التراث المادى الباقى إلى اليوم شاهد عيان على الخبرة المتراكمة فى البلاد
لم يسجل التاريخ أى حوادث طائفية فى الفسطاط طوال قرون عديدة وتحولت المدينة إلى مركز تبادل تجارى دولى بين أوروبا وأفريقيا وآسيا
أدرك المصريون منذ قديم الأزل تنوع الأعراق والأفكار وفكرة التنوع الإنساني، لذا كانت مصر بلدًا للمهاجرين القادمين من إثيوبيا (شاهد أوبرا عايدة التى تعكس ذلك) أو من أفريقيا أو من آسيا عبر فلسطين أو من غرب مصر، فأوراق البردى الفرعونية كشفت لنا أن العرب هاجروا لمصر بكثافة فى الحقب الفرعونية والحقبتين اليونانية والرومانية حتى اعتنقوا المسيحية وعملوا فى الزراعة والحرف التقليدية والتجارة واندمجوا حتى صار إقليم الفيوم شبه عربى، وعاش الأجانب فى عمق الريف المصرى فى العصر الحديث خاصةً اليونانيين والإيطاليين وأُطلق عليهم لقب "خواجة" وصاروا نسيجًا فى حياة المصريين.
حين فتح العرب مصر وصاروا حكامًا لها لم يكونوا غرباء عنها وتنفس القبط الحياة بعد سنوات من الاضطهاد من المحتل البيزنطى، وعكست هذا أوراق البردى التى كتبت بالقبطية ثم القبطية والعربية معًا لتعكس معاملات يومية كثيفة بين العرب وأقباط مصر، ثم رأينا الأناجيل تكتب بالعربية والقبطية، إلى أن نصل إلى أن تكتب بالعربية فقط، وهو ما يعكس تغلغل الثقافة العربية فى المجتمع المصرى، حتى أننا نجد أن العديد من الكلمات المصرية القديمة ما زالت دارجة فى العامية المصرية مثل "مدمس" أى الفول الناضج المطبوخ وهو الأكلة الشعبية الأولى فى مصر، و"بس" أى قط وغيرها كثير.
إن الجانب الذى لم يحظ باهتمام الباحثين المصريين والعرب والأجانب إلى الآن هو نموذج التعايش الذى شهدته مدينة الفسطاط فى مصر التى أسسها عمرو بن العاص بعد فتحه لمصر، فهو قد قسم الفسطاط فى جانبها الشمالى من حصن بابليون إلى منطقة السيدة زينب اليوم بين القبائل العربية، بينما ترك للأقباط حرية السكن إلى الجنوب من حصن بابليون بل ترك الحصن البيزنطى الذى استولى عليه من البيزنطيين، للقبط من أهل مصر الذين استعادوه كجزء من تراثهم التاريخى والدينى الذى يعتزون به فشيدوا به كنائسهم التى ما زالت باقية إلى اليوم، كشاهد على هذه الحالة الفريدة من التعايش والتى عكستها آلاف البرديات التى تقدم لنا معلومات وفيرة عن الحركة التجارية والاقتصادية من الاحتكاك اليومى بين أقباط مصر والعرب، خاصة إذا عرفنا أن العرب سكنوا مصر قبل الاسلام بل واندمجوا فى المجتمع المصرى، وقدمت لنا البرديات معلومات وافية عن أقباط من العرب اعتنقوا المسيحية على المذهب الأرثوذكسى مثل غالبية أهل مصر فى تلك الحقبة، ومع دخول العرب مصر كان هؤلاء من أوائل من تفاعل مع القادمين الجدد.. سكن أقباط مصر جنوب حصن بابليون فى المنطقة الممتدة منه إلى ما يعرف الآن بمنطقة دار السلام، ولم تحدث فى هذه المنطقة حفريات أثرية تقدم لنا المزيد من المعلومات عن سكان جنوب الفسطاط التى تعرف الآن بـ"مصر القديمة"، غير أن عشرات الأناجيل التى وصلت إلينا والتى كتبت بالقبطية والعربية تقدم لنا وجها آخر لمدى التعايش داخل هذه المدينة والتى تجاورت فيها المساجد والكنائس وحتى المعابد اليهودية، ولم تسجل لنا كتب التاريخ أى حوادث طائفية فى الفسطاط طوال القرون ٧ و٨ و٩ الميلادية، بل نرى أن الكل استفاد من تحول هذه المدينة إلى مركز تبادل تجارى دولى بين سلع أوربا وأفريقيا وآسيا، وهو ما تعكسه وثائق الجنيزة التى كانت محفوظة فى معبد يهودى فى الفسطاط وفى مدافن يهود مصر. إن التراث المادى الباقى إلى اليوم فى مصر القديمة شاهد عيان على خبرة التعايش المتراكمة فى مصر ومن أبرز هذا دور العبادة ومنها:
