تأثر الشعراء على مر العصور بـ"بُردة النبى" والتى نالت مكانة كبيرة وراسخة فى قلوبهم، حيث ابدعوا فى تنظيم عدد من القصائد فى مدح خير البرية، بروح عذبة وعاطفة صادقة ومعانٍ رائعة، خرجوا لنا فطاحل الشعراء بـ “سيرة النبى” بنفحة صوفية واضحة.
وكان على رأسهم شاعر القرن السابع الهجرى محمد بن سعيد البوصيرى، والذى برع فى تنظيم قصيدة "البردة" إحدى أشهر القصائد فى مدح النبى، بل وأفضلها، حيث حظيت بانتشارًا واسعًا فى البلاد الاسلامية، وسميت اسماء عديدة منها "البراءة" لأن البوصيرى قد بَرِئَ بها من "الفالج" الذى أبطل نصف جسده، كما سميت "قصيدة الشدائد"، حيث زعموا أن قراءتها تفرِّج الشدائد وتيسر كل أمر عسير، وسمَّاها البوصيرى "الكواكب الدرية فى مدح خير البرية".
وقد تُرجمت إلى عدة لغات، من بينها الإنجليزية والفرنسية والألمانية، كما طُبعت عشرات المرات فى فيينا والأستانة ومكة وبومباى والقاهرة، بالاضافة الى ان نسخها حُليت بالذهب فى دار الكتب المصرية.
وتتضمن أبياتها:
محمد أشـرف الأعـراب والعجــم
محمد خير من يمشي على قدم
محمد باسـط المعــروف جـامعـه
محمد صـاحب الإحسان والكــرم
محمد تــــاج رســل الله قـاطبــة
محمد صـادق الأقــوال والكلـــم
محمد ثـابـت الميثــاق حـافــظه
محمد طـيب الأخلاق والشيــم
محمد خُـبِـيَت بالنــــور طــينتُـهُ
محمد لم يـزل نــورًا من القِــدم
محمد حــاكم بالعدل ذو شـرفٍ
محمد مـعـدن الأنعام والحكــم
محمد خير خلق الله من مضــر
محمد خــير رسـل الله كلهـــم
محمد دينــه حــق نـديــن بـــه
محمد مجملًا حقًا على علــم
محمد ذكــــــره روح لأنـفـسنـا
محمد شكره فرض على الأمم
محمد زينــة الدنيــا وبـهـجتـهـا
محمد كـاشف الغـمات والظلم
محمـد ســـيد طـابـت مناقـبـهُ
محمد صــاغه الرحـمن بالنعم
محمد صـفــوة الباري وخيرتـه
محمد طـاهــر من سائر التهم
محمد ضـاحـك للضيف مكرمه
محمد جــاره والله لــم يضــم
محمد طـابـت الدنيــا ببعـثتـه
محمد جــاء بالآيــات والحكـم
محمد يوم بعث الناس شافعنا
محمد نـوره الهادي من الظلم
محمد قـائـم للـه ذو هــــمم
محمد خـاتــم للرسـل كلهم
وجاء الشاعر العربى المسلم كعب بن زهير، وهو من أعرق الشعراء فى عصره، فأبوه زهير بن أبي سلمى، وأخوه بجير وابنه عقبة وحفيده العوّام جميعهم شعراء، والذى حظى بالجمع بين عصرين مختلفين هما عصر الجاهلية، وعصر الاسلام، وكانت بدايته هجاء الإسلام، فلما ذهب يستأمن النبى قدَّم قصيدة بدأها بالغزل، فقال: " بانت سعاد فقلبي اليوم مبتول" فعفا عنه النبي، وخلع عليه بردته، فسميت قصيدته تلك بالبردة، وفيما بعد اشتراها معاوية وكان يرتديها تبرُّكًا بالرسول، وتناول "كعب" موضوعات عديدة داخل القصيدة، كالحديث عن الصحراء والإبل، وختمها بمدح النبى.
