بعد مرحلة طويلة من الركود السياسى، والصراعات المسلحة والحروب، التى ظلت تدور حول نفسها فى نفس المكان، تبدو منطقة الشرق الأوسط على موعد مع فجر مرحلة جديدة فى تطورها السياسي. مرحلة تودع فيها المنطقة ملامح ما يمكن أن نطلق عليها "مرحلة الركود النزاعى"، التى لعبت فيها النزاعات دورًا جوهريًا فى كبح التغيير وتكريس الركود. التاريخ السياسى قد يمر أحيانًا بمرحلة طويلة من الركود، تعقبها فترة قصيرة من التغيرات السريعة، تُنضِج فى أشهر أو سنوات قليلة، ما عجزت عن إنتاجه فى عقود طويلة من الركود. ما نشهده الآن فى الشرق الأوسط من تحولات سياسية صاعقة يطرح للمرة الأولى، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، إمكانية حدوث تحولات كبرى على صعيد التوازن الإقليمى، على غرار التحولات التى رافقت نهاية الإمبراطورية العثمانية، وإقامة نظام سايكس - بيكو السياسى والعسكرى للشرق الأوسط، الذى كان نقطة انطلاق الدولة القومية فى المنطقة على وجه العموم، بدءًا من قيام الدولة القومية الحديثة فى تركيا ومصر وإيران، إلى قيام الدولة القومية فى السعودية، ورسم حدود الدولة القومية المستقلة فى بقية أنحاء المنطقة، وقيام دولة مستحدثة هى إسرائيل، التى تم استحداثها بمساعدة بريطانيا على أساس مشروع سياسى صهيونى - دينى لليهود.
6 تحولات كبرى
تشمل التحولات الكبرى التى تتلاحق مؤشراتها بسرعة البرق سياسيًا منذ أوائل العام الحالى ما يلى:
أولًا: انتقال النهج السياسى الإقليمى من خطاب الصراع العدائى إلى خطاب المصالحة من أجل بناء علاقات جديدة ثنائية ومتعددة الأطراف على أساس "ويستفالى" سلمي، يعيد تحديد المصلحة القومية، بقصد إنهاء التداخل الذى يبرر التدخل فى الشؤون الداخلية للدول الأخرى.
ثانيًا: نهاية مشروع إقامة حلف عربى - إسرائيلى معادٍ لإيران، وفتح الباب لإقامة توافق عربى - إيرانى لحل نزاعات المنطقة سلميًا، وإقامة علاقات صحية متوازنه بين الطرفين.
ثالثًا: تراجع ما يسمى "إتفاقيات أبراهام" الموقعة عام 2020 إلى قاع المشهد السياسى فى الشرق الأوسط، بعد أن كانت الولايات المتحدة وإسرائيل تعتبرانها قاطرة القيادة لتأسيس شرق أوسط جديد، يسقط القضية الفلسطينية من حساباته، ويضع إسرائيل على أكتاف المنطقة.
رابعًا: بروز علامات استفهام كبيرة حول مستقبل دولة إسرائيل فى المنطقة. وتترافق علامات الاستفهام تلك مع ثلاثة تحولات كبرى: الأول هو انهيار النفوذ الأمريكى الإقليمى فى الشرق الأوسط. والثانى هو الحرب الأهلية السياسية فى إسرائيل التى تقسمها بين تيارين كبيرين، واحد للديمقراطية والتعايش، وثانٍ للانتقام وإقامة حكم صهيونى دينى متطرف، ينفى وجود الفلسطينيين، ويتغذى على دماء صراع تاريخى مع العرب. والتحول الثالث هو اشتداد عود الفلسطينيين قوة، وانتقال انتفاضتهم من أسلوب المواجهة بالحجارة إلى المواجهة بالرصاص.
خامسًا: بدء ظهور تحولات عظيمة فى السياسة الإيرانية تجرى فوق السطح وتحت السطح، تعيد صياغة دور الحرس الثورى وعلاقته بمؤسسات الدولة، استعدادًا لمرحلة ما بعد خامنئي. ويلعب الأدميرال على شمخانى، رجل طهران القوى، الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومى، القريب جدًا إلى المرشد، دورًا محوريًا فى التغيرات الجارية على صعيد إعادة صياغة علاقة إيران مع العالم ومع دول الإقليم وفى داخل الدولة الإيرانية نفسها بين الحرس الثورى وغيره من المؤسسات. المرحلة السياسية الجديدة فى إيران لن تلغى دور قوى الثورة لحساب قوى الدولة، ولكنها ستتجه إلى إقامة توازن صحى بين إيران الثورة وإيران الدولة، يسود فيه الإعتدال نسبيًا بعد مرحلة إستمرت 44 عامًا من الحروب والتطرف، سادت فيها إيران الثورة على إيران الدولة. المنطقة تشهد من الآن نغمة جديدة فى الخطاب السياسى الإيرانى، وتوجهًا جديدًا أكثر اعتدالًا فى سياسة طهران تجاه نفسها، وتجاه جيرانها وتجاه العالم. هذا التوجه ليس انقلابًا كاملًا فى السياسة الإيرانية، لأنه سيحافظ على موقف متشدد تجاه إسرائيل وتجاه الولايات المتحدة. بل إننا نتوقع أن تصبح طهران أكثر تشددًا على هاتين الجبهتين، خصوصًا مع تحرير جزء كبير من قدراتها الاستراتيجية من القيود التى كان يفرضها التوتر مع جيرانها العرب، وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية.
