الإثنين 23 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

سياسة

صورة محمد رسول الله في أعين المستشرقين «4»| «كونستانس»: الدين الإسلامي أسس لدستور يتسامح مع الأديان الأخرى.. «تولستوى» النبي محمد دعا إلى عبادة الله الواحد وتحمل الأذى في سبيل رسالته

الكاتب الروماني كونستانس
الكاتب الروماني كونستانس جيورجيو
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

تنوعت الدراسات الاستشراقية التي تناولت سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم تنوعًا كبيرًا، ورغم ذلك نجد أن معظم هذه الدراسات اهتمت كثيرًا بالجوانب الإنسانية والبشرية عند الرسول كالبطولة والعبقرية والعظمة وغيرها، وقد درس كل منهم هذه المزايا أو بعضها من وجهة نظره الخاصة، فبعضهم عد محمدا صلى الله عليه وسلم قائدا وزعيما، وبعضهم جعله فى مصاف المصلحين الاجتماعيين ورائدا من روادهم، وآخرون رأوا أنه أحد عباقرة العالم الذين يندر أن يحظى العالم بمثله.
وسوف نتناول فى هذه الحلقة اسمين مهمين كونستانس جيورجيو مؤلف كتاب «نظرة جديدة فى سيرة رسول الله»، الذي أدرج فيه «وثيقة المدينة» وكذلك الروائى والمفكر والمصلح الاجتماعي ليو تولستوى وكتابه «حكم النبى محمد» الذى دافع فيه عن الرسول والرسالة ومسلمي روسيا والعالم.
كونستانس جيورجيو ١٩١٦-١٩٩٢ كاتب روماني اشتهر بروايته الشهيرة الساعة الـ٢٥ التى صدرت عام ١٩٤٩، ولد فى قرية فاليا البا فى رومانيا، بين ١٩٤٢ و١٩٤٣ عمل فى وزارة الشئون الخارجية فى رومانيا كسكرتير سفير، تم اعتقاله عام ١٩٤٤، وخرج بعد الحرب العالمية الثانية، يعد كتابه نظرة جديدة فى سيرة رسول الله من أهم الكتب التى تناولت السيرة بموضوعية وحياد كبيرين، وفى كتابه هذا، يبدو متلهفا إلى معرفة نبى الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم فهو يؤرخ، ويناقش، ويحلل، ويقدم "نظرة جديدة فى سيرة رسول الله، العنوان الذى اختاره لتعريف العالم أجمع بهذا الرسول العظيم، وبعبقريته الفذة، التي أخرجت العرب من الظلمة إلى النور، وتمزق الصفوف، ومهاوى الكفر والرذيلة إلى نور الإيمان.
ومع أن الكتاب ليس جديدا بموضوعه، إلا أن طريقة تناول كونستانس الأجنبي غير المسلم لهذه السيرة، هو الجديد الذى ما يلبث القارئ أن يكتشفه عند البدء بقراءة الكتاب، فالمؤلف استخدم أسلوب القص الروائى الشيق، والمؤثر، بنفس الوقت، فى القلب والعقل وخصوصا عندما يتحدث عن نشأة الرسول فى مرحلة الطفولة ويتمه ورعاية عمه أبى طالب له، مرورا بذهابه إلى مكة، وزواجه بخديجة، وبدء الرسالة، وأول من آمن به، وهجرته إلى المدينة، وعن وضعه أول دستور فى الإسلام، وحروبه، وانتصاراته، وفتح مكة، وصولا إلى مرضه صلى الله عليه وسلم ووفاته.
