لا شك أن ما حدث فى ستينيات القرن التاسع عشر، وما أبرم بمعاهدة التجارة الحرة بين فرنسا نابليون الثالث وإنجلترا الملكة فيكتوريا لا يصلح أن يتم فى الوقت الحاضر. ذلك أن هذه المعاهدة قد تم تأسيسها بين بلدين على مستوى إقتصادى واجتماعى متطابق. ذلك أن اتفاقية التجارة الحرة الآن ليست فقط مع الدول الأوروبية ولكن مع معظم البلدان الأخرى فى العالم بالإضافة إلى العولمة، وقد سمحت بمساحة كبيرة من المنافسة الشرسة التى أدت الى إغلاق كثير من الشركات وبالتالى إلى البطالة.
فى الحقيقة أن القوانين الاجتماعية وارتفاع مستوى المعيشة والمخاوف البيئية أدت إلى ارتفاع تكلفة العمالة، وهناك دول أخرى لا تلقى اهتمامًا بمثل هذه القوانين والأعتبارات الأجتماعية والبيئية. لذلك فإننا إذا رفعنا الحماية أو التنظيم عن أى شركة فرنسية ووضعناها فى منافسة مباشرة مع شنغهاى أو بوخارست أو ريو، فإننا بذلك ندفع بهذه الشركة فى اتجاهين: إما رفع دعوى إفلاس أو نقل وحدة إنتاجها إلى خارج فرنسا. فى كلتا الحالتين، سينتهى الأمر إلى اختفاء إمكانات الإنتاج وفقدان الوظائف على الأراضى الفرنسية.
إن هذا لا يعنى أن التجارة الدولية لا تلعب دورًا إيجابيًا فى تحفيز الاقتصاد ذلك أن المنافسة من المفترض أن تحسن الأداء الاقتصادى لبلد ما من خلال تعزيز الابتكار والقدرة التنافسية من الناحية النظرية وبالتالى إلى زيادة الثروة الوطنية ورفع مستوى معيشة المواطن.
كما أنه من العبث عزل فرنسا عن العالم الخارجى وحرمانها من ذلك الضغط بفعل المنافسة الدولية والذى يدفع إلى التميز. ذلك أن انكفاء فرنسا على ذاتها وفقًا لمفهوم الاكتفاء الذاتى للنشاط الاقتصادى من شأنه أن يعفى الشركات الفرنسية من الاستثمار والابتكار، وبالتالى سيكون ضارًا جدًا بالتقدم التكنولوجى والازدهار وقوة أمتنا. وإذا جاز لنا القول بأن الاكتفاء الذاتى هو أمر عبثى، فإن الليبرالية الجديدة ليست مفيدة بالضرورة إذ أنها تعمل كمذيب للهياكل التقليدية والنسيج الصناعى، وبالتالى تزعزع الانسجام الاجتماعى، تمامًا كما تهز استقرار الإنتاج وتعرض استقلال وأمن بلادنا للخطر.
يبدو أن التجارة الحرة المتكاملة، كما تُمارس اليوم، هى النسخة «المتشددة» من تحرير العلاقات الاقتصادية الدولية حيث أن هدفها الواضح هو خلق سوق كوكبى موحد ضخم. وعلى عكس ما يدعيه مؤيدو العولمة، فإن ليس كل معارضى التجارة الحرة الكاملة من مؤيدى الاكتفاء الذاتى.
فى الحقيقة أن هناك حلًا وسطًا بين هذين الخيارين المتطرفين: التجارة تحت مظلة الحماية الذكية. ومن خلال هذه الرؤية المعتدلة نستطيع مواجهة الليبرالية الجديدة وما تسببه من أضرار فى بلدنا اليوم، الأمرالذى يسمح بالحفاظ على التجارة الدولية دون الأضرار بالتوازن الاقتصادى والاجتماعى. وعلى فرنسا جرأة اتخاذ قرار بإظهار وطنية إقتصادية حقيقية.
معلومات عن الكاتب:
ديفيد سافوركادا.. ضابط سابق فى البحرية الفرنسية، ومدرب فى عدة جهات أمنية خاصة وعضو فى العديد من الجمعيات الوطنية. يشغل حاليًا منصب الأمين العام لمركز الدراسات والأبحاث حول البونابرتية ورئيس حركة «النداء من أجل الشعب».. يتناول، هنا، التحديات التى تواجهها الدول فى مواجهة اتفاقية التجارة الحرة، ويتخذ من بلده فرنسا نموذجًا يوضح من خلاله فكرته.