سادسًا: إرهاصات تحولات كبيرة محتملة فى تركيا بعد الانتخابات العامة المقررة فى العام القادم، وهى انتخابات أيًا كان الفائز فيها، فإنها تؤسس لمرحلة ما بعد إردوغان. ومن ثم فإننا نتوقع، رغم علاقة تركيا مع حلف شمال الأطلنطى، ورغم حلمها التاريخى بشأن الإنضمام للاتحاد الأوروبى، أن تتجه إلى تعميق وتوسيع نطاق علاقاتها بالشرق الأوسط، ليس بديلًا عن الحلم الأوروبى، ولكن لزيادة وزنها ودورها كجسر ارتباط بين الشرق الأوسط وأوروبا فى إطار تعاونى، وإن كان لا يخلو من التنافس، لكنه يخلو من العداء، ويدرك على أقل تقدير خطورة النهج العدائى على مستقبل الدور الإقليمى لتركيا. ومن هنا فإننا نفسر فى هذا السياق المجهود الدبلوماسى الذى تبذله أنقرة فى التقارب مع السعودية ومصر والإمارات، وإسرائيل، وتعميق علاقاتها مع قطر وسلطنة عمان، على التوازى مع مجهودها للاحتفاظ بنفوذ فى ليبيا والسودان والصومال. ويحتاج تصحيح مسار الدبلوماسية التركية فى الشرق الأوسط إلى مجهود متبادل على الناحيتين، العربية والتركية، ذلك أن فعل التصحيح هو مسؤولية مشتركة وليس مسؤولية طرف واحد بمفرده
هذه التحولات الستة الكبرى، وإن كانت تفتح الباب لمستقبل أفضل لشعوب المنطقة ودولها، فإن نهاياتها ليست حتمية، وإنما ما تزال نهاياتها مفتوحة، يمكن أن تسير فى اتجاهات متضاربة. ومن الخطأ افتراض وجود علاقات ميكانيكية خطية بين هذه التحولات وبعضها البعض، أو افتراض أن كلًا منها يسير فى اتجاه حتمى مرسوم مسبقًا. ولضمان مسار صحى ومآلات سليمة وسلمية لها، فإن القيادة السياسية فى دول المنطقة، خصوصًا النشطة إقليميا مثل السعودية وإيران وتركيا، يقع على عاتقها تطوير خطاب المصالحة ضد خطاب الصراع، وخطاب التعايش ضد خطاب الإنتقام داخليًا وإقليميًا، وإعادة ترتيب العلاقات الإقليمية الثنائية والمتعددة الأطراف على أسس "ويستفالية" سلمية، وهو ما يتطلب تحديد المصلحة القومية لكل دولة بدقة، لأن تداخل المصالح القومية تحت مبررات دينية أو أيديولوجية أو اقتصادية أو جيوسياسية يخلق مبررات للتدخل فى الشؤون الداخلية.
كما يقع على عاتق القيادة السياسية فى المنطقة إعادة توصيف الدور والواجبات والعلاقات مع القيادة العسكرية المركزية للولايات المتحدة فى الشرق الأوسط، بما يزيل أى أوهام بشأن إقامة حلف عسكرى أمريكي- إسرائيلى فى المنطقة.. إن التحولات الكبرى الجارية فى الشرق الأوسط تفرض بالضرورة تكوين رؤية واضحة وصريحة للقضية الفلسطينية على ثلاثة أسس هى: التعايش، والديمقراطية، وعدم الاعتداء. هذه الأسس ربما تقود إلى إقامة دولة ديمقراطية واحدة على كل أرض فلسطين، وربما تقود إلى اتحاد كونفيدرالى بين دولتين، أو إلى دولتين مستقلتين تعيشان متجاورتين فى سلام، أو غير ذلك من الصيغ السياسية بشروط التعايش والديمقراطية وعدم الاعتداء. وأخيرًا، فإن التحولات الكبرى الجارية فى المنطقة تفرض على دولها إقامة علاقات صحية داخلية بين شعوب البلدان التى تتألف من أكثر من قومية وأكثر من ديانة، لضمان السلام الداخلى؛ وكذلك بين مؤسسات الحكم والإدارة داخليًا على أسس تراعى مقومات الخصوصية فى كل دولة، بدون تعميم مطلق أو فرض مفاهيم خارجية تتناقض مع الخصوصية، فليس من المنطقى قيام سلام إقليمى بين دول تنخر فى عظامها صراعات داخلية عدائية تناقص حقوق الأفراد والجماعات.
