.. إنَّه أَدُونيس.. كل معاني الكلام لا تفي للترحيب به، إنما هي همهمات القلوب عندما تأتي على مهل تُهدهدنا وتهدينا اليقين..
أشعر بالبهجة في وجهه وفي روح الشاعر الكامن بداخله حينما يلتقي رفاقه في استراحة مُحارِب بعد عناء المعارك.. هذا حديث من القلب أنصتت إليه باريس بأكملها.. هذا لقاء للتاريخ يحتاج إلى تدوين.. هذا بيتٌ لقصيدة جمعت كل معاني الفكر والإبداع.
لا أجد كلمة لوصف لقائهما أفضل من الكلمة التي اختاراها لتكون عنوانًا لمشروعهما الثقافي "تحولات"، الذي وصفه أدونيس في مقدمة لباكورة إنتاج هذا المشروع، وهي 3 دواوين شعرية اختِيرت من بين العديد من الأعمال لتكون أولويات العمل من نصيب:
الشاعر شريف الشافعي بطباعة ديوانه "الأعمال الكاملة لإنسان آلي"، وهو شاعر مصري معاصر، من مواليد مدينة منوف في العام 1972، صدر له ثمانية دواوين، منها: «بينهما يصدأ الوقت» (القاهرة، 1994)، و«الألوان ترتعد بشراهة» (القاهرة، 1999)، و«كأنه قمري يحاصرني» (بيروت، 2013، دار الغاوون)، و«هواء جدير بالقراءة»، و«رسائل يحملها الدخان» (باللغتين: العربية والفرنسية، باريس، 2014، 2016، دار لارماتان، ترجمة منى لطيف).
واختِيرت تجربته «الأعمال الكاملة لإنسان آلي» للتدريس في جامعة «آيوا» الأمريكية، وفي «جامعة الكويت»، وذلك بوصفها «إضافة حيوية إلى قصيدة النثر العربية»، و«نقطة التقاء حميمة بين الإبداع الورقي، والإبداع الإلكتروني».
والشاعر علي العطار بطباعة ديوانه "الماكنة"،
والشاعر باسم سليمان بطباعة ديوانه "رأسي البسط، جسدي المقام، أنا كسر بين الأرقام.
الدواوين الثلاثة صدرت عن المركز العربي للصحافة والنشر ممهورة بمقدمة من الشاعر الكبير أدونيس جاء فيها:
"منذ صدور مجلة "شعر"، وبعدها "مواقف"، و"الآخر" كنت شديد الحرص على استقصاء الكتابة الشعرية العربية عند الأجيال الشابة، وبخاصة في كل ما يتصل بالرؤية إلى الحياة والإنسان والعالم، وطُرق التعبير وجمالية اللغة.
وقد تبين لي، بدءًا من السنوات الأولى في هذا القرن أن ثمة انعطافًا مُهمًّا على أكثر من صعيد في هذه الكتابة، خصوصًا عند المرأة، ونظرًا لغياب هذه المجلات التي كانت تحتفي بالإبداع العربي في جميع الميادين، فكرت في طريقة تُعوِّض عنها، لتجديد الاحتفاء بالإبداعات العربية.
هكذا أخذت أتساءل في ذات نفسي: ترى ألا يمكن أن نجد شخصًا عربيًّا يدعم الشعر، كتابة ونشرًا، لا لشيء إلا لوجه الشعر نفسه؟
ومن جميل المصادفات، كما يحدث أحيانًا للشاعر عندما تتلألأ في مخيلته خطاطة لقصيدة جديدة، التقيت الأستاذَ عبد الرحيم علي، في إطار مناسبة ثقافية في باريس، وفي أثناء حديث تبادلنا فيه بعض الأفكار، ذكرت له ما كنت أعزم على العمل لتأسيسه، وهو مشروع ينشر دوريًّا، شعر هذه الأجيال الشابة، في صيغة كتاب خاص بكل شاعر، وينهض اختياره ونشره على أساسيين:
الأول: أنه يحقق في رؤيته وطُرُق تعبيره، قطيعة جمالية وفكرية مع الشعر السائد.
الثاني: أن فيه ما يؤسس لعلاقات جديدة بين الكلمة والكلمة، وبين الكلمة والشيء، وبين كتابة الشعر من جهة، وقراءته وفهمه وتلقيه من جهة ثانية، ومعنى ذلك أن يكون فيه ما يؤسس لأفق آخر في الكتابة الشعرية العربية جماليًّا ومعرفيًّا.
وقد فوجئت حقًّا عندما استجاب على الفور قائلًا: يُسعدني أن أحتضن هذا المشروع في جوانبه المادية والثقافية، وكان أن اتفقنا على تسمية المشروع "تحولات".. وها نحن معًا نبدأ العمل.
انتهت المقدمة التي كتبها أدونيس، وبدأت صفحة جديدة من الحلم لكل المبدعين من الشباب، تمتد باتساع الأرض، وبارتفاع السماء ليس فيها حدود، ولا جنسيات، ولا حسابات، وحدها الكلمة والكلمة ولا شيء غيرها تطير حُرَّة غير مقيدة الأوابد.