جامع عمرو بن العاص
هو أول مسجد جامع أقيم فى مصر، لذا يسمى بالجامع العتيق، وتاج الجوامع، أنشأه بالفسطاط الصحابى الجليل عمرو بن العاص عام ٢١ هـ/٦٤١م، وبإنشاء هذا الجامع تكاملت الوظائف الحضارية لمدينة الفسطاط، والتى يمثل فيها المسجد الجامع مركزَ الإشعاع، حيث حددت تعاليم الإسلام ضرورة وجود مسجد جامع لأهل المدينة يخطب فيه إمام المسلمين، وتغلق المساجد الأخرى يوم الجمعة، حيث تقام الصلاة الجامعة لأهل المدينة، ويمثل هذا المسجد بطبيعة الحال رمزًا سياسيًّا، إذ يعكس وحدة المسلمين تحت راية إمام المدينة، ووحدتهم الدينية وتضامنهم، وشارك فى تشييد هذا المسجد جمعٌ من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم الزبير بن العوام، والمقداد، وعبادة بن الصامت. كان المسجد بسيطًا فى عمارته، كمساجد الإسلام الأولى تأسيًا بمسجد المدينة المنورة، ومساحته آنذاك ٥٠ ذراعًا × ٣٠ ذراعًا، وله ستة أبواب؛ بابان فى كل ضلع من أضلاعه، ماعدا حائط القبلة.
وعبر عصور التاريخ الإسلامى إلى اليوم أجريت توسعات بالمسجد وتجديدات، ومن العبث فصل هذه الإضافات أو التجديدات عن عمران الفسطاط، ويقع المسجد حاليًا بالقرب من الآثار الباقية لمدينة الفسطاط القديمة، وهو يتكون من صحن واسع مكشوف تحيط به أربع ظلل، ويتوسط الصحنَ قبةٌ مقامة على ثمانية أعمدة رخامية مستديرة، وتتكون ظلة القبلة من إحدى وعشرين بائكة على جدار القبلة، وتتكون كل بائكة من ستة عقود مدببة، مرتكزة على أعمدة رخامية مستديرة، وبصدر ظلة القبلة محراب مجوف مزخرف ومحراب آخر غير مزخرف، وعن يمين هذا المحراب منبر من الخشب، وبجدار القبلة لوحتان من عصر مراد بك؛ إحداهما مؤرخة (١٢١٢ هـ/١٧٩٢ م)، كما تقع دكة المبلغ الخشبية بين البائكتين التاسعة والعاشرة، ولها سلم، وأقيم أمام ظلة القبلة بائكة جديدة من اثنى عشر عقدًا، ترتكز على ثلاثة عشر عمودًا، وهى موازية لحائط القبلة، وتتكون كل من الظلتين الشمالية الشرقية، والجنوبية الغربية من تسع بائكات، تحصر بينها سبعة أروقة موازية لجدار القبلة، وترتكز كل العقود من ناحية الصحن على عمودين، كما تشرف واجهات ظلات القبلة والمقابلة لها على الصحن من خلال بائكة، من اثنى عشر عقدًا، وواجهات ظلات الجانبين من خلال بائكة من ثمانية عقود، وتوجد فى كوشات العقود صرر مزخرفة، وبقى من مآذن المسجد اثنتان جددتا فى العصر العثماني، وترجعان على الأرجح إلى عصر مراد بك؛ إحداهما فوق المدخل الأيمن فى الواجهة، والثانية فوق الزاوية القديمة عند الطرف الأيمن من جدار القبلة، وكلتاهما ذات قمة مدببة على الطراز العثماني.
إذ تمثل كلُ توسعة مرحلةً من مراحل التطور العمرانى للمدينة، فكثافة عدد السكان تتطلب توسعة المسجد، وكل تجديد أو زخرفة تتم بالمسجد، تنم عن ازدهارها، أو أهميتها، خاصةً فى عصور انحسار الوظيفة السياسية عن المدينة.
كنيسة أبى سرجة
تقع هذه الكنيسة وسط الحصن الرومانى تقريبًا، ويدخل إليها حاليًا من حارة نسطورس الضيقة وسط مجموعة كبيرة من المساكن الصغيرة المتاخمة، والتى يفصلها عن الكنيسة حارات ضيقة فى الجهات الغربية والشرقية والشمالية، وتنخفض هذه الكنيسة، عن مستوى أرضية الحارة، التى تؤدى إليها بمقدار ١٠٣ سم، إذ يهبط إليها بواسطة قالب من السلالم الحجرية، كما يتقدمها سياج حديدى.