صور من المشهد الإقليمى
المصالحة السعودية - الإيرانية، التى ما تزال ترعاها الدبلوماسية الصينية بالمشاركة مع أطراف عربية أهمها سلطنة عمان وجمهورية العراق، أطلقت روحًا جديدة فى الشرق الأوسط، تتسم بالميل إلى التقارب، وتسوية النزاعات سلميًا، خصوصًا فى قضايا ملتهبة تمتد أساسًا داخل مثلث جيوسياسى يضم اليمن وسورية وليبيا، تتداخل فيه مصالح أطراف عربية وغير عربية، وقضايا تتعلق بهيكل التوازن الإقليمى وأدوار القوى الخارجية النشطة فى الإقليم، وأهمها الصين وروسيا والولايات المتحدة، وإلى حد ما الاتحاد الأوروبى. ومنذ بداية الشهر الحالى، هدأت المدافع فى اليمن، وارتفع صوت الحوار الدبلوماسى المباشر بين الرياض وصنعاء، بمشاركة عُمانية. وزادت قوة زخم العملية السياسية فى سورية بمشاركة روسيا وإيران وتركيا وسورية، والتمهيد لإعادتها رسميا للصف العربي. وعاد الدفء إلى مسار إصلاح العلاقات الدبلوماسية المصرية - التركية، الذى يمكن أن يصب فى تحسين العلاقات الثنائية، وتحقيق المزيد من التنسيق بين الدولتين فى ليبيا. هذه الصور وغيرها من الصور المماثلة هى عنوان تلك الروح الجديدة، عنوان يهتف بقوة قائلًا: وداعًا للسلاح.
لكن هذه الروح الجديدة فى الشرق الأوسط تقابلها تطورات عدوانية، لا تمر من دون معاكسات وضجيج، تعكس تناقضات صراعية تستهدف تكريس غلبة الرصاص على السياسة. وتتجلى هذه التطورات فى مظاهر متعددة على رأسها الإعتداءات الإسرائيلية الكثيفة على سورية ولبنان والضفة الغربية وقطاع غزة، الأمر الذى يعنى أن حكومة نتنياهو تتعمد إشعال الجبهات المحيطة كافةً، بإستثناء خطى الحدود مع كل من مصر والأردن، فى محاولة لصرف الأنظار عن التناقضات الحادة بين الحكومة والمجتمع فى إسرائيل. كما استمر التوتر فى سورية والعراق، بسبب تدخل القوات التركية، والغارة الجوية على مطار السليمانية التى استهدفت قائد قوات سورية الديمقراطية، وهى قوات تحتضنها الولايات المتحدة وتزودها بالمال والسلاح والتدريب.
كذلك يبدو على جانب تعزيز آلة الحرب فى المنطقة إستحضار أدوات وأساليب الحرب الباردة، مثل تشجيع إقامة المحاور، وإثارة العداوات السياسية والأيديولوجية والدينية، وتكريس سباق التسلح والمناورات العسكرية، وهو ما تفعله الولايات المتحدة فى المنطقة ومعها إسرائيل. وفى هذا السياق أرسلت أمريكا الى المنطقة غواصة نووية وحاملة طائرات ووحدات بحرية وأسراب طائرات إضافية من أجل إخبار دول المنطقة بأنها موجودة وأن نفوذها لم يضعف ولم يقل. وليس من الصعب أبدًا ملاحظة علاقة الارتباط بين تعزيز الوجود العسكرى الإقليمى للولايات المتحدة وبين بدء عملية الوفاق السعودى - الإيرانى الذى تم إعلانه فى بكين فى 10 مارس.
وقد جاء رد الولايات المتحدة على روح المصالحة والوفاق الإقليمى بقرارات عسكرية منها استبقاء حاملة الطائرات الأمريكية "جورج بوش" والمجموعة القتالية المرافقة لها لتعزيز قوة الأسطول السادس فى شرق المتوسط. وإرسال الغواصة النووية "يو إس إس فلوريدا" إلى الخليج وشمال المحيط الهندى لتعزيز قوة الأسطول الخامس فى الخليج، وتعزيز القوة الجوية الأمريكية فى المنطقة بسرب إضافى من الطائرات المقاتلة. فهل تعوض الغواصات النووية وحاملات الطائرات فشل الدبلوماسية الأمريكية فى الشرق الاوسط؟.. هذه المظاهر العدوانية تؤكد استمرار روح التصعيد والتقسيم وخلق المحاور والاستعداد العسكرى. وهى روح تهتف بقوة: يا أهلًا بالمعارك.. فإلى أين تتجه المنطقة خلال الأشهر المقبلة، إلى وداع السلاح أم إلى أهلًا بالمعارك؟!.