ولد الهلال الشيعى الجديد مع ثورة الخمينى الإسلامية عام 1979 فى إيران؛ لذلك نقول أنه ولد فى سياق الإسلام الشيعى؛ والمقصود بـ"الهلال الشيعي"، ربما بشكل أكثر دقة، "قوس النفوذ الإيراني"، ونعنى به مجال اهتمام إيرانى يمتد من طهران إلى لبنان، ويمر بالعراق وسوريا، ويصل إلى اليمن، حيث تتمثل أهداف إيران الاستراتيجية فى ضمان نفوذ واسع وسيطرة مشددة على المنطقة.
ولا شك أن الاختلاف بين الإسلام الشيعى والإسلام السُنى يقوم على تفسيرات مختلفة للتاريخ والدين والشريعة الإسلامية، وهو أمر سيكون شرحه طويلًا جدًا هنا وغير مجدٍ لخدمة أهدافنا أو للتحليل. فى الإسلام السُنى، يتم الربط بالمصادفة بين السلطة السياسية والسلطة الدينية، بينما فى الإسلام الشيعى، يختلف مفهوم الإمام بشكل قاطع عن مفهوم الخليفة السُنى. إذا كان الإمام فى المذهب السنى هو ببساطة من يقود الصلاة، فإن الشيعة يعتبرون الإمام، هو من يجب أن ينتمى إلى عائلة على، وبالتالى لمحمد، أى أنه شيئ مختلفً تمامًا لأنه يعيّن القائد الحقيقى للشيعة ويساعده، حسب الاتجاهات المختلفة، لأن "الوجود الإلهى" بالنسبة للشيعة يجعله معصومًا من الخطأ.
وعلى عكس الخليفة السُنى، الضامن الأساسى للممارسة الدينية، فإن الإمام الشيعى يتمتع بالتالى بسلطة القيادة، فالمتدينون هم فقط من يمكنهم أن يكون لهم الكلمة الأخيرة، ويمكنهم أن يقرروا بشكل نهائي. وهكذا ولد تسلسل هرمى دينى قوى للغاية - غير معروف فى العالم السُنى - وهو النظام الذى يحكم إيران حاليًا، ويتألف من الملالى وآيات الله.
الفرس الشيعة
لفهم الأمر بشكل أعمق، يجب أن نتحدث، ولو باختصار، عن إيران وتاريخها، لأن إيران هى أكبر وأهم دولة شيعية فى العالم الإسلامى، ولأن الهلال الشيعى الجديد قد ولد، كما ذكرنا، من ثورة الخمينى عام 1979 فى إيران. حتى فجر القرن السادس عشر، كانت بلاد فارس، كما سُميت إيران آنذاك، قبل تغيير الاسم الذى فرضه الشاه رضا بهلوى (1878-1944) عام 1935، مؤسس السلالة الحاكمة، لاستعادة ماضيها (إيران تعنى، فى الواقع، "بلد الآريين")، تنتمى إلى منطقة الإسلام السُنى، التيار الرئيسى للإسلام. فى ذلك الوقت، تم غزو أرض ألف ليلة وليلة من قبل القبيلة الصفوية التركية قيزلباس، والتى أدت فى عام 1501 إلى ظهور السلالة الصفوية على العرش حتى عام 1722. فى بداية القرن السابع عشر، مع عباس الأول (1557 - 1629)، شاه بلاد فارس منذ عام 1587، أصبح الإسلام الشيعى أحد التيارات المختلفة، دين الدولة، مما يمثل نقطة تحول تاريخية حاسمة. وفى هذه المرحلة، دعنا نتخطى بضعة قرون ونصل إلى القرن العشرين، عندما تم استبدال سلالة قاجار ببهلوى.
