السبت 02 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

مصريات

كتابات رفعت السعيد.. حكايات العمائم والخوارج وأوهام الخلافة

رفعت السعيد
رفعت السعيد
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

خلال حياته الزاخرة بالبحث والتدوين، ترك الراحل رفعت السعيد العديد من الكتابات، التي جمع بعضا منها في مؤلفات شديدة الثراء، صارت تمثل للأجيال التالية مرجعا، عند الحديث عن الإرهاب المتأسلم، أو الأفكار الظلامية التي بثها أصحاب الأغراض المتطرفة؛ منذ ظهور الخوارج في عصر صدر الإسلام، وحتى ظهور تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" وفروعه المنتشرة في العالم.

تنوعت كتابات السعيد في هذا الملف، بداية من أصحاب العمائم الليبرالية من نماذج التنوير في الفكر العربي الإسلامي المعاصر، في مقابل أفكار الإرهاب المتأسلم التي أشعلت العالم تجاه المسلمين بسبب المتأسلمين. وضرب في جذور المشكلة، حتى أتى بالفكرة نفسها قبل عقود طويلة، تعود إلى زمن الخلافة نفسه.

"عمائم ليبرالية".. "السعيد" يرصد صراعات المتنورين لفصل الدين عن الحُكم 

يضيف كتاب "عمائم ليبرالية في ساحة العقل والحرية" إلى مؤلفات الراحل رفعت السعيد حكايات أخرى إلى تلك التي سردها في كتابيه "الإرهاب المتأسلم" و"المتأسلمون: ماذا فعلوا بالإسلام وبنا؟"، وكتب أخرى، ليستكمل صورة واضحة كوّنها ذهنه عن نماذج التنوير لبعض رجال الدين في التاريخ العربي الإسلامي الحديث؛ وفي أجواء سياسية متأزمة عاشتها البلاد العربية منذ منتصف السبعينيات، اشتدت فيها سواعد التيارات الدينية، حتى صار الإرهاب بصورته الدموية الواضحة التي نعرفها.

يتناول الكتاب في مقدمة صفحاته عرضًا سريعًا للتعاريف المتداولة عن الليبرالية، اختار ثلاثة منها؛ ثم تطرق لأفكار سبعة من المتنورين الذين جمعوا بين الفكر وكونهم من رجال الدين؛ أولهم رفاعة الطهطاوي، الذي يبدو واضحًا عشق السعيد له، حتى أنه عاد وافتتح به كتابه "بناة مصر الحديثة"، كأحد المتنورين والمدافعين عن الفكر الليبرالي بعد أن يستعرض صلته بالحاكم محمد على باشا الذي أرسله إلى باريس لإكمال دراسته، وهو الفتى القادم إلى القاهرة على مركب في النيل بعد أن باعت أمه كل ما تمتلك من حُلي مقابل جنيهين. هذا الفتى بعد أن صار إمامًا في التنوير ترك لورثته أكثر من 700 فدان. يوضح هذه النقطة السعيد عندما يشير إلى أنه طوال الفترة الممتدة منذ قيام محمد على بإلغاء نظام الالتزام حتى نهاية عهد إسماعيل، كان حاكم مصر هو أكبر مالك للأرض، وكان هو المنبع الوحيد لتملك الآخرين؛ وكان محمد على يختار من يمنحهم الأرض من بين موظفيه "أي من الطاقم الإداري الجديد الذي تولد عبر تكوين فئة جديدة من المثقفين العصريين، الذين اعتمد عليهم محمد على في بناء جهازه الحديث؛ والذي بقدر ما كان يعتمد ترويعهم، كان يسعى لتطويعهم".

ويتطرق السعيد في الحديث إلى جمال الدين الدين الأفغاني، الذي تناوله الكتاب ومواقفه الفكرية المتناقضة من أحداث كثيرة شهدتها مصر، التي عاش فيها ثماني سنوات قبل نفيه منها؛ وقبلها علاقته بالحكام الذين لازمهم في سنوات حكمهم؛ بداية من السلطان العثماني عبد الحميد، إلى شاه إيران ناصر الدين، إلى الخديو توفيق في مصر، وقدرته الفذة على مواجهة الخصوم.

