فى أواخر الثمانينيات وبالتحديد فى شهر ديسمبر عام ألف وتسعمائة وستة وثمانين أجريت حوارا مع الكاتب الكبير "يحيى حقي" بمنزله.
الأديب المتألق كان قد تجاوز الثمانين من عمره وحياته كلها دأبا وكفاحا...وعملا وفكرا وكان يعتذر عن اي حوار يجري معه لانه لا يريد أن يرهق نفسه بأضواء الكاميرات او الغوص في ماض بعيد او تذكر تواريخ الأحداث.
لكن من حسن حظى اننى عندما اتصلت به تليفونيا صادف هذا الاتصال وقت كان فيه سيادته سعيدًا فوافق على إجراء الحوار .
ومنذ ذلك اللقاء وحتى وفاته وانا أزوره أسبوعيا فى منزله مساء كل يوم اثنين من كل اسبوع.
وطوال هذه الأعوام أجريت مع سيادته حوارات كثيرة ولى معه ذكريات أكثر...
من أجمل ذكرياتى مع سيادته هو رجائه لى بأن أراقب باب مكتبه بمنزله وأنصت جيدا لصوت أقدام السيدة "جان" زوجته الفرنسيه أو تحركات تنذر بقدومها حتى يمكنه تدخين السيجارة الوحيدة عشقه كل أسبوع والتلذذ بدخانها مع تذوقه طعم القهوة.
كل يوم اثنين كنت لا بد ان أحضر معى علبة السجائر التى عهد لى ان أحفظها معى لكي يأخذ منها سيجارة واحدة فقط مساء هذا اليوم ثم أبقى ما تبقي منها للأسبوع القادم وهكذا.
كنت مع سيادته نتخذ إجراءات شديدة ومحكمة لعدم ضبطه أثناء تدخينه السيجارة الأسبوعية، حتى لا تمنعه زوجته خوفا على صحته ويحرم منها.
بعد أن ينجح الكاتب الكبير فى الانتهاء من تدخين السيجارة والتى كان يرى متعة تدخينها تفوق اى متعة وكان لا يرى ان تدخين سيجارة واحدة أسبوعيا لن تحدث ضررا كبيرا بصحته.
بعد انتهائه من تدخينها نوقف دوران المروحة العالى التى كنا نبدأ بتشغيلها قبل التدخين بدقائق صيفا وشتاء مع إزاحة ستائر المكتب وفتح نوافذه ونعود مرة ثانيه بعد تدخين السيجارة فى غلق نوافذ حجرة المكتب وعودة الستائر إلى مكانها على وجه التقريب.
كنت أترك الأستاذ برهة وهو يغوص فى عمق متعته ويتلذذ بآخر شفطة من فنجان قهوته.
وكنت عندما يدخن سيجارته أتذكر ما كتبه عن السيجارة.. تحت عنوان "أنا خَرْمان" وأعرف أن كتاباته كانت عن تجربة مدخن عاشق للسيجارة كثيرا.
أختار لك جزءا صغيرا مما كتبه لتستعيد معى متعة قراءته مرة ثانية كتب عن السيجارة:
هذه المخلوقة الضئيلة الحقيرة التي لولا ضعف الإنسان وحماقته لما قامت لها سوق رائجة تتعزز فيها وتتبغدد علينا، هذه الدودة الغليظة، المفرومة المصارين، المحشوة خبثا، تتلفع بطرحة بيضاء وفي قلبها أختل السموم، هذه الطاهرة وهي جثة، تصبح نجاسة عفنة تلوث كل شيء تلمسه إذا دبت فيها الروح، وروحها من نار جهنم، هذه السيجارة ماذا فعلت بأناس هم مع الأسف ولسوء الحظ كرام أهل حياء، فإذا بحصن حياتهم المنيع لا ينهدم إلا أمام سحرها.
وفي فقرة أخرى يقول لهفى على هؤلاء الضحايا جميعا، على بيوت كثيرة يسودها النكد من لوم الزوجة لرجلها أنه يصرف ثلث مرتبه في شرب الدخان،فيقول لها إنه يفعل هذا من شدة ضيقه بلومها.
كانت حياة الأديب الكبير يحيى حقي رحمه الله تتطابق مع عنوان كتابه الرائع "أنشودة البساطة"
ختاما كلمه "خَرْمان" تطلق على من يبالغ في شهوته وحاجته للشيء، مثل أنا "خَرْمان" قهوة اى أنا مشتهي بشدة قهوة، وأيضا أنا "خَرْمان" أى أشتهي بشدة تدخين سيجارة.