القيامة هي رجاؤنا الوحيد
أَنْتُمُ الَّذِينَ بِهِ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ الَّذِي أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ وَأَعْطَاهُ مَجْدًا، حَتَّى إِنَّ إِيمَانَكُمْ وَرَجَاءَكُمْ هُمَا فِي اللهِ. بطرس الأولى 1 : 21.
لماذا القدس مضطربة؟ وماذا يحدث في القدس من سلسلة أحداث غريبة في أسبوع الآلام؟ فقد دخل يسوع المسيح منتصرا على جحش ابن أتان، وقد رحبت به الجموع من أطفال ونساء ورجال، ففرشوا السعف وثيابهم له، مرحبين بملك الملوك ورب الأرباب. فاشمأزت السلطات السياسية والدينية من ضخامة هذا الحدث واعتبرته تحدياً لسلطتهم وقوتهم. فمن هو هذا الرجل الذي قبل يوم أقام اليعازر صديقه من الأموات، ومن هو هذا الذي يدخل القدس علانية منتصراً دون سلاح وبلا عنف.
قررت السلطات أن تجد سبباً لتعتقله وتلصق تهمة بيسوع المسيح. وبما أن الجموع قد لحقت به وسمعت عظته على الجبل وتطويباته وتعاليمه ورأوا بأم أعينهم أنه قد شفى المرضى وأصحاب الإعاقة المستديمة، فخافت السلطات من ردة فعل سلبية قوية ضدهم. ولكن، وللأسف استعانوا بأحد تلاميذه، يهوذا الإسخريوطي حيث أغروه بثلاثين من الفضة تسليم سيده ليحاكموه، وبالفعل قبل يهوذا الإسخريوطي فعل الخيانة وهذا الإسقاط، فأسلم يسوع في بستان الجثمانية بقبلة.
وقد دعا يسوع المسيح تلاميذه للعشاء السري الأخير، حيث غسل أرجل تلاميذه واحداً واحداً. وبعد العشاء اصطحبهم معه إلى بستان الجثمانية ليصلي ويطلب إرادة الله. فصلى يسوع بحرارة، وقال: لتكن لا لإرادتي، بل إرادتك. أيها الرب، وعلى الرغم من كل ذلك، وحد يسوع نفسه وحيداً ومخذولاً، فحتى أقرب المقربين تلاميذه قد ناموا، ولم يبالوا بعظمة الأحداث.
فجاءت السلطات ليلاً لتعتقله. فغضب أحد تلاميذه، وقطع أذن خادم رئيس الكهنة. ولكن المعتقل يسوع المسيح في لحظة اعتقاله أبرأ أذن الخادم، وانتهر تلاميذه قائلاً " رُدَّ سَيْفَكَ إِلَى مَكَانِهِ. لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ السَّيْفَ بِالسَّيْفِ يَهْلِكُونَ! متى 26: 52 )
وحقق معه الوالي بيلاطس البنطي، فوجده بريئاً. ولكنه ضعف أمام الجموع الغاضبة والثائرة، فسألهم: هل تريدون الإفراج عن يسوع المسيح أم عن المجرم باراباس؟ والغريب في الأمر، أن هذه الجموع عينها التي صرخت في أحد الشعانين: "أوصنا، أوصنا، مبارك الآتي باسم الرب". هي عينها التي تصرخ بعد ثلاثة أيام: "أصلبه، أصلبه ". فأطلق بيلاطس باراباس المجرم، وحاكم يسوع المسيح البريء.
ولعلّ في صلب يسوع المسيح، قد أفتكر أهل القدس أن الأمل والرجاء قد صلبا معه. هذا ما سمعناه بعد الصليب من تلميذي عمواس حين قالوا: " وَنَحْنُ كُنَّا نَرْجُو أَنَّهُ هُوَ الْمُزْمِعُ أَنْ يَفْدِيَ إِسْرَائِيلَ".
(انجيل لوقا24: 21 ).
