ستشهد الفجيرة يوم 15 مايو المُقبِل حدثًا فريدًا في تاريخ الفلسفة، ألا وهو تدشين افتتاح المقر الجديد لأول بيت للفلسفة في العالم العربيّ وذلك تحت رعاية سموّ الشّيخ محمّد بن حمد الشرقي ولي عهد الفجيرة.
تأسّس مشروع بيت الفلسفة في أكتوبر 2021. ومنذ ذلك التاريخ وحتّى الآن تشهد الفجيرة فعاليّات وأنشطة ثقافيّة وإبداعيّة تنتظمُ عالمنا العربيّ.
وقد كان لي شرف المشاركة في مؤتمرين كبيرين تزامن انعقادهما مع يوم الفلسفة العالميّ. انعقد المؤتمر الأوّل في نوفمبر العام 2021 تحت عنوان: "من السؤال إلى المشكلة". أمّا المؤتمر الثاني فانعقد في نوفمبر العام 2022 تحت عنوان: "الفلسفة والراهن". حضرَ كلا المؤتمرين وشارك فيهما عددٌ من الفلاسفة من مختلف دول العالَم. علاوة على ذلك، حظيَ كلا المؤتمرين برعاية سمو الشّيخ محمد بن حمد الشّرقيّ ولي عهد الفجيرة، الذي حضر حَفْلَي الافتتاح، والتقى الضّيوفَ في قصره حيث تناقش معهم في القضايا الّتي تناولوها في أوراقهم.
وبعد، يُمكن القول إنّ بيت الفلسفة منارة فكريّة حقيقيّة. ينهض بيت الفلسفة بمهمّة إحياء الخطاب الفلسفيّ عبر قراءة جديدة للفلسفة والفلاسفة، ومحاولة الإجابة عن الأسئلة الفلسفيّة الملحّة من دون أيّ حمولات أيديولوجيّة. ولهذه الغاية تعدّدت نشاطاته وتفرّعت: بدءًا من إصدار مجلّة بيت الفلسفة، وهي أوّل مجلّة فلسفيّة فصليّة في الإمارات تُعنى بالقضايا الفلسفيّة الرّاهنة، مرورًا بسلسلة أعلام الفلسفة العربيّة التي صدر منها عددٌ يكاد يُغطّي معظم أعلام الفلسفة العربيّة: الكنديّ والفارابي وابن سينا وابن رشد وابن طفيل، فضلًا عن سلسلة كتب الشّباب الفلسفيّة الّتي تهدف إلى نشر الوعي، وتعزيز الفكر النقديّ بطرق مُيَسّرة تُقرّب الفلسفة من أذهان الشّباب، وتجذبهم إلى الاطلاع على مشكلاتها والتعمّق فيها، وتساعدهم في تكوين وعي نقديّ سليم. ناهيك بسلسلة كتب الأسئلة الفلسفيّة الّتي آثر بيت الفلسفة من خلالها أن يُعيد للفلسفة أسئلتها المرتبطة بالوجود والمعرفة والحقّ والجمال والإنسان في كلّ تعيّناته الحضاريّة الكليّة. فضلًا عن كتب الأطفال الفلسفيّة والورشات الفلسفيّة الّتي تُنظَّم لهم وتُطبَّق من خلالها تقنيّات منهج الـ P4C المتعلّق بالتّفكير الفلسفيّ. قل كذلك عن موسوعة الفلسفة للناشئة الّتي تسعى إلى تعريف الناشئة بأبرز الفلاسفة وأهمّ المفاهيم الفلسفيّة. كما ينهض بيت الفلسفة بتأليف معجم الفجيرة الفلسفيّ الّذي يهدف إلى أن يسدّ ثغرةً في المعاجم ذات الطّبيعة المترجمة، بما في ذلك المعاجم المؤلَّفة الّتي غالبًا ما تستند إلى مراجع معجميّة غربيّة. فضلًا عن ذلك، يطمح المعجم إلى التحرّر من المركزيّة الأوروبيّة الّتي هيمنت ولا تزال تُهيمن على أشكال عديدة من الوعي، بما في ذلك الوعي الفلسفيّ. ولا يفوتنا أن نُشير أيضًا إلى الكتب الفلسفيّة المترجمة من مثل فلسفة الموضة والملل وغيرهما.