روى الكتاب إن الأفغاني كان مرة في حضرة السلطان عبد الحميد، أقوى أقوياء زمانه، وأخرج مسبحته ليبعث بها بين أصابعه، وفي هدوء انحنى رئيس الديوان هامسًا وراجيًا أن يُعيد المسبحة إلى جيبه، لكن الأفغاني رد بصوتٍ عالٍ: "إن حضرة السلطان يلعب بحياة ثلاثين مليونًا من بني آدم، أفلا يلعب جمال بثلاثين حبة من الكهرمان".

وينتقل الكاتب إلى تلميذ الأفغاني، الإمام محمد عبده، ورؤيته المتحررة ودعوته للتجديد الاجتماعي والديني؛ واصطدامه مع شيوخ الأزهر المتشددين، الذين رفضوا دعوته للتجديد وخاصة تجديد التراث، ورفضوا تجديد برامج التعليم في الأزهر، واعتبروا دعوته لتعليم الجغرافيا والحساب والجبر والهندسة ومختلف العلوم الحديثة في مناهج الأزهر -آنذاك- جريمة نكراء.

في المقابل، يُبرز الكتاب رفض محمد عبده لاقتران السلطة بالدين. ويستشهد السعيد بقوله: "ومن الظلال القول بتوحيد الإسلام بين السلطتين المدنية والدينية، فهذه الفكرة خطأ محض، ودخيلة على الإسلام. ومن الخطأ الزعم بأن السلطان هو مقرر الدين وواضع أحكامه ومنفذها، وأن المسلم مستعبد لسلطانه". هكذا، ينقل السعيد في كتابه بعضا من ضراوة الصراع بين محمد عبده والأزهر، واتهام مشايخ الأخير له بالكفر. كتب: "وتظل الخصومة مشتعلة حتى آخر نسمات حياة الأستاذ الإمام، وفيما هو على فراش الموت. كان يتأوه شعراً".

أيضا، من العمائم البارزة التي ذكرها الراحل الدكتور رفعت السعيد في كتابه، رجل الدين، والمحامي، والصحفي، والموظف الحكومي، والمفكر المجتهد واللامع، عبد الرحمن الكواكبي، والذي قضى حياته منذ نصف القرن التاسع عشر وحتى أشرقت شمس القرن العشرين محاربا للاستبداد، ومناضلا من أجل حرية الإنسان وحقوقه الاجتماعية.

تناول السعيد في الكتاب مفاهيم الكواكبي الليبرالية حول الدين، وخلافه العميق مع رجال الدين الموالين للخلافة -آنذاك- والذين أطلق عليهم "عمائم السلطان" و"الجهلة المتعممين"، وتأكيده من أن الإسلام لا يعرف الحكومة الدينية ولا يعترف بها. يقول: "فلا يوجد في الإسلام نفوذ ديني مطلقاً في غير مسائل إقامة شعائر الدين".

ويستعرض لنا الكتاب الصحف والكتب العديدة التي أصدرها الكواكبي، وأنباء موته مسموماً على أيدي أحد الجواسيس العثمانيين، الذي لاحظ أن الكواكبي "يبلل أصبعه من لسانه" ليتمكن من قلب صفحات الكتاب الذي يقرأه بسهوله، فأهداه كتاباً وضع سُمـــّاً على أطراف صفحاته. كما يعكس فرحة أبو الهدى الصيادي، الذي كان يُطلق عليه "داهية الباب العالي"؛ وقوله على نبأ وفاة الكواكبي: "بالقراءة أتعبنــــا، وبالقراءة قتلنـــــاه".

وفي جزء آخر، يتناول السعيد بعضًا من ملامح الصراع الذي دار بين الشيخ الليبرالي على عبد الرزاق، ومجموعة من رجال الدين المتنورين، وسلطة الأزهر التي كانت قد تأثرت بأحداث ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتأثير الإجراءات التي اتخذها أتاتورك مؤسس الجمهورية التركية، وتشريعاته الداعية إلى فصل الدين عن الدولة، وإخضاعه المؤسسات الدينية للمؤسسات المدنية، وإلغاء منصب الخلافة في عام 1924؛ وكذلك بعض ما أثاره كتاب على عبد الرزاق "الإسلام وأصول الحكم"، والذي أشار إلى أن الحكم والحكومة والقضاء والإدارة ومراكز الدولة هي جميعًا "خطط دنيوية صرفة، لا شأن للدين بها. فهو لم يعرفها ولم ينكرها، ولا أمرَ بها ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا لنرجع فيها إلى أحكام العقل وتجارب الأمم، وقواعد السياسة".