وعن تنظيم محمد صلى الله عليه وسلم الحربى فى معركة بدر، يكتب مؤلف الكتاب: يعجب المرء، إذ كيف يتمكن جيش محمد صلى الله عليه وسلم من مجابهة جيش مكة الذى يفوق عدده جيش المسلمين. ولا يمكننا أن نتصور جنود مكة جبناء حتى ينتصر المسلمون عليهم ويهزموهم. فهم أيضا بداة، والشجاعة تسرى فى عروقهم، كما أن محمدا صلى الله عليه وسلم فى هذه المعركة لم يكن أكثر عتادا من جيش قريش، لكن الذى لا شك فيه أن محمدا ص كان يعتمد على الله فى حربه، وكان كل مسلم فى معركة بدر يؤمن بمثل إيمان محمد صلى الله عليه وسلم، وبأن الله لن يتركهم وحيدين فى معركتهم. ومن استشهد منهم لقى الجنة من غير حساب. وهكذا يصف كونستانس عقيدة المسلمين وإيمانهم بالله وبرسوله، أما رسول الله فوجد من يفديه بدمه وبسيفه، ومن هنا نفهم خلود الرسالة المحمدية حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
كونستانس ووثيقة المدينة
وتضمن كتابه «دستور المدينة» الذى وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم كعقد اجتماعى يسير عليه أهل المدينة على اختلاف معتقداتهم، هذا الدستور أو الوثيقة التى أشاد بها المؤرخون والمستشرقون على مدار التاريخ الإسلامى، واعتبرها الكثيرون مفخرة من مفاخر الحضارة الإسلامية، ومعلما من معالم مجدها الإنسانى.
إن هذا الدستور يهدف بالأساس إلى تنظيم العلاقة بين جميع طوائف وجماعات المدينة، وعلى رأسها المهاجرون والأنصار والفصائل اليهودية وغيرهم، يتصدى بمقتضاه المسلمون واليهود وجميع الفصائل لأى عدوان خارجى على المدينة. وبإبرام دستور المدينة هذا، وإقرار جميع الفصائل بما فيه- صارت المدينة دولة وفاقية رئيسها الرسول-صلى الله عليه وسلم-، وصارت جميع الحقوق الإنسانية مكفولة، كحق حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر، والمساواة والعدل.
ويقول المستشرق الرومانى جيورجيو: «حوى هذا الدستور اثنين وخمسين بندا، كلها من رأى رسول الله. خمسة وعشرون منها خاصة بأمور المسلمين، وسبعة وعشرون مرتبطة بالعلاقة بين المسلمين وأصحاب الأديان الأخرى، ولاسيما اليهود وعبدة الأوثان».
وقد دون هذا الدستور بشكل يسمح لأصحاب الأديان الأخرى بالعيش مع المسلمين بحرية، ولهم أن يقيموا شعائرهم حسب رغبتهم، ومن غير أن يتضايق أحد الفرقاء. وضع هذا الدستور فى السنة الأولى للهجرة، أى عام ٦٢٣ م، ولكن فى حال مهاجمة المدينة من قبل عدو عليهم أن يتحدوا لمجابهته وطرده”. ومن ثم تعالوا نقف وقفات سريعة على أهم معالم القيم الحضارية التى نراها جلية فى وثيقة المدينة:
أولا: الأمة الإسلامية فوق القبلية: قال الدستور فى ذلك: “إنهم [أى الشعب المسلم] أمة واحدة من دون الناس”. وبهذا البند اندمج المسلمون على اختلاف قبائلهم وأنسابهم إلى جماعة الإسلام، فالانتماء للإسلام فوق الانتماء للقبيلة أو العائلة، وبهذا نقل رسول الله العرب من مستوى القبيلة إلى مستوى الأمة.
ثانيا: التكافل الاجتماعى بين فصائل الشعب: وفى هذه القيمة كتبت البنود التالية:
المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين
وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين
وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين
وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين
بنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين
وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين..
وإن المؤمنين لا يتركون مفرحا بينهم أن يعطوه بالمعروف فى فداء أو عقل، ثالثا: ردع الخائنين للعهود: وفى هذا الحق كتب البند التالى: وإن المؤمنين المتقين أيديهم على كل من بغى منهم أو ابتغى دسيعة، ظلما أو إثما أو عدوانا أو فسادا بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعا، ولو كان ولد أحدهم. وهذا نص فى جواز حمل السلاح على أى فصيل من فصائل المدينة إذا اعتدى على المسلمين، وبموجب هذا النص حكم بالإعدام على مجرمى قريظة – بعد معركة الأحزاب فى ذى القعدة ٥ هـ/إبريل ٦٢٧ م، لما تحالفوا مع جيوش الأحزاب الغازية للمدينة، وبغوا وخانوا بقية الفصائل، على الرغم من أنهم أبناء وطن واحد!