وكانت كلماتها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبولُ
مُتيَّمٌ إثرها لم يفد مكبولُ
وما سعاد غداةَ البين
إذ رحلوا إلا أغن غضيض الطرف مكحول
أرجو وآمل أن تدنو مودتها
وما إخال لدينا منك تنويل
نُبئت أن رسول الله أوعدني
والعفو عند رسول الله مأمول
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم أذنب
ولو كثرت فيّ الأقاويل
إن الرسول لنور يُستضاء به
مهند من سيوف الله مسلول
وجاء فى العصر الحديث، الشاعرمحمود سامى البارودى، بقصيدته التى سُمِّيت "كشف الغمة فى مدح سيد الأمة"، والتى تميزت بالرشاقة اللفظية، والمعانى الثرية، حيث تضمنت سيرة النبى فى أربعمائة وسبعة وأربعين بيتًا، كما تحدث فيها "البارودي" عن خير البرية بالعاطفة والعقل والمنقول من أحداث التاريخ.
وجاءت ابياتها:
يا رَائِدَ البَرقِ يَمّمْ دارَةَ العَلَمِ
وَاحْدُ الغَمامَ إِلى حَيٍّ بِذِي سَلَمِ
وَإِن مَرَرتَ عَلى الرَّوحَاءِ فَامْرِ لَها
أَخلافَ سارِيَةٍ هَتّانَةِ الدِّيَمِ
مِنَ الغِزارِ اللَّواتي في حَوالِبِها
رِيُّ النَّواهِلِ مِن زَرعٍ وَمِن نَعَمِ
إِذا استَهَلَّت بِأَرضٍ نَمْنَمَتْ يَدُهَا
بُرْدًا مِنَ النَّوْرِ يَكسُو عارِيَ الأَكَمِ
تَرى النَّباتَ بِها خُضْرًا سَنابِلُهُ
يَختَالُ في حُلَّةٍ مَوشِيَّةِ العَلَمِ
أَدعُو إِلى الدَّارِ بِالسُّقيا وَبِي ظَمَأٌ
أَحَقُّ بِالرِّيِّ لَكِنّي أَخُو كَرَمِ
مَنازِلٌ لِهَواها بَينَ جانِحَتي
وَدِيعَةٌ سِرُّها لَمْ يَتَّصِلْ بِفَمِي
إِذا تَنَسَّمتُ مِنها نَفحَةً لَعِبَت
بِيَ الصَبابَةُ لِعبَ الريحِ بِالعَلَمِ
بينما جاء أمير الشعراء أحمد شوقى بقصيدة "نهج البردة" والتى وصف فيها الرسول فى مائة وتسعين بيتًا، بنفحة صوفية واضحة، ومبالغات تشبة الاشعار المتأثرة بالافكار الصوفية، حول الحقيقة المحمدية، فالرسول صلى الله عليه وسلم غاية الله فى خلقه، وهو صاحب الحوض يوم القيامة، على حين يقف الرسل حائرين لا يعرفون متى يكون الورود، وجبريل نفسه ظمآن.