ويُنهي الدكتور رفعت السعيد كتابه، الذي ركز في أغلب أجزائه على موقف هؤلاء المتنورين من رفضهم لفكرة تولي الحاكم الديني؛ بالحديث عن فلسفة وأفكار أحمد أمين، كأحد رجال الأزهر، وتطلعه من أجل فكر ليبرالي للدين، وكتاباته وإصدارته المتعددة، وأقواله التي تؤكد رفض فكرة الحاكم الديني، ومنها "الحكومة من عمل الشعب وليس من عمل القدر، وصاحب السلطة يستمد شرعية وجوده من الأمة التي ينتمي إليها، وليس من أية قوة ما ورائية".

"الإرهاب المتأسلم".. التفكير بحد السيف

في مقابل النماذج المضيئة المتنورة من العمائم الليبرالية التي جمعها في الكتاب الذي يحمل نفس الاسم، يشير الراحل الكبير رفعت السعيد في كتابه "الإرهاب المتأسلم: لماذا ومتى وإلى أين؟"، إلى أن جماعة الإخوان، فكرا وممارسة وتاريخا، ليست سوى البداية لفكر تخريبي، قاد العالم إلى المشهد الذي يبدو عليه الآن، من انتشار لجماعات وحشية مسلحة ترفع راية الدين.

يقول: "بالنظر المدقق لما هو متداول من أفكار وأفعال متأسلمة هنا أو هناك، وربما في أي ركن من أركان هذا العالم؛ يكتشف أنها مجرد امتداد للفكر "القطبي" -أي فكر الأستاذ سيد قطب- فكما امتد الخط الإخواني على استقامته على يدي سيد قطب ليواصل تقديم الثمار المريرة، فقد امتد الخط القطبي على استقامته -ربما على غير ما أراد صاحبه- ليتحول إلى ما عانينا، ونعاني منه الآن من ثمار أشد مرارة".

ويؤكد الراحل أنه "كلما طفت على سطح الفكر العربي والإسلامي أفكار متأسلمة، نجدها تتخذ دوما أسماءً قادرة على اكتساب مساندة الجماهير. وعلينا، ابتداء، ألا نقع في فخ استخدام هذه الأسماء، فنبدو كمؤيدين أو مروجين لهذا التأسلم. والحقيقة أن التسميات الإعلامية وخاصة الأجنبية لهذه الجماعات تصب في أغلبها في الترويج لهم دون وعى".

يقول: ويبقى أن نفتش عن التسمية الصحيحة التي يمكن استخدامها كغطاء يتحول بواسطته الإسلام الزائف إلى إسلام يبدو حقيقيا، وهنا نقترح التسمية التالية: "التأسلم"، فالتاء إذا دخلت في أول الفعل صارت علامة تنقل معناه إلى معنى آخر، فمثلا الفارق بين رجع وتراجع، أن التاء هنا إذا دخلت على الفعل رجع تعنى أنه كان يتقدم إلى الإمام ثم تراجع، والأمثلة كثيرة مثل تأرجح وتمرد وتأمرك.. إلخ

ولهذا فإننا نقترح كلمة "تأسلم" لوصف ادعاءات داعش وأمثالها وسابقيها منذ الخوارج وحتى الآن. وهي بالإنجليزية Islamised بمعنى التظاهر بالتمسك بالإسلام الصحيح؛ بينما الحقيقة هي أنه يتجاوز حدود العقيدة الإسلامية الصحيحة، ويبتعد عن الإسلام الصحيح ممارساً الإسلام الزائف.

ووفق السعيد، يظهر الاختلاف الأساسي بين "المتأسلمين" و"المسلمين". يوّضح: "فالمتأسلمون يلجؤون إلى ظاهر النص ويلتزمون به حرفيا، ويرفضون أي إعمال للعقل أو التمعن في الفكر. والمسلمون يلتزمون بما رآه سيدنا على بن أبى طالب فأعملوا عقولهم واختلفت اجتهاداتهم. واتخذ المتأسلمون من الفهم النصي سبيلا لتبرير أعمالهم الإرهابية ففي سورة نوح نقرأ «وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا»، فوجد المتأسلمون الجزائريون غطاء لارتكاب أبشع الجرائم. إذ قتلوا مخالفيهم في الرأي، وأبناءهم، وزوجاتهم الحوامل، وما في بطونهن من أجنة".

