الإثنين 04 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

بالعربي

Le Dialogue بالعربي

مصطفى الزائدى يكتب: توزيع الثروة.. قراءة فى تجربة ليبية  لم تكتمل !

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

كان الهم الأول للدولة الليبية قبل 2011 تأمين استقلال القرار الوطنى، وتحقيق المساواة التامة بين الليبيين فى الحقوق والواجبات.. مساواة تقوم على العدالة وإتاحة الفرص للجميع، ومنع تمايز  الليبيين إلى قلة أغنياء يصبحون درجة أولى فى المجتمع وكثرة فقراء يوضعون فى  الدرجة الثانية ذلك أن الليبيين مجتمع بدوى بسيط جعلهم المستعمر الايطالى والتركى  متساوين فى المستوى البسيط، فلقد استحوذ  الجنود الأتراك على المناشط الاقتصادية وورثتهم إيطاليا التى  رأت فى ليبيا جزءً من إيطاليا فصادرت الأراضى لمصلحة المستوطنين الطليان واحتكرت المناشط الاقتصادية للمستوطنين.

لذلك تركزت السياسات الاجتماعية بعد الثورة الوطنية فى 1969على وضع برامج لتحسين أحوال الليبيين ودخولهم من خلال توسيع قاعدة التعليم لتصل إلى الجميع، عبر برامج تعليم إلزامية للذكور والإناث فى التعليم الأساسى، وفى نفس الوقت مجانى فى كل المراحل الدراسية من الروضة إلى التعليم العالى بالداخل والخارج، وكذلك الاهتمام بالرعاية الصحية فوضعت منظومة رعاية صحية متطورة ومجانية للجميع، إضافة إلى برنامج ضمان اجتماعى متقدم  جدًا للعناية بكبار السن وذوى الاحتياجات الخاصة والمتقاعدين، ومن لا عائل لهم،  إضافة إلى  دعم الغذاء للمواطنين شمل أغلب السلع الغذائية الأساسية واستمرت أسعارها رمزية إلى عام 2011  وكذلك تقديم  الدواء مجانًا لمحتاجيه.

كل ذلك كان يمول من المورد العام  الأهم للدولة  وهو النفط والغاز، لكن تطور النشاط الاقتصادى الخاص  فى عقد التسعينات أحدث بدايات خلل فى مستوى دخول الأفراد، فتمكن البعض بطرق مشروعة وغير مشروعة من تكديس ثروات ضخمة فى حين تعثرت دخول كثيرين.

فى عام 2008 فكّرت الدولة فى تطوير دخول الفئات محدودة الدخل من خلال آلية تدر موارد مستدامة للأسر المستحقة، فظهرت فكرة  المحافظ الاستثمارية، حيث خصصت الدولة مبالغ فى حدود خمسين ألف دولار لكل أسرة من الفئات المذكورة تستثمر لصالحهم كأسهم فى الشركات والمؤسسات والمصارف ذات الربحية العالية، وصدر قانون بذلك وضع الضوابط والشروط لمنح تلك المحافظ من خلال شهادات استثمار لكل أسرة، ونص على أن الشهادات ملكية مقدسة  لا يجوز المساس بها للأسر المستحقة ولا  يجوز بيعها أو التنازل عنها، على أن تتوارثها الأسر وفقًا للشريعة الإسلامية، وتأسس صندوق سمى صندوق الإنماء تولى استثمار تلك المحافظ لمصلحة أصحابها، واشترط القانون ألا يقل الدخل الشهرى من الاستثمار عن ألف دولار.

فى عامى 2009، و2010، باشرت الدولة فى دراسة إجتماعية واسعة تناولت دخول الأسر الليبية، وانطلقت فى إصدار الشهادات الاستثمارية،  وبنهاية 2010 وصل عدد الاسر المستفيدة من الشهادات ثلاثمائة ألف أسرة، أى ما يقل قليلًا عن نصف عدد الأسر الليبية البالغ سبعمائة وخمسين ألف أسرة.

وانتظم صرف عوائد الشهادات لمستحقيها، لكن بعد 2011 أوقفت السلطات بشكل غير قانونى صرف مستحقات المحافظ واستحوذ عليها صندوق الإنماء الذى وقعت إدارته فى أيدى فاسدين.. إلى أن أصدر مجلس النواب فى الشهور الماضية قانونًا ألغى بموجبه تلك القرصنة التى وقعت على أملاك أصحاب المحافظ.

الفكرة قامت على أساس أن أموال النفط والغاز ملك لكل الليبيين لا يجوز أن تترك فقط للحذاق والناشطين والقادرين على الاستحواذ عليها ومنعها على أغلب المواطنين، وكان المخطط أن تنفق أموال النفط والغاز على الدعومات الاجتماعية والصحة والتعليم والأمن والدفاع، وجزء منها يوجه مباشرةً لدعم الأسر الليبية محدودة الدخل بشكل نقدى مباشر، للوصول إلى نقطة قد  يوزع فيها كل دخل النفط على المواطنين، وتتخلى الدولة على التزاماتها بتأمين الخدمات المهمة!. 