رابعا: احترام أمان المسلم: وجاء فى هذا الأصل الأخلاقى البند التالى: وإن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالى بعض دون الناس. فلأى مسلم الحق فى منح الأمان لأى إنسان، ومن ثم يجب على جميع أفراد الدولة أن تحترم هذا الأمان، وأن تجير من أجار المسلم، ولو كان المجير أحقرهم. فيجير على المسلمين أدناهم، بما فى ذلك النساء، وقد قال النبى –صلى الله عليه وسلم– لأم هانئ: " أجرنا من أجرت يا أم هانئ".
خامسا: حماية أهل الذمة والأقليات غير الإسلامية: وجاء فى هذا الأصل: وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصر عليهم، وهو أصل أصيل فى رعاية أهل الذمة، والمعاهدين، أو الأقليات غير الإسلامية التى تخضع لسيادة الدولة وسلطان المسلمين.. فلهم –إذا خضعوا للدولة– حق النصرة على من رامهم أو اعتدى عليهم بغير حق سواء من المسلمين أو من غير المسلمين، من داخل الدولة أو من خارجها.
سادسا: الأمن الاجتماعى وضمان الديات: وجاء فى هذا الأصل: “وإنه من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولى المقتول بالعقل، وإن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه”. وبهذا أقر الدستور الأمن الاجتماعى، وضمنه بضمان الديات لأهل القتيل، وفى ذلك إبطال لعادة الثأر الجاهلية، وبين النص أن على المسلمين أن يكونوا جميعا ضد المعتدى الظالم حتى يحكم عليه بحكم الشريعة، ولا شك أن تطبيق هذا الحكم ينتج عنه استتباب الأمن فى المجتمع الإسلامى منذ أن طبق المسلمون هذا الحكم.
سابعا: المرجعية فى الحكم: وجاء فى هذا الأصل: وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله –عز وجل- وإلى محمد… “وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله، وإلى محمد رسول الله، وإن الله على أتقى ما فى هذه الصحيفة وأبره.
ثامنا: حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر مكفولة لكل فصائل الشعب: وجاء فى هذا الأصل: وإن يهود بنى عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، ومواليهم وأنفسهم إلا من ظلم نفسه وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.
تاسعا: الدعم المالى للدفاع عن الدولة مسئولية الجميع: وجاء فى هذا الأصل: «وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين”، فعلى كل الفصائل بما فيها اليهود أن يدعموا الجيش ماليا وبالعدة والعتاد من أجل الدفاع عن الدولة، فكما أن المدينة وطن لكل الفصائل، كان على هذه الفصائل أن تشترك جميعها فى تحمل جميع الأعباء المالية للحرب».
عاشرا: الاستقلال المالى لكل طائفة: وجاء فى هذا الأصل: «وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم»، فمع وجوب التعاون المالى بين جميع طوائف الدولة لرد أى عدوان خارجى، فإن لكل طائفة استقلالها المالى عن غيرها من الطوائف.
الحادى عشر: وجوب الدفاع المشترك ضد أى عدوان: وجاء فى هذا الأصل: «وإن بينهم النصر على من دهم يثرب، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة»، وفى هذا النص دليل صريح على وجوب الدفاع المشترك، ضد أى عدوان على مبادئ هذه الوثيقة.
الثانى عشر: النصح والبر بين المسلمين وأهل الكتاب: وجاء فى هذا الأصل: «وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم»، فالأصل فى العلاقة بين جميع طوائف الدولة –مهما اختلفت معتقداتهم– هو النصح المتبادل، والنصيحة التى تنفع البلاد والعباد، والبر والخير والصلة بين هذه الطوائف. وقد اشتملت الدستور على قيم حضارية أخرى منها:
الثالث عشر: حرية كل فصيل فى عقد الأحلاف التى لا تضر الدولة: وجاء فى هذا الأصل: «وإنه لا يأثم امرؤ بحليفه».
الرابع عشر: ووجوب نصرة المظلوم: وجاء فى هذا الأصل: «وإن النصر للمظلوم».
الخامس عشر: وحق الأمن لكل مواطن: «إنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم، وإن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول».
هذه بعض معالم الحضارة الإسلامية فى دستور المدينة، تبين لك – كما رأيت – كيف سبق النظام الإسلامى جميع الأنظمة فى إعلاء قيم التسامح والتكافل والحرية ونصرة المظلوم.. وغيرها من القيم الحضارية التى يتغنى بها العالم فى الوقت الراهن دون تفعيل جاد أو تطبيق فاعل.