تاريخ هذه الكنيسة على جانب كبير من الأهمية، إذ اتخذت تسميتها من اسم قديسيين لهما شهرة كبيرة فى تاريخ الاستشهاد الدينى المسيحى فى أوائل القرن الرابع الميلادى وهما القديسيان سرجيوس وواخيس اللذان استشهدا، بحجة الرصافة بسوريا، بسبب اعتناقهما للدين المسيحى فى فترة عهد الإمبراطور الرومانى مسكيمانوس.
تبوأت هذه الكنيسة، مكانة دينية خاصة، بين الكنائس القبطية نظرًا لما ارتبطت به من قصة مجئ السيدة العذراء والسيد المسيح الطفل ويوسف النجار، فى رحلة الهروب من وجه هيردوس ملك اليهود، واحتمائها بالمغارة، التى تقع أسفل الكنيسة. يذكر المقريزى عن هذه الكنيسة، قوله "كنيسة بوسرجة، بالقرب من بربارة بجوار زاوية ابن النعمان، فيها مغارة يقال أن المسيح وأمه مريم عليهما السلام جلسا بها". على أن هذه الكنيسة تعرضت للتلف، بسبب النيران التى اندلعت فى مدينة الفسطاط فى أواخر العصر الأموى، فأصابت مبانيها بأضرار، ثم أعيد تجديدها، فى خلافة هارون الرشيد، إذ ورد فى سيرة الأنبا مرقس (٧٩٩ – ٨١٩ م)، فى تاريخ البطاركة إعادة بناء جميع كنائس المنطقة فى ذلك الوقت، بناء على طلب هذا البطريرك من الوالى كما جددت عمارتها أيضًا فى خلافة العزيز بالله الفاطمى، حين سمح للبطريرك أفراهام، بتجديد كل بيع مصر وقد أورد ذلك ساويرس وأبو صالح، كما أعيد تجديد عمارتها أو ما تشعث منها فى خلافة الظاهر عزيز دين الله.
كذلك فإن لهذه الكنيسة من الناحية الدينية أهمية خاصة عند أقباط مصر، إذ كان يتم فيها انتخاب بطاركة الكرسى المرقسى، حتى القرن الثانى عشر الميلادى، نذكر منهم على سبيل المثال البطريرك شنودة (٨٥٠ – ٨٦١ م). والبطريرك أفراهام (٩٤٨ – ٩٦٨ م)، كما كان يتم بها رسامة بعض كبار رجال الدين من الأقباط.
الكنيسة المعلقة
تعرف هذه الكنيسة بكنيسة السيدة العذراء المعلقة، وذلك لبنائها على برجين من أبراج الحصن الرومانى، ارتفاعهما ١٣ مترًا. ولهذه الكنيسة أهمية دينية فقد كانت فى فترات كثيرة من العصر الإسلامى يتم فيها رسامة البطاركة كما يعقد فيها، كثير من الاحتفالات الدينية المسيحية الكبيرة، ويحاكم فيها بعض الخارجين على الطقوس الكنسية، لذلك فقد انعكست هذه الأهمية الدينية على عمارة الكنيسة وزخارفها حتى أن المقريزى حين ذكرها فى خططه قال "الكنيسة المعلقة فى مصر فى خط قصر الشمع، على اسم السيدة العذراء، وهى جليلة القدر عندهم".
تجددت عمارة هذه الكنيسة على مر العصور الإسلامية، حتى أعيد تجديد عمارتها فى نهاية القرن ١٨ م على يد المعلم العبيد أبى خزام ١٧٧٥ م، كما هو مدون على حجاب معمودية الكنيسة. وقد كان لأحد أثرياء ووجهاء القبط دور كبير فى إعادة تجديد وترميم الكنائس والأديرة المصرية، خاصةً كنائس منطقة مصر القديمة، وهو المعلم إبراهيم الجوهرى.
معبد بن عيزرا
يعتبر معبد بن عيزرا من أقدم المعابد اليهودية فى مصر وكان فى الأصل كنيسة حتى عهد أحمد بن طولون حيث اشتراه الحاخام ابراهام بن عيزرا ونسب إليه، ويتكون المعبد من مساحة مستطيلة مقسمة إلى ثلاثة أروقة طولية بواسطة صفين من الأعمدة ترتكز على الجدار الشرقى المسمى الهيكل، ويطل على هذا القسم مصلى السيدات.
.. وهكذا هى مصر، بلد يحتضن كل الأديان ويعيش سكانه معًا فى تعايش لا مثيل له فى أى بقعة من بقاع العالم.