كن يرقصن فوق رؤوس آبائهنٍ. أغواهن شعاع النور المتسلل من النوافذ.. خرجن ليحلقن فاحترقت أجنحتهن فسقطن على نصل السيف.. حكايات مبعثرة في البيوت وخلف أسوار المحاكم وغد معلق على مشانق الحياة.. وسؤال عن المتهم.. أهي الظروف؟ أم القدر؟ أم الاختيار؟
على موائد الطعام في رمضان ثمة شخص غائب إما جبرا أو اختيارا، وثمة أم تؤدي دورين في مسلسل الحياة الشاق بعد غياب عائل الأسرة.
تقول إيناس علي: لا أتذكر لحظات السعادة بعدما خرجت من بيت أبي، لم أكن أدري حينها أنني أزف إلى شقاء الحياة، ارتشفت قطرات من العسل فقدت مذاقها وكان كل ما بقي في الكأس عذابات، مات زوجي في حادث مأساوي.. رحل فجأة وهو يجهز أوراق ابنتنا شذى للمدرسة، فجأة وضعت هي وشقيقها في كشف الأيتام، سنوات تأمينية خرج من رحمها جنيهات تتوه في حسبة الطعام، لم يكن أمامي سوى أن أبحث عن عمل.. لكن أي عمل هذا الذي أستطيع معه شراء حجارة لأبني جدارا من الستر، بعت مصاغي لأفتح محل بقالة، كنت بين الحين والآخر أخذ ورقة من ورق البخت خلسة وأتحمل الخسارة عسى أن أجد فيها الحظ.. لكن لا شئ في الورقات غير خيبات تتنامى وجبل من الصبر آخذت منه حتى تساوت قمته بالتراب.. أدفع السنوات على ورق الحائط لتمر ثقيلة وكلما كبر الولد والبنت عاما أواسي نفسي بأنها هانت لكن الحاجة تزيد أمام تجبر الحياة والغلاء.
من ثغر الشقاء تلتقط أماني أحمد طرف الحديث وقد شاخت الثمار على غصنها وهي تنادي في حدائق تحولت لخرابات: ياورد مين يشتريك؟ هرب منها زوجها في دوامة الكيف.. كان حاضرا ثم تلاشى وبات غير موجود إما خلف قضبان السجن أو أسير الكيف، وكيف تعيش وكل مصوغات تعيينها في الحياة أنها مطلقة، كانت تجمع الفتات من أهل الخير لتصنع رغيفا لبنتها حتى شح الدقيق في يد أهل الخير فباتت تتسول الحياة مع ابنتها بعلب مناديل في الإشارات.. وتضع الجنيهات على معاش تكافل وتركض بواو العطف خلف سراب الكرامة وحين تصل إلى إشارة الحياة تجدها حمراء.
وحدها ثريا أمين تظن أنها نجت لأنها مدرسة ولها راتب استطاعت من خلاله ان تحفظ ماء وجهها وتتباهى بأنها ربت ابنها من حلال حتى تزوج، لكنها بقيت كشجرة توت عتيقة شاخت غصونها ولم يبق من أثرها غير نسيم تهديه أحفادها كلما جاءوا ليستظلوا بها في الأجازات.. بلا ونس في مشوار لا تعرف متى ستكون نهايته.
أما إيمان علي فما زالت تقلب ورق الكوتشينة وتعيد توزيعها ليظهر لها من بين الورق الولد الذي انتظرته خلف النافذة ولم يمر، ضاع منها الوقت ومات الأب ولم يبق سوى صوت الأم الضريرة يتسلل ضعيفا إلى مسامعها حيث تقف ابنتها على حافة النافذة أو أمام المرآة: "نفسي أطمن عليكي يا بنتي قبل ما أموت" وما بين أمنية الأم وتمني البنت تاهت تنزف فراشة جديدة على نصل السيف.
مسلسل من الألم بلا نهاية وسؤال معلق في المشانق أكان اختيارا أم قدرا؟