وكانت كلمتها:
ريمٌ عَلى القاعِ بَينَ البانِ وَالعَلَمِ
أَحَلَّ سَفكَ دَمي في الأَشهُرِ الحُرُمِ
رَمى القَضاءُ بِعَينَي جُؤذَرٍ أَسَدًا
يا ساكِنَ القاعِ أَدرِك ساكِنَ الأَجَمِ
لَمّا رَنا حَدَّثَتني النَفسُ قائِلَةً
يا وَيحَ جَنبِكَ بِالسَهمِ المُصيبِ
رُمي جَحَدتُها وَكَتَمتُ السَهمَ في كَبِدي
جُرحُ الأَحِبَّةِ عِندي غَيرُ ذي أَلَمِ
رُزِقتَ أَسمَحَ ما في الناسِ مِن خُلُقٍ
إِذا رُزِقتَ اِلتِماسَ العُذرِ في الشِيَمِ
يا لائِمي في هَواهُ وَالهَوى قَدَرٌ
لَو شَفَّكَ الوَجدُ لَم تَعذِل وَلَم تَلُمِ
لَقَد أَنَلتُكَ أُذنًا غَيرَ واعِيَةٍ
وَرُبَّ مُنتَصِتٍ وَالقَلبُ في صَمَمِ
يا ناعِسَ الطَرفِ لا ذُقتَ الهَوى
أَبَدًا أَسهَرتَ مُضناكَ في حِفظِ الهَوى
فَنَمِ أَفديكَ إِلفًا وَلا آلو الخَيالَ فِدىً
أَغراكَ باِلبُخلِ مَن أَغراهُ بِالكَرَمِ
سَرى فَصادَفَ جُرحًا دامِيًا فَأَسا
وَرُبَّ فَضلٍ عَلى العُشّاقِ لِلحُلُمِ
مَنِ المَوائِسُ بانًا بِالرُبى
وَقَنًا اللاعِباتُ بِروحي السافِحاتُ دَمي
السافِراتُ كَأَمثالِ البُدورِ ضُحىً
يُغِرنَ شَمسَ الضُحى بِالحَليِ وَالعِصَمِ
القاتِلاتُ بِأَجفانٍ بِها سَقَمٌ
وَلِلمَنِيَّةِ أَسبابٌ مِنَ السَقَمِ
العاثِراتُ بِأَلبابِ الرِجالِ
وَما أُقِلنَ مِن عَثَراتِ الدَلِّ في الرَسَم
ِ المُضرِماتُ خُدودًا أَسفَرَت وَجَلَت
عَن فِتنَةٍ تُسلِمُ الأَكبادَ لِلضَرَمِ
الحامِلاتُ لِواءَ الحُسنِ مُختَلِفًا أَشكالُهُ
وَهوَ فَردٌ غَيرُ مُنقَسِمِ
مِن كُلِّ بَيضاءَ أَو سَمراءَ زُيِّنَتا
لِلعَينِ وَالحُسنُ في الآرامِ كَالعُصُمِ
يُرَعنَ لِلبَصَرِ السامي وَمِن عَجَبٍ
إِذا أَشَرنَ أَسَرنَ اللَيثَ بِالغَنَمِ
وَضَعتُ خَدّي وَقَسَّمتُ الفُؤادَ رُبيً
يَرتَعنَ في كُنُسٍ مِنهُ وَفي أَكَمِ
يا بِنتَ ذي اللَبَدِ المُحَمّى جانِبُهُ
أَلقاكِ في الغابِ أَم أَلقاكِ في الأُطُمِ
ما كُنتُ أَعلَمُ حَتّى عَنَّ مَسكَنُهُ
أَنَّ المُنى وَالمَنايا مَضرِبُ الخِيَمِ
مَن أَنبَتَ الغُصنَ مِن صَمصامَةٍ
ذَكَرٍ وَأَخرَجَ الريمَ مِن ضِرغامَةٍ قَرِمِ
بَيني وَبَينُكِ مِن سُمرِ القَنا
حُجُبٌ وَمِثلُها عِفَّةٌ عُذرِيَّةُ العِصَمِ
لَم أَغشَ مَغناكِ إِلّا في غُضونِ كِرىً
مَغناكَ أَبعَدُ لِلمُشتاقِ مِن إِرَمِ
يا نَفسُ دُنياكِ تُخفى كُلَّ مُبكِيَةٍ
وَإِن بَدا لَكِ مِنها حُسنُ مُبتَسَمِ
واختتمها:
أَحسَنتَ بَدءَ المُسلِمينَ بِهِ فَتَمِّمِ الفَضلَ
وَاِمنَح حُسنَ مُختَتَمِ
شعراء مسيحيون عشقوا بردة الرسول