ويشير السعيد إلى أن الأمر نفسه هو ما فعله حسن البنا، فما أن اختلف معه بعض من المؤسسين في الأيام الأولى للجماعة بالإسماعيلية، حتى صاح في أتباعه مستخدما الحديث الشريف «من خرج على الجماعة فاضربوه بحد السيف»؛ يقول السعيد: "نلاحظ هنا أن حسن البنا قد راوغ الجميع لغويا، فالجماعة قد تفهم «جماعة الإخوان» وقد تفهم «الأمة الإسلامية» والرسول قصد بالطبع الخروج على جموع المسلمين ومحاربتهم".

يضيف السعيد: ثم يمضي سيد قطب بالخط الذي رسمه البنا على استقامته، ولكي نعرف مكانة قطب عند الجماعة، نقرأ لأحد قادتها البارزين، صلاح شادي، كتابا بعنوان «الشهيدان حسن البنا وسيد قطب»، يقول فيه «لقد كان حسن البنا البذرة الصالحة للفكر الإسلامي، وكان سيد قطب الثمرة الناضجة لهذا الفكر». فكر سيد قطب ذو الفكر المتأسلم الذي يتوالد منه الإرهاب امتدادا من خوارج عصور الخلافة وآخرها الخلافة العثمانية، البنا، سيد قطب ومن أتوا من عباءته.

ويشير السعيد إلى أن سيد قطب، وبعده جماعته ومن تبعه، يقصرون معنى الجهاد على مجرد التقاتل بين المسلمين، وعدم النظر إلى آيات القرآن التي تأمر المسلم بجهاد النفس في طاعة الله، والابتعاد عن المعاصي والمخالفات، والالتزام بمكارم الأخلاق؛ والاكتفاء بالانحراف بالمقصود من هذه الكلمة إلى إشعال قتال بين المسلمين في المجتمعات الإسلامية بعد تكفيرها.

يضيف: كما لا يتورع سيد قطب، ومن تبعه الذين تواصلوا من بعده، في تقطيع سياق الآيات ترويجا لفتنة التقاتل بين المسلمين، ففي كتابه "معالم على الطريق" يقطع سياق الآية ويكتفي بإيراد نصفها، فنقرأ: وقاتلوا المشركين في كل الأحوال وحتى لو كانوا مسالمين أو موالين، بينما النص الكامل للآية “وقاتِلُوا المُشْرِكِينَ كافَّةً كَما يُقاتِلُونَكم كافَّةً” التوبة – 36.

ويلفت السعيد إلى أن الأمر نفسه فعله شكري مصطفى مؤسس الجماعة الإسلامية، المعروفة إعلاميا بـ "جماعة التكفير والهجرة"، والذي اختاره لأنه من أوائل تابعي سيد قطب "وهو نموذج للتأسلم عندما يلغى العقل تماما فيقتاده إلى الدمار هو وجماعته. ولو قارنا كتابيه «الخلافة» و«التوسمات» وقادتهما بكتابات بعض قادة داعش والقاعدة لوجدنا شبها كبيرا. ولتوقعنا لهم نهاية مشابهة".

يقول السعيد: "إذ يأتي في كتاب «التوسمات» بما نقله بلا تدبر من كتب التراث القديم الذي اعتقد أنه كامل الصحة. فيقول إن دلالات قيام الساعة عمران بيت المقدس، خراب يثرب وخروج الملحمة، فتح القسطنطينية. خروج الدجال. ثم يتحدث عن نفسه وعن جماعته قائلا "من علامات دمار دولة الكفر وظهور دولة الإسلام ظهور جماعة الحق التي وضعت حدا فاصلا بين الكفر والإسلام ووضعت الحد الفاصل بين من هو المسلم ومن هو الكافر، وهي قضية لا يكون هناك إسلام ولا مسلمون إلا بمعرفتها".

هكذا يوضح رفعت السعيد أنه التأسلم على نفس الشكل منذ أيام الخوارج وحتى أيامنا، أيام داعش والقاعدة وجماعة الإخوان الإرهابية. يصفه بأنه "تفسير نصي مغرق في إغلاق العقل، والقول بأن المسلم مأمور بالالتزام بما قيل إنه المعرفة الكاملة التي لا يمكن معاودة النظر العقلي والعلمي فيها، لأنها غير قابلة لإعادة النظر أو التجديد، أو