تولستوى وحكم النبى محمد
تولستوى ٩ سبتمبر ١٨٢٨- ٢٠ نوفمبر ١٩١٠، من عمالقة الروائيين الروس ومصلح اجتماعى وداعية سلام ومفكر أخلاقى وعضو مؤثر فى أسرة تولستوى، يعد من أعمدة الأدب الروسى فى القرن التاسع عشر والبعض يعده من أعظم الروائيين على الإطلاق.
أشهر أعماله روايتا «الحرب والسلام» و«أنا كارنينا» وهما يتربعان على قمة الأدب الواقعى، فهما يعطيان صورة واقعية للحياة الروسية فى تلك الحقبة الزمنية.
وكفيلسوف أخلاقى اعتنق أفكار المقاومة السلمية النابذة للعنف وتبلور ذلك فى كتاب «مملكة الرب داخلك» وهو العمل الذى أثر على مشاهير القرن العشرين مثل مهاتما غاندى ومارتن لوثر كينغ فى جهادهما الذى اتسم بسياسة المقاومة السلمية النابذة للعنف.
وضع «تولستوى» كتاب «حكم النبى محمد» دفاعا عن الحق فى مواجهة التزوير والتلفيق اللذين لحقا بالدين الإسلامى والنبى محمد صلى الله عليه وسلم على يد جمعيات المبشرين فى «قازان»، والذين صوروا الدين الإسلامى على غير حقيقته، وألصقوا به ما ليس فيه، فقدم تولستوى الحجة وأقام البرهان على المدعين عندما اختار مجموعة من أحاديث النبى، وقام بإيرادها بعد مقدمة جليلة الشأن واضحة المقصد قال فيها إن تعاليم صاحب الشريعة الإسلامية هى حكم عالية ومواعظ سامية تقود الإنسان إلى سواء السبيل، ولا تقل فى شيء عن تعاليم الديانة المسيحية، وإن محمدا هو مؤسس الديانة الإسلامية ورسولها، تلك الديانة التى يدين بها فى جميع جهات الكرة الأرضية مئتا مليون نفس «آن تأليف الكتاب»، وقد وعد تولستوى فى آخر كتابه بأنه سيؤلف كتابا كبيرا بعنوان «محمد» يبحث فيه المزيد من الموضوعات.
وتحت عنوان «من كان محمد» كتب توليستوى، إن محمدا هو مؤسس ورسول الديانة الإسلامية التى يدين بها فى جميع جهات الكرة الأرضية مائتا مليون نفس.
ولد النبى محمد فى بلاد العرب سنة ٥٧٠ بعد ميلاد المسيح من أبوين فقيرين، وكان فى حداثته راعيا، ومال منذ صباه إلى الانفراد فى البرارى والأمكنة الخالية؛ حيث كان يتأمل بالله، وخدمته أن العرب المعاصرين له عبدوا أربابا كثيرة، وبالغوا فى التقرب إليها واسترضائها، فأقاموا لها أنواع التعبد، وقدموا لها الضحايا المختلفة؛ ومنها الضحايا البشرية، ومع تقدم محمد فى السن كان اعتقاده يزداد بفساد تلك الأرباب، وأن ديانة قومه ديانة كاذبة، وأن هناك إلها واحدا حقيقيا لجميع الشعوب.
وقد ازداد هذا الاعتقاد فى نفس محمد حتى قام فى نفسه أن يدعو أمته ومواطنيه إلى الاعتقاد باعتقاده الراسخ فى فؤاده، وقد دفعه عامل داخلى إلى أن الله اصطفاه لإرشاد أمته، وعهد إليه هدم ديانتهم الكاذبة، وإنارة أبصارهم بنور الحق؛ فأخذ من ذلك العهد ينادى باسم الواحد الأحد بحسب ما أوحى إليه، ومقتضى اعتقاده الراسخ.