لم يقتصر حب خير البرية على الشعراء المسلمون فقط، بل عشقه الشعراء المسيحيون ايضا، وعبروا عن ذلك بمدح الرسول بحب ومودة، فهناك شعراء نصارى كثيرون نظموا قصائد فى حب رسول الله، على قائمتهم الشاعر النصرانى السورى ميخائيل خيرالله ويردى، والذى ابدع فى قصيدته "انوار هادى الورى" فى 124 بيتا من البحر البسيط، والتى قال فى مطلعها:
أنوار هادى الورى فى كعبة الحرم فاضت على ذكر جيران بذى سلم
وأرسلت نغم التوحيد عن ملك كالروح منطلق كالزهر مبتسم
واختتمها:
واجعل هواك رسول الله تلق به يوم الحساب شفيعا فائق الكرم
هذا رسول الهدى فارشف على ظمأ من ورده العذب عطفا شاق كل ظمى
كأنما قلبه ينبوع مرحمة مستبشر جذلان بالنسم
يا أيها المصطفى الميمون طالعه قد أطلع الله منك النور للظلم
وابدع الشاعر اللبنانى حليم دوس، فى العصر الحديث ، فى مدح رسول الله، كأحد الشعراء النصارى الذين سلكوا هذا النهج فى "البردة" فقال فى حب خير البرية:
أمحمدٌ والمجد بعض صفاته مجدت فى تعليمك الأديانا
بعث الجهاد لدن بعثت وجردت أسياف صحبك تفتح البلدانا
بينما أبدع الدكتور شبلى شميل، الباحث والطبيب، فى حب النبى الأمى بقصيدته التى تحدث خلالها عن النعم التى حبى الله بها النبى محمد من الفصاحة والبيان التى تمثلت فى القرآن الكريم، من روائع وعظات وأحكام، فيقول:
دع من محمد فى سدى قرآنه ما قد نحاه للحمة الغايات
واختتم
نعم المدير والحكيم وإنه رب الفصاحة مصطفى الكلمات
رجل الحجا رجل السياسة والدها بطل حليف النصر فى الغارات
كما استلهم شاعر القطرين مطران خليل مطران، دروس الهجرة النبوية فى شعره، وتحدث عن جهاد الرسول فى تبيلغ رسالة ربه.
بينما يقول ا لأديب المسيحي والكاتب النهضوي الشامي إلياس قنصل في قصيدة يعاتب فيها الشعوب العربية على الخضوع للإستعمار...ثم يعتذر من النبي الأكرم مادحًا له ولقرآنه ودينه - صلى الله عليه وآله- بقوله:
رسول الله عفوك إن عذلي
لتنبيه النفوس الغافلات
كتابك زينة الأجيال تزهو
بمعجز آيه أم اللغات
ودينك نعمة في الكون ضاءت
فنورت النواحي المظلمات
ثم يقول:
وما نشر الإسلام سيفٌ مدبرٍ
عليمٌ بأسرار الحروب مجرب
ولكن صفات في الرسول كريمة
ببوتقة الأحداث تسمو وتنجب
كما مدح الشاعر المسيحي جاك شماس الرسول الكريم قائلا:
يممتُ ( طهَ ) المُرْسَلُ الروحانـى
ويُجلُّ (طه) الشاعـرُ النصرانـى
يا خاتمَ الرسل الموشـح بالهـدى
ورسـول نبـلٌ شامـخٍ البنيـان
أَلْقَىَ عليكَ الوَحـى طهـرُ عقيـدة
ٍنبويـةٍ همـرت بفيـض مـعـان
قوّضت كهف الجهل تغدق بالمنـى
ونسفـت شـرك عبـادة الأوثـان
واختتم قائلا:
مهما مدحتـك يا(رسـول) فإنكـم
فوق المديح وفـوق كـل بيانـى
لن تفلـح الدنيـا بكسـر عقيـدة
والديـن يرفـل بـردة الـقـرآن