في نهاية فبراير الماضي، اكتشفت الوكالة الدولية للطاقة الذرية، أن إيران تمكنت من الوصول إلى نسبة ٨٣.٧٪ لتخصيب اليورانيوم، واقترابها من نسبة الـ٩٠٪ التي تدخلها نادي الدول النووية، وكان رد الفعل الأمريكي تجاه هذا "الدليل" مستغربا من البعض.
الإدارة الأمريكية بدت وكأنها تدافع عن النظام الإيراني من اتهامات إنتاج قنبلة نووية، وحاول مدير الاستخبارات المركزية الأمريكية وليم بيرنز، تبرير هذا التطور بالقول "لا نعتقد أن المرشد الأعلى اتخذ قرارا باستئناف برنامج التسليح الذي علقته إيران نهاية ٢٠٠٣"، في تصريحات لمحطة "سي بي أس نيوز"، وقالت السفيرة الأمريكية لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية لاورا هولجيت إن "على إيران أن تضمن عدم تكرار تلك الواقعة".
قبل هذه الواقعة بعشرين عاما، لم تكن إداراة الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، تمتلك أي "دليل" على امتلاك نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين أسلحة للدمار الشامل، وإنما هي "جملة من الأكاذيب" فبركتها إدارة بوش، لتتكئ عليها في عدوانها على الشعب العراقي وتخريب بلاد الرافدين وإشاعة الفوضى ونشر الإرهاب مستترة خلف أكاذيب لا ترقى لمرتبة الحقائق.
وليس هدف المقارنة هنا الدعوة لغزو إيران أو توجيه ضربة عسكرية، ولكن لتبيان النيات الأمريكية تجاه بغداد فالفارق بين "أكذوبة" العراق و"دليل" إيران، يفضح الموقف الأمريكي من التخطيط لتدمير بلاد الرافدين، بـ"قرار" أتخذ بعد قليل من هجمات الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١ حيث كشف آل جور المرشح الأمريكي الأسبق في الانتخابات الرئاسية الأمريكية في مذكراته المعنونة بـ"الهجوم على العقل": "لقد أخبرنا الرئيس – يقصد الرئيس بوش الابن – أن الحرب هي خياره الأخير، لكن الواضح الآن أنها كانت دوما خياره الأول؛ فقد أكد وزير خزانته السابق بول أونيل، أن العراق كانت تتصدر موضوعات أول اجتماعات لبوش بمجلس الأمن القومي بعد عشرة أيام فقط من توليه السلطة وكان الأمر هو إيجاد طريقة لتحقيق ذلك".
وحينما يوضع تقرير لجنة ١١ سبتمبر بجانب شهادة "آل جور" تتضح الصورة بشكل أكبر حيث ورد في التقرير أنه بعد بضع ساعات من هجمات سبتمبر ٢٠٠١ كان وزيرالدفاع الأمريكي آنذاك دونالد رامسفيلد مشغولا بمحاولة إيجاد صلة بين صدام حسين والهجمات ولدينا شهادة تحت القسم لريتشارد كلارك رئيس جهاز مكافحة الإرهاب في إدارة بوش، يذكر فيه أنه في اليوم الثاني للهجمات يوم الثاني عشر من سبتمبر كان الرئيس يريد الربط بين الهجمات وصدام حسين".
ولكن لماذا اختارت الإدارة الأمريكية أن يكون الاتهام الموجه إلى نظام صدام حسين هو "امتلاك أسلحة الدمار الشامل" وتسويق تلك الكذبة في وسائل الإعلام ؟.. يجيب "آل جور" عن هذا التساؤل بالقول "كان التعليل الأول المقدم للحرب هو تدمير أسلحة الدمار الشامل في العراق واختير هذا السبب بدهاء بعدما أظهر التحليل الدقيق للرأي العام الأمريكي أن هذا أشد المقولات تأثيرا في إقناع الناخبين بتأييد غزو العراق".
وقالت كونداليزا رايس التي كانت تتولى منصب مستشار الأمن القومي الأمريكي، إبان الغزو الأمريكي للعراق، "لم يدخل التفتيش عن الأسلحة إلى العراق لما يزيد علي أربعة أعوام، وكان الرأي بالإجماع للجهات الاستخباراتية الأمريكية أنه أعاد العمل ببرامج الأسلحة الكيماوية والبيولوجية، وكان الاعتقاد عند هؤلاء جميعا ما عدا جهة واحدة فقط أنه أعاد العمل أيضا ببرنامج الأسلحة النووية وقد يمتلك قنبلة خام خلال عام واحد إذا استعان بعون خارجي، وإذا مضى بالعمل وحده فسوف يمتلكها قبل انتهاء العقد الحالي من السنين".
دونت "رايس" السطور الماضية في مذكراتها المعنونة بـ"أسمى مراتب الشرف"، وفي حديثها عن امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل استخدمت مفردات تصب في صالح صدام حسين، بعدم امتلاكه السلاح النووي ولا تعضد الحجج الأمريكية للغزو، حيث لم تفتش المواقع لأربعة أعوام، و"اعتقدت" الاستخبارات أن صدام أعاد العمل ببرامج الأسلحة الكيماوية والبيولوجية، و"قد" يمتلك قنبلة نووية بعد عام إذا تلقى عونا خارجيا، وبعد عقد إذا اعتمد على نفسه.