كان مؤسس هذه السلالة الأخيرة هو رضا خان. ولد عام 1878 فى قاجار بلاد فارس، على وجه التحديد فى مازندران، وهى منطقة شمال شرق طهران، تطل على بحر قزوين، وانضم إلى الجيش وترقى فى الرتب ليصبح وزيرًا للحرب. فى عام 1925، أطاح بالقاجاريين بانقلاب عسكرى، وأصبح شاهًا لبلاد فارس تحت اسم رضا بهلوى، ولم يتم ذلك الأمر بدون التفكير أولًا فى إلغاء النظام الملكى لإعطاء الحياة لجمهورية رئاسية مثل جمهورية مصطفى كمال باشا أتاتورك (1881-1938)، فى تركيا. اتخذ رضا بهلوى سياسة حاسمة لتحديث وعلمنة بلاد فارس المسلمة، وفك ارتباطها بأصولها الثقافية والدينية. لقد وجه البلاد إلى التصنيع على حساب الزراعة، وبالتالى تعزيز ظاهرة انتقال السكان من الريف إلى المدن الكبرى، ولا سيما العاصمة طهران. وفى عام 1928، أصدر تشريعًا جديدًا كما فى النموذج الفرنسى، حيث تم فيه الفصل بين سلطة الدولة والسلطة الدينية بشكل قطعي. فى عام 1929، ألغى الزى الفارسى التقليدى وتم حظر ارتداء الحجاب على النساء.
وهنا أثارت هذه السياسة معارضة متزايدة تجاه التسلسل الهرمى الشيعى الإيرانى، الذى قاده آنذاك آية الله السيد حسن مدراس (1878-1939)، الذى تم اعتقاله وقتله فى السجن. وخلال الحرب العالمية الثانية، بسبب تعاطف رضا بهلوى مع قوى المحور، أجبر على التنازل عن العرش والنفى فى عام 1941 بعد تدخل القوات البريطانية والسوفيتية وغزو إيران، لأنهم كانوا يخشون من تحالف محتمل للشاه مع ألمانيا فى عهد هتلر، والتى كان يمكن أن يوفر لها احتياطياته النفطية الهائلة.
وأنجب رضا بهلوى إبنه محمد رضا بهلوى (1919-1980)، الذى واصل سياسة والده وقام بتكثيفها، وأنشأ دولة استبدادية ومركزية، وحارب بلا رحمة الاستقلالية القبلية. فى الستينيات من القرن الماضى، أطلق ما يسمى بـ"الثورة البيضاء" والتى تقوم على تسعة عشر مبدأ، من أهمها: تحديث النظام المدرسى؛ وضع نظام صحى جديد، من خلال إنشاء "جيش النظافة"؛ الإصلاح الزراعى، مع مصادرة العديد من الممتلكات الكبيرة للتسلسل الهرمى الشيعى والعائلات الإيرانية الكبرى؛ تأميم الغابات والمراعى؛ مشاركة العاملين فى أرباح الشركات التى يعملون بها وبيعها لهم بنسبة تصل إلى 49٪ من حصص وحدات الإنتاج الكبيرة؛ تأميم جميع الموارد المائية؛ التحكم المركزى فى الأسعار، وأخيرًا مراقبة وتجميد إيجارات وأسعار الوحدات العقارية.