وخلاصة هذه الديانة التى نادى بها محمد هى: أن الله واحد لا إله إلا هو؛ ولذلك لا يجوز عبادة أرباب كثيرة، وأن الله رحيم عادل، وأن مصير الإنسان النهائى متوقف على الإنسان نفسه، فإذا سار حسب شريعة الله، وأتم أوامره، واجتنب نواهيه؛ فإنه فى الحياة الأخرى يؤجر أجرا حسنا، وإذا خالف شريعة الله، وسار على هواه؛ فإنه يعاقب فى الحياة الأخرى عقابا شديدا، وأن كل شيء فى هذه الدنيا فان زائل، ولا يبقى إلا الله ذو الجلال، وأنه بدون الإيمان بالله وإتمام وصاياه لا يمكن أن تكون حياة حقيقية، وأن الله — تعالى — يأمر الناس بمحبته ومحبة بعضهم، ومحبة الله تكون فى الصلاة، ومحبة القريب تقوم فى مشاركته فى السراء والضراء ومساعدته والصفح عن زلاته، وأن الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر يقتضى عليهم أن يبذلوا وسعهم لإبعاد كل ما من شأنه إثارة الشهوات النفسانية، والابتعاد أيضا عن الملذات الأرضية، وأنه يتحتم عليهم ألا يخدموا الجسد ويعبدوه؛ بل يجب عليهم أن يخدموا الروح، وأن يزهدوا فى الطعام والشراب، وأنه محرم عليهم استعمال الأشربة الروحية المهيجة، ومحتم عليهم العمل والجد وما شابه ذلك.
ومحمد لم يقل عن نفسه: إنه نبى الله الوحيد، بل اعتقد أيضا بنبوة موسى والمسيح، وقال إن اليهود والنصارى لا يكرهون على ترك دينهم، بل يجب عليهم أن يتمموا وصايا أنبيائهم.
وفى سنى دعوة محمد الأولى احتمل كثيرا من اضطهاد أصحاب الديانة القديمة شأن كل نبى قبله نادى أمته إلى الحق، ولكن هذه الاضطهادات لم تثن عزمه بل ثابر على دعوة أمته.
وقد امتاز المؤمنون كثيرا عن العرب بتواضعهم، وزهدهم فى الدنيا، وحب العمل، والقناعة، وبذلوا جهدهم لمساعدة إخوانهم فى الإيمان لدى حلول المصائب بهم.
ولم يمض على جماعة المؤمنين زمن طويل حتى أصبح الناس المحيطون بهم يحترمونهم احتراما عظيما، ويعظمون قدرهم، وغدا عدد المؤمنين يتزايد يوما فيوما.
غير أن أصحاب الغيرة من أنصار النبى كانوا ينظرون إلى الوثنيين المحيطبن بهم وفسادهم بعين الغضب والاستياء؛ فدفعتهم غيرتهم على الحق إلى التشدد فى الدعوة إلى دين الإسلام والاعتراف بوحدانية الله، ومع أن هؤلاء الأنصار لم يبيحوا سفك الدماء للحصول على الأموال أو غيرها من متاع الدنيا من جانب؛ فإنهم من الجانب الآخر لم يبيحوا التهاون أو التخاذل أمام أولئك الذين أصروا على البقاء فى الضلال. 
وإذا كان انتشار الإسلام بصورة كبيرة على يد هؤلاء لم يرق بعض من البوذيين والمسيحيين فإن ذلك لا ينفى حقيقة أن المسلمين اشتهروا فى صدر الإسلام بالزهد فى الديانة الباطلة، وطهارة السيرة، والاستقامة، والنزاهة، حتى أدهشوا المحيطين بهم بما هم عليه من كرم الأخلاق، ولين العريكة، والوداعة، ومن فضائل الدين الإسلامى أنه أوصى خيرا بالمسيحيين واليهود؛ لا سيما قسوس الأوليين؛ فقد أمر بحسن معاملتهم ومؤازرتهم حتى أباح هذا الدين لأتباعه التزوج من المسيحيات واليهوديات، مع الترخيص لهم بالبقاء على دينهم، ولا يخفى على أصحاب البصائر النيرة ما فى هذا من التساهل العظيم، ومما لا ريب فيه أن النبى محمدا من عظام المصلحين الذين خدموا الهيئة الاجتماعية خدمة جليلة، ويكفيه فخرا أنه هدى أمة برمتها إلى نور الحق، وجعلها تجنح للسكينة والسلام، وتفضل عيشة الزهد، ومنعها عن سفك الدماء، وتقديم الضحايا البشرية، وفتح لها طريق الرقى والمدنية؛ وهو عمل عظيم لا يقوم به إلا شخص أوتى قوة، ورجل مثل هذا جدير بالاحترام والإكرام.