شك أمريكي
هكذا استخدمت كونداليزا رايس، كل المفردات التي تفيد الشك في الرواية الأمريكية لامتلاك العراق أسلحة نووية، بينما العالم على يقين بقرب امتلاك إيران للأسلحة النووية ويخرج رئيس وكالة الاستخبارات الأمريكية وليام بيرنز ليبرر ويدافع عن طهران.
قبل حوالي عشرين عاما، وبالتحديد في أواخر شهر مايو من عام ٢٠٠٣ بعد شهرين فقط من بدء الاحتلال الأمريكي للعراق، أكد السناتور الديمقراطي روبرت بيرد، على الأكذوبة الكبرى التي ساقتها إدارة بوش الابن للأمريكان والعالم، حول امتلاك نظام الرئيس صدام حسين لأسلحة الدمار الشامل.
كانت كلمة "بيرد" مدوية أمام أعضاء مجلس النواب الأمريكي وقال فيها، "لقد هرعت إدارة الرئيس بوش لغزو العراق استنادا إلى صور مفزعة رسمها المسئولون الأمريكيون انطلاقا من بشاعة إمكانية استخدام النظام العراقي الأسلحة النووية إلى المخزون المدفون من الأسلحة الجرثومية، وانتهاء بقدرة العراق على توجيه طائرات صغيرة بدون طيارين، لمهاجمة المدن الأمريكية الرئيسية بالجراثيم الفتاكة.
ويواصل السيناتور بيرد قائلا، "لكن كل هذه المزاعم لم تكن تمثل الحقيقة ولم تستطع القوات الأمريكية بعد احتلالها للعراق أن تعثر على أي من أسلحة الدمار الشامل المزعومة في العراق، والآن أصبحت تلك الحرب الاستباقية ضد العراق مثالا على التهور المتسم بعدم المسئولية في استخدام القوة. فهل تعمد بوش وحكومته تضليل الشعب الأمريكي والعالم؟".
تصريحات السيناتور الأمريكي، أحدثت ما يشبه الزلزال الذي ضرب المؤسسات في الولايات المتحدة وكشف قشرة هشة من الفبركات التي حاولت بها واشنطن التستر بها واكتساب أي تأييد دولي لغزو العراق وتخريبه قبل عقدين من الزمان، وتبين بعد "قنبلة بيرد" أن وزارة الدفاع الأمريكية بالاشتراك مع الرئيس جورج بوش الابن ضغطا على وكالة المخابرات الأمريكية "سي آي إيه" لتقديم أدلة تثبت تورط نظام صدام حسين في تصنيع وامتلاك أسلحة الدمار الشامل.
وبين نفي وتأكيد لأعضاء الإدارة الأمريكية حول فبركة أدلة غزو العراق، تسربت وثيقة من وكالة مخابرات وزارة الدفاع الأمريكية تقول، إنه لم يكن لدى الوزارة معلومات موثوق بها تثبت أن العراق كان يطور أسلحة كيماوية.
مسئولان من وزارتي الدفاع والخارجية الأمريكية تولا مهمة نفي الأدلة التي بدأت تظهر للعيان عن تورط "البنتاجون" في الفبركة، وكان جون بولتون وكيل وزارة الدفاع آنذاك أول من نفى صحة الوثيقة المسربة، وتبعه دوجلاس فايث، وكيل وزارة الدفاع الأمريكية لشئون رسم السياسات الدفاعية إلى تكذيب تلك التقارير الصحفية وقال، إنه لا يعلم شيئا عن ممارسة ضغوط من وزارة الدفاع على وكالة المخابرات الأمريكية للتلاعب في المعلومات.
ولكن الأخير تبين أنه كاذب حيث كان يترأس ما أطلق عليه "مكتب الخطط الخاصة" وهي وحدة تابعة لوزارة الدفاع الأمريكية، أنشئت في أعقاب هجمات ١١ سبتمبر ٢٠٠١ لمتابعة الصلات بين المنظمات الإرهابية، وتولت هذه الوحدة "فبركة" صلة بين النظام العراقي وتنظيم القاعدة بالاعتماد على معلومات غير موثقة قدمها أحمد الجلبي رئيس المؤتمر الوطني العراقي.
ماذا تبقى من محور الشر ؟
قبل الغزو الأمريكي للعراق، بعام كامل أعلن الرئيس بوش الإبن، عما اصطلح عليه حينها بـ"محور الشر"، والذي يضم العراق وإيران وكوريا الشمالية، والتي زعم بوش أنها تشكل على الولايات المتحدة، وفسر عدد من المراقبين ذلك التصنيف آنذاك أنه محاولة لتبسيط السياسة الخارجية التي سوف تنتهجها واشنطن تجاه هذه الدول، وأن تصريحاته تدل على تحرك وشيك وحازم ضد دول "محور الشر" بهدف نزع أسلحتها لحماية مصالح واشنطن ومصالح الدول الحليفة لها.
كانت السياسة الخارجية الأمريكية تضع العراق وإيران وكوريا الشمالية في سلة واحدة، زاعمة امتلاكهم أسلحة الدمار الشامل، وقد ثبت فيما بعد أن العراق بريء من هذه الفرية، بينما تأكد امتلاك بيونج يانج وطهران لهذه الأسلحة إلا أن رد الفعل الأمريكي لم يتجاوز فرض العقوبات عليهما ولم تتجرأ أي إدارة على مدار عقدين من الزمان، على التحرك عسكريا ضدهما بينما سارع بوش الابن إلى غزو العراق وتدمير متكئا على جملة من الأكاذيب وكأن امتلاك كوريا الشمالية وإيران أو اقترابهما من امتلاك الأسلحة النووية مثل حصنا منيعا من الوقوع في مصير العراق.