ومن بين العناصر المهمة الأخرى فى أصل أزمة 1979، تجدر الإشارة أيضًا إلى الانفصال، الذى وصل إلى نقطة المواجهة العنيفة، بين النخبة الإيرانية الغربية من جهة، التى اتبعت "طريقة الحياة الأمريكية"، والذين عاشوا فى الأحياء الراقية فى شمال طهران، ومن الجهة الأخرى، الطبقات الفقيرة والمتدينة فى الضواحى، الذين كانوا يعيشون فى أحياء بجنوب طهران، ويسمون "حفاة"، أى "بدون أحذية". ولا يمكننا أن نتجاهل الشباب الذين، بفضل المنح الدراسية التى منحها لهم الشاه، ذهبوا للدراسة فى الجامعات الغربية، حيث استوعبوا الفكر الماركسى السائد، واستوردوا هذه الأيديولوجية إلى البلاد عند عودتهم فى نهاية دراستهم، وأخيرًا، إحياء الحضارة الإيرانية القديمة للملكية، غالبًا بنغمات الأوبريت (دعونا نتذكر الاحتفال الضخم والراقى لتتويج الشاه، فى عام 1967، والجوانب الفخمة والمتساوية إلى حد ما، من 2500 عام من الملكية الفارسية التى أقيمت على أنقاض برسيبوليس وعلى ضريح كورش الكبير فى باسارجادى فى عام 1971)، ناهيك عن الحياة العاطفية المضطربة للشاه الأخير الذى أراد أن يربط نفسه بـ"المجموعة الدولية". فى فبراير 1979، بعد أكثر من عام من الاحتجاجات العنيفة، أُجبر الشاه محمد رضا بهلوى على مغادرة طهران على متن طائرة إلى الخارج، وبعد أيام قليلة، وصل آية الله روح الله الخمينى (1902-1989) إلى إيران. أما الشاه فقد توفى فى القاهرة عام 1980.
النظرية الجديدة لـ"ولاية الفقيه"
عند عودته إلى إيران، أنشأ الخمينى، بعد فترة وجيزة، نظامًا دينيًا إسلاميًا راديكاليًا، ووضع حدًا لعدم التدخل التقليدى للتسلسلات الهرمية الدينية فى الشؤون السياسية. استمر الفراغ السياسى لما يمكن تعريفه بالسلطة الروحية الإيرانية، فى الواقع، حتى وصول الخمينى إلى السلطة، والذى بالرغم من ذلك، ومع نظرية (ولاية الفقيه)، يفرض ثورة فى عالم الشيعة. وكما قلت، عكس التقليد الذى كان سائدًا حتى ذلك الحين، فإنه يؤكد، فى الواقع، أن الوظيفة المناسبة للعلماء، وأساتذة الشريعة الإسلامية، وهى الملالى (أو آيات الله)، لا يمكن ممارستها بشكل مناسب إلا إذا كانوا يحكمون.. ومع ذلك، لا يقبل كل الشيعة النظرية الجديدة. كان الخصم الرئيسى هو آية الله الكبير - أى أكبر ممثل للتسلسل الهرمى الدينى الشيعى الفارسى - أبو القاسم القوى (1899-1992) الذى يرى أن ولاية الفقيه هى ابتكار دون أى أساس دينى، مع استيلاء الخمينى على السلطة، الذى منح نفسه لقب "المرشد الأعلى للثورة الإسلامية". وأدت الحملة الشرسة الدموية على المعارضة التى أعقبت ذلك، إلى إسكات المعارضة للقيادة الجديدة، خاصةً بعد أن جرد الخمينى آية الله العظيم، محمد كاظم شريعتمدارى (1905-1986) من وضعه الدينى، وهى إهانة لم يفكر فيها أى من الشاهات الذين حكموا إيران. والحقيقة أنه منذ ذلك الحين، أصبحت نظرية "ولاية الفقيه"، إذا جاز التعبير، المبدأ الأساسى للدستور الإيرانى الجديد. وطالما أنها تصمد أمام النقد، فمن غير المرجح أن يتغير الوضع السياسى فى بلاد فارس التى كانت ذات يوم. إن هذا الانخراط السياسى الجديد للإسلام الشيعى، بدءًا بثورة الخمينى عام 1979، هو الذى أضاف عنصر اضطراب إضافى إلى رقعة الشطرنج فى الشرق الأوسط.
معلومات عن الكاتب:
ستيفانو نيتوجليا.. يعيش ويمارس المحاماة في روما وهو عضو في التحالف الكاثوليكي الإيطالى، ينضم، إلى الحوار بهذا المقال الذى يتعرض فيه إلى نشأة المذهب الشيعى تاريخيًا، وصولًا إلى نظام الملالى فى إيران، وما يتسبب فيه من قلاقل فى منطقة الشرق الأوسط