هذه باختصار مقتضب رواية أسبوع الآلام والجمعة العظيمة. أنها أحداث مفعمة بالكراهية والحسد والخيانة والظلم الشديد. وكأن رواية أسبوع الآلام تحيي فينا عين هذا الشعور لما نواجهه من أحداث متتالية تفاجئنا كل يوم. فعندما نصغي إلى الأخبار اليومية وتنقلنا الأحداث إلى كل ما يجري في نابلس وجنين وفي غيرها من المناطق الفلسطينية، نتساءل: لماذا هذا يحدث؟ وعندما نرى بأم أعيننا حريق قرية حوارة والقتل فيها، فقد يعترينا الخوف والذعر. فنسأل: مَنْ سيحمي هذه القرى الفلسطينية من هذه التعديات المتكررة؟ وعندما نرى الاعتداء على المعتكفين في الأقصى في رمضان، فإننا نسأل باستغراب: ما معنى حرية الأديان؟ ولماذا هذا العدوان السافر على المصلين؟ وما نراه من مظاهرات حاشدة في شوارع تل أبيب وغيرها من المدن، فإنها كلها توحي لنا بأننا نعيش أوقاتا واضطرابات صعبة. ومما يزيد الطينة بلة، أن رؤية العدالة هي غائبة عن فكر السياسيين وسياستهم ولذلك، نسأل في هذه الأوقات المضطربة: كيف سيعيش أجيالنا القادمة في ظل هذه الأجواء المفعمة بالكراهية والحقد والقمع والظلم والقتل والعنف وحب الانتقام؟ فما هو مستقبلنا؟
ومنذ بداية العام 2023، فقد شهدنا سبعة تعديات على الأماكن المقدسة المسيحية. مما اضطر رؤساء الكنائس المسيحية لأن يرفعوا صوتهم عاليا، ويحتجوا على ما يجري من قبل مستوطنين متطرفين، ويحذروا العالم أجمع عن خوفهم على مستقبل الوجود المسيحي في القدس وفي بلادنا جرّاء هذه التعديات إما على رجال الدين المسيحي، أو بالتعدي على كنائسهم ومقابرهم، أو بالتفكير بمصادرة الأوقاف الأرثوذكسية في باب الخليل التي هي ممر للحجيج المسيحي، أو القلق الشديد لمخطط إقامة منتزه قومي على جبل الزيتون، إذ تمتلك الكنائس المسيحية معظم أرضيه.
لقد اخترت رسالة القيامة عددا من رسالة بطرس الأولى؛ لأنها تجيب على هذا الواقع الاضطرابي والمقلق الذي نعيش به اليوم. فكتب بولس الرسول رسالته إلى مسيحيي الكنيسة الأولى في القرن الأول ميلادي؛ ليشجعهم على الصمود والإيمان في خضم هذا الوضع المضطرب واليائس، تماما كالذي نعيشه اليوم. ويهيب بهم بضرورة المثابرة والتمسك برجاء القيامة، وألا يسمحوا لهذه الأوضاع المتوترة أن تتغلب على رجائهم بالمسيح القائم من بين الأموات. ويقرّ بطرس الرسول أن حياة الإنسان المسيحي قد تتعرض أحياناً إلى مضايقات وصعوبات واضطهادات، فقد علمنا يسوع المسيح: " إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي، فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ كُلَّ يَوْمٍ، وَيَتْبَعْنِي " (أنجيل لوقا 9: 23 ) .
وكما قال المصلح مارتن لوثر: "يعلمنا الصليب أن نؤمن بالرجاء، ونتمسك حتى في وضع لا رجاء منه"؛ ولذلك، فلا صليب دون قيامة، ولا قيامة دون صليب.
ولذا، يطلب الرسول بطرس من سامعيه، ألا يسمحوا لهذه الأوضاع السياسية الآتية أن تقلقهم، وألا تنزع منهم قوة إيمانهم برجاء القيامة الحقيقية، إنما أنظروا إلى الله الحي الذي أقام يسوع من بين الأموات، وهو يصغي إلى صلوات المؤمنين به. فالله هو نفسه إله العدالة الحقيقية، ولن يسمح للقمع والظلم والعنف أن يطغوا ويبغوا.