الفكرة قامت نتيجة تخوف حقيقى من حدوث تفاوت اجتماعى غير مبرر ولم ينشأ عن اختلاف فى العمل والقدرة عليه والثقافة والعلم، بل بسبب تمكن البعض وبدون مقومات  من الاستحواذ على نصيب أكبر من دخل المورد الطبيعى الخاص بكل الشعب !

لكن هذا التخوف النظرى وقتها أصبح حقيقة دامغة اليوم، فلو نظرنا الى الثراء الفاحش للبعض نتيجة السرقة العلنية التى عمت الوطن بعد 2011 نتيجة سياسة "التمشيط" وفتوى "الغنائم" التى أباحت الاستيلاء على الموارد العامة والخاصة، وكذلك سياسة الاعتمادات وخاصة الاعتمادات الوهمية والعقود الوهمية.. وهكذا.

لقد صرفت الدولة بعد 2011 ما يقرب من ترليون دولار، دون أن يُنجز أى شئ، ورواتب الموظفين تتأخر لشهور وأحيانا لسنوات، والمصارف بدون سيولة منذ عدة سنوات، والأمن منعدم تمامًا فى أغلب المناطق، والتعليم العام منهار كليًا وكذلك القطاع الصحى العام، حيث أصبحت المراكز الطبية العملاقة المنتشرة فى كل الوطن خاوية على عروشها وتحولت إلى ما يشبه مستوصفات الرعاية الصحية الأولية !

بينما ازدهر قطاع التعليم الخاص، وقطاع الصحة الخاص، وحلت المليشيات محل أجهزة الدولة فى الأمن، مع أن أغلب قادتها  أساسًا مجرمون معروفون !

النتيجة أن غالبية الليبيين مضطرون للبحث فى وسائل أخرى للتعلم والتداوى، فليس فى قدرتهم التجاوب مع متطلبات التعليم الخاص ولا تكلفة العلاج الخاص !
 

السؤال: أليس من المصلحة الوطنية مراجعة فكرة المحافظ الاستثمارية والاستمرار فيها والالتزام بصرف عوائدها؟.

أتصور أنه من واجب النخب الليبية السياسية والاجتماعية والثقافية والأكاديمية دعم أصحاب المحافظ وتشجيعهم على استرداد حقوقهم، ومساعدتهم فى تنظيم أنفسهم ليصبحوا مباشرة أعضاء فى الجمعيات العمومية بالمؤسسات والشركات والمصارف المساهمين بها، وألا يسمحوا لصندوق الإنماء وإدارته من اغتصاب حقوقهم وإبعادهم !

من جانب آخر، فكرة توزيع الثروة الناتجة عن الثروات الطبيعية العامة على المواطنين مباشرة مشروع قد يساهم فى الحيلولة دون بروز طبقية بوجوه جديدة فى ليبيا !

تجربة السنوات الماضية قدمت لنا أدلة مادية على خطورة تكدس الثروة عند البعض ومنعها عن أغلب الشعب، خاصةً عندما لا تكون مصادرها من جد وتعب بل هى نتاج فساد ولصوصية !

فأصحاب المال هم من يكونون السلطة السياسية لمصالحهم، ومثالنا واضح فى رئاسى المنفى ورهطه الذين استحوذوا علنًا على السلطة بعلم لجنة الخمسة وسبعين أمام الأمم المتحدة وربما بمباركتها، والحال لن يكون أفضل بكثير فى ظل الانتخابات، فدور المال السياسى فى بناء الحكومات معروف فى الدول المتقدمة، فما بالك بدولة منهكة يمزقها التدخل وتفتتها الفتنة ويتسيد فيها المال الفاسد المحلى والأجنبى؟!.

إن أصحاب المال الفاسد يرون فى وصولهم للسلطة وسيلة وحيدة لتأمين ما سرقوه، فهم بذلك لا يسعون فقط للحكم كغيرهم بل هم يدافعون عن أنفسهم وما يعتبرونه أنه صار من أملاكهم !

القاعدة أن الديمقراطية تتحقق فى ظل المساواة التامة بين المواطنين، ووجود سلطة أمنية وعسكرية محايدة ونظام إنتخابى عادل، وهذا كله غير متوفر لدينا، والخشية من أنه فى حالة سيطرة المال والفاسدين على السلطة فإن النتيجة الحتمية هى تشكيل نظام طبقى بغيض.
لكل ذلك من المهم إعادة التوازن فى دخول الأفراد، وفقًا لجهودهم وإمكاناتهم الفنية والعلمية.. وفى مشروع توزيع الثروة وسيلة مناسبة لو نظر إليه بعيدًا عن تأثيرات الحقد والعناد والمكابرة.
معلومات عن الكاتب: 
د. مصطفى محمد الزائدى.. سياسى ليبى، تولى سابقًا منصب وزير الصحة، وكان نائب وزير الخارجية 2011، أمين الحركة الوطنية الشعبية الليبية.. يستعرض تجربة ليبية مهمة، استهدفت ضمان حقوق غالبية الليبيين فى التعليم والصحة والثروة، وهى التجربة التى أجهضتها أحداث 2011.