ومن أهمّ العناصر التي تضفي قوّة على هذا الصرح الفلسفيّ الجديد مكتبة بيت الفلسفة، والتي تحمل اسم عميد بيت الفلسفة الدكتور أحمد برقاوي. الواقع أنّها أوّل مكتبة فلسفيّة متخصّصة في العالم العربيّ، سوف تضمّ بين رفوفها خمسين ألف كتاب فلسفيّ، ويمكن للقارئ والمتخصصين أن يجدا فيها أمّهات الكتب الفلسفية منذ العصر اليوناني وحتى يومنا هذا، بالإضافة إلى عدد هائل من الدراسات والأبحاث التي تناولت أبرز الفلاسفة بالعرض والنقد والتحليل، كما توفر المكتبة روابط إلكترونية تتيح للمتصفح الوصول إلى عشرات الآلاف من الكتب والدراسات العربية والأجنبية من خلال المنصات التي حمّلتها المكتبة على الحواسب والأجهزة الإلكترونية. والجدير بالذكر أن الكتب الفلسفية متوفرة باللغات العربية والإنجليزية والفرنسيّة والألمانيّة.
في هذا السّياق، لا نستطيع أن نُغفل الدور الرياديّ الّذي لعبه عميد بيت الفلسفة الدكتور أحمد برقاوي في تأسيس هذا البيت، وسعيه إلى التحرّر من المركزيّة الأوروبيّة وتأكيد إمكانيّة القول الفلسفيّ بالعربيّة. وقد عبّر عميد بيت الفلسفة في كلمته الافتتاحية عن هذا الأمر بقوله: "إننا إذ نحتفل بيوم الفلسفة فإن هذا الاحتفال ليس سوى احتفال العقل بذاته، إنّ العقل يحتفل بذاته في كلّ العالم في هذه اللحظة، ونحن إذ نحتفل بالفلسفة أيضًا نحتفل بالعقل الوقّاد الذي يقرع ناقوس الخطر دائمًا من أجل الإنسان ومصير الإنسان... نحتفل بالفلسفة، أي نستعيد عقل العرب الوقاد والنقاد، نستعيد الفارابيّ والكنديّ وابن سينا وابن رشد وكلّ الراحلين."
كما لا نستطيع أن نغفل الإشارة إلى دور مدير بيت الفلسفة الأستاذ أحمد السّماحيّ الّذي يسعى إلى جعل بيت الفلسفة مؤسّسة ثقافيّة مكتملة الأركان ذات منهجيّة واضحة ودقيقة تبدأ بتعليم الطّفل الفلسفة وتنتهي بنشر كتب أعظم الفلاسفة.
في هذا السّياق، أوضح الدكتور البرقاوي، أن مشروع بيت الفلسفة يرمي إلى تحقيق جملةِ أهداف، "أبرزها خلق نخبة من المفكّرين الإمارتيين من الشباب والأطفال، ودفعهم إلى التفكير فلسفيًّا، بعيدًا من أيّ أيدويولوجيا، حتى يتسنى تأسيس مستقبل تؤدي فيه هذه النّخبة من أصحاب التفكير الفلسفي دورًا مهمًّا في إنتاج الوعي المنطقي والحرّ".
تُمثِّل هذه المبادرة التي انطلقت من إمارة الفجيرة حدثًا استثنائيًّا في علاقة الفلسفة بالحياة اليوميّة. فها هيذي الفلسفة تخرج للمرّة الأولى من عزلتها التاريخيّة، وتنتقل من الغرف الأكاديمية المغلقة إلى الفضاء العموميّ.
لا ريب في أنّ الاهتمام بالفلسفة على هذا النحو يعكس مدى وعي النخب السياسيّة في دولة الإمارات العربيّة المتّحدة بأهميّة تعزيز قيم العقلانيّة والحرية والتعددية والمواطنة وقبول الآخر، وهي قيم تتجاوب مع تطلعات القيادات السياسيّة في دولة الإمارات، والتي تسعى جاهدة إلى ترسيخ نظام اجتماعيّ وسياسيّ عصريّ ينعم فيه الإنسان بالحرية والسعادة والأمان. ونخصّ بالذّكر هنا سموّ الشّيخ محمّد بن حمد الشّرقيّ ولي عهد الفجيرة الّذي أولى هذا البيت مكانةً خاصّة واهتمامًا كبيرًا وحرصًا شديدًا.
تعلّمنا من قراءة تاريخ الفلسفة أن الفلسفة لا تزدهر وتنتعش إلا في المجتمعات الحرّة، حيث يجد العقل فضاءً متاحًا يسمح له بأداء وظائفه الأساسية في النقد والتحليل. وتِلكم هي حال الإمارات العربيّة المتّحدة.
جاء في افتتاح المؤتمر الثّاني لبيت الفلسفة: "من الفجيرة مركز التّنوير إلى عواصم الفلسفة في العالَم". تِلْكُم هي خيرُ كلماتٍ نختتم بها مقالتنا هذه.