نحن العرب الفلسطينيين المسيحين نعيش في مدينة القيامة منذ القيامة. ونحن نفخر بانتمائنا وإخلاصنا ووفائنا لهذه الأرض المقدسة، حيث ولد المسيح فيها وتربى بين ظهرانينا واستنشق هواءها وعلم وشفى وتحدى الظلم والخطيئة. وقد عشنا مدة الألفي عام مع امبراطوريات وحكومات متعددة. فكلها ذهبت وانقرضت، ولكن وجودنا على أرض القيامة وشهادتنا استمرت على الرغم من الأحداث المضطربة التي عشناها. وهنا درس لنا لأن نلتفت في هذا العيد إلى رجاء القيامة لا إلى الأوضاع المقلقة. ولننظر إلى المسيح المصلوب الذي بقيامته قهر الموت والظلم والكراهية والحقد، فقد قام من بين الأموات ليمنحنا والبشرية أجمع حياة كريمة معززة، لأن المسيح قال: " فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ ( يوحنا 10: 10)
لذا فإن رجاءنا في هذه الأوقات العصيبة، هي بالمسيح القائم من بين الأموات وحده.
عندما سيسافر المرء بالطائرة وسط الغيوم، فكلما طارت الطائرة إلى أعلى الغيوم السوداء، رأى إشراقة الشمس وتمتع بنورها وشعر بدفئها وحرارتها. هكذا هو الحال أيضا في حياتنا فكلما نظرنا إلى فوق إلى الأعلى نظرنا إلى المسيح القائم من بين الأموات، كلما أظهر لنا شمس العدالة ودفء الرجاء حتى حينما تكفهر الغيوم وحرارة الإيمان. ولذلك فإن رسالة يسوع المسيح القائم من بين الأموات: "اصمدوا أيها المسيحيون، على أرض الصليب والقيامة. فكلما ثقل صليب القدس أشرق المسيح في حياتنا بنور رجاء القيامة، وهذا الرجاء لا يخزي.
عندما قام الدكتور مارتن لوثر كينغ الصغير في حملته ضد العنصرية في أمريكا في الخمسينيات والستينات من القرن العشرين، كتب في مذكراته:" لقد وقفت مع نفسي وقفة حق لكل ما اعتبرته عادلاً. ولكن الخوف قد طغى عليّ اليوم؛ لأن قواي قد خارت ووصلت إلى مرحلة لا أتمكن فيها من الاستمرار في كفاحي السلمي غير العنفي من أجل المساواة والعدالة. فالتجأت إلى الله بمخاوفي هذه وخوار قواي. وصليت بحرارة طيلة الليل إلى الله الحي. وفي صلاتي أكد لي الله: "أعمل للعدالة، وتكلم بالحق وسيكون الله بجانبك إلى الأبد.
إن هذه المخاوف، وهذا الدعاء هما صلاة كل من يعمل لإحقاق العدالة والمساواة، ولا سيما في بلادنا. وهو دعاء كل من يرزح تحت نير الظلم والاحتلال. وهو دعاء كل من خارت قواه في عمله من أجل حقوق الإنسان، ويحق لكل مَنْ يعمل مِنْ أجل السلام والعدالة والمساواة أن يتّوجه إلى الله في خوفه وقلقه. والله سيصغي دائماً لصلاة كل مظلوم، وكل مَنْ يعمل مِنْ أجل العدالة؛ لأن الرب الإله ينصت إلى أنَّات قلوبنا، ويحصرنا المسيح بمحبته.
فبلادنا اليوم، بحاجة في هذه الأعياد إلى الصلاة والدعاء من داخل مدينة القدس، مدينة القيامة، حتى يمنحنا المسيح القائم من بين الأموات قوة الصمود لنبقى ونستمر شهود الرجاء والمحبة والسلام في ديارنا. ويقول لنا المسيح كما قال للتلاميذ والأبواب مغلقّة: " سلام لكم".
وبكلمات القس شديد باز حداد الذي خدم كنيسة الإصلاح الإنجيلية اللوثرية في بيت جالا في أواسط القرن المنصرم:
عيدوا الفصح العظيم بسرور وحبور
داس قوات الجحيم وملأ الأكوان نور
أنه الفادي الأمين نورنا الحق المبين
فلنرنم هاتفين هللويا منشدين
والمسيح قام .... حقاً قام
المسيح قام .... حقاً قام
المسيح قام ... حقاً قام
وكل عام وأنتم وعائلاتكم بألف خير