الجمعة 22 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

البوابة القبطية

القس أندريه زكي يكتب: القيامة.. انتصار على التمركز حول الذات

الدكتور القس أندرية
الدكتور القس أندرية زكي رئيس الطائفة الإنجيلية بمصر
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

لا تتوقف القيامة عند كونها حدثًا تاريخيًّا مفصليًّا ومؤثرًا في تاريخ البشرية، بل هي نبعٌ لا ينضب من الأفكار والتأملات القوية والمغيِّرة لحياة الفرد والمجتمع. ويصوِّر الكتاب المقدس قصة الصليب والقيامة باعتبارها تدخل الله في تاريخ البشرية وتضامنه مع الإنسانية الغارقة في الظلام والشر. لقد جسَّدتِ القيامة محبة الله وعدله وإرادته القوية لتحرير الإنسانية من قيود الخطية والموت. 

في القيامة حرية من سطوة الشر، وأول الشرور وأهمها هو الأنانية والتمركز حول الذات، بل ويمكن أن نسميه "عبادة الذات".   

 

عبادة الذات 

في سفر الخروج 20: 3، ترد أول وصيةٌ في الوصايا العشر: "لاَ يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي"، وصحيح أن هذا النص قد جاء في سياق تعدُّد المعبودات والآلهة في الحضارات المختلفة المحيطة، والخوف من تأثر الشعب بهذه العبادات الخاطئة المحيطة، لكنَّ معنى الوصية العميق يمتد إلى كل ما يمكن أن يُعَدَّ وثنًا أو صنمًا، حتى لو لم يكن ماديًّا. 

إن تعلُّقنا بأي شيء -حتى لو كان إيجابيًّا ومطلوبًا- بشكل يزيد عن السيطرة هو نوع من العبودية. فتحقيق الذات والعمل أمور محمودةٌ لكنها حين تسيطر على الإنسان وتطغى على اهتمامه بصحته أو برعايته لأسرته تتحول إلى صنمٍ، وكذلك محبة النفس، فهي مطلوبة؛ أن أحب نفسي يعني أن أهتم بتطوير مهاراتي وحالتي الصحية والنفسية وعلاقاتي الاجتماعية، لكن هذه المحبة حينما تزيد أو تفقد توجهها الصحيح تتحول إلى أنانية كريهة وتمركزًا حول الذات، يؤلِّه الذات فلا يرى الإنسان إلا رغباته أيًّا كان الثمن أو الاعتبارات. 

يصور لنا الكتاب المقدس كيف كان التمركز حول الذات منبعًا لشرور كثيرة، وداءً خطيرًا، أدى لنتائج كارثية. فرؤساء الكهنة والكتبة والفريسيون، كانت لديهم حالة من التمركز حول الذات، دفعتهم لعمل أي شيء -بصرف النظر عن مدى مشروعيته- للحفاظ على مكانتهم وسلطتهم، كما كانت لديهم حالة من الشعور بالتفوق الروحي والديني على بقية الناس، هذه الحالة منبعها الأنانية والتمركز حول الذات. كانت تعاليم يسوع ومعجزاته تهدد سلطتهم وتحكمهم في الناس باسم الدين، فبعد معجزة إقامة لعازر من الموت، نجدهم في سياق التآمر على السيد المسيح يقولون لبعضهم البعض: "انْظُرُوا! إِنَّكُمْ لاَ تَنْفَعُونَ شَيْئًا! هُوَذَا الْعَالَمُ قَدْ ذَهَبَ وَرَاءَهُ!" (إنجيل يوحنا 12: 19). وكذلك شعروا بالتهديد من مواجهة السيد المسيح لهم وفضحه لممارساتهم ومظاهر الفساد الذي كانوا يعيشون فيه، وفضح أيضًا كبرياءهم وتمركزهم حول ذواتهم: "فَإِنَّهُمْ يَحْزِمُونَ أَحْمَالاً ثَقِيلَةً عَسِرَةَ الْحَمْلِ وَيَضَعُونَهَا عَلَى أَكْتَافِ النَّاسِ، وَهُمْ لاَ يُرِيدُونَ أَنْ يُحَرِّكُوهَا بِإِصْبِعِهِمْ، وَكُلَّ أَعْمَالِهِمْ يَعْمَلُونَهَا لِكَيْ تَنْظُرَهُمُ النَّاسُ" (إنجيل متى 23: 4- 5).

   كما نجد ملامح التمركز حول الذات في شخصية بيلاطس؛ الذي رغم يقينه بأن السيد المسيح لم يفعل شيئًا يُدان عليه ويُحاكم ويُعاقَب بسببه، رضخ لمطالب رؤساء اليهود الذين هددوه قائلين: "إِنْ أَطْلَقْتَ هذَا فَلَسْتَ مُحِبًّا لِقَيْصَرَ. كُلُّ مَنْ يَجْعَلُ نَفْسَهُ مَلِكًا يُقَاوِمُ قَيْصَرَ!" (إنجيل يوحنا 19: 12)، فدعا الخوفُ على السلطة والتمركزُ حول الذات بيلاطسَ لاتخاذ قرار بصلب السيد المسيح: "فَلَمَّا رَأَى بِيلاَطُسُ أَنَّهُ لاَ يَنْفَعُ شَيْئًا، بَلْ بِالْحَرِيِّ يَحْدُثُ شَغَبٌ، أَخَذَ مَاءً وَغَسَلَ يَدَيْهِ قُدَّامَ الْجَمْعِ قَائِلاً: «إِنِّي بَرِيءٌ مِنْ دَمِ هذَا الْبَارِّ! أَبْصِرُوا أَنْتُمْ!»" (إنجيل متى 27: 24). 

كل هذه النماذج المذكورة توضح لنا أن عبادة الذات والكبرياء مصدر للكثير من الشرور، وفي القلب من هذا يأتي حدث القيامة للانتصار على هذا الشر. 

 

العبور إلى الآخر

في المقابل، عندما يعيش الإنسان حياة متوازنةً، ويضع الذات ومصالحها في مكانها المناسب، ويهتم بالآخر، ويراعي الأبعاد الإنسانية في علاقاته بالآخرين يعبر بهذا إلى الآخر، فنجد لديه المحبة والرحمة والعدالة والصدق والأمانة والرغبة في مساعدة الآخرين ودعمهم. إذ يسعى الإنسان إلى خدمة الآخرين والمساعدة، ويعمل على بناء مجتمع يتمتع بالعدل والمساواة والمحبة. ويتفهم أنه عندما يخدم الآخرين ويبذل جهده لتحسين حياتهم، فإنه يخدم الله أيضًا. وهذا النوع من التفكير يقود إلى تحويل الأنانية إلى تواضع وخدمة، ويتحول الشغف السابق بالذاتية والشهوات المادية إلى شغف لخدمة الآخرين وتحقيق الخير في العالم.

إنَّ تأمُّلَنا في مفهوم المصالحة الذي أسسه الله في قصة الصليب والقيامة، هو مفتاحٌ لتحرير الإنسان من الخوف واليأس، وكذلك من الكبرياء والتمركز حول الذات. يقودنا هذا المفهوم إلى تجديد أذهاننا وأفكارنا عن ذواتنا، كما يقول الرسول بولس في رسالته إلى أهل كورنثوس: "إِذًا إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ: الأَشْيَاءُ الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ، هُوَذَا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيدًا." (2 كورنثوس 5: 17). هذا التجديد يقود الإنسان للانفتاح على الآخرين، ويمنحه عينًا مبصرةً لاحتياجات الناس وتحدياتهم. 

لعل ذكرى القيامة تحمل إلينا الأمل والرجاء في إمكانية التغيير، الذي يبدأ من داخلنا، لجعل العالم مكانًا أفضل، تسوده المحبة والرحمة والعدالة. 

أصلي لأجل بلادنا العزيزة مصر، قيادةً وشعبًا، لأجل قوة في مواجهة التحديات، لأجل سيادة المحبة والتراحم بين الجميع، لأجل حكمة وتماسك اجتماعي وتضامن إنساني بين الجميع. ليكلل الله كل المجهودات بالنجاح، ويبارك كل الخطوات والمساعي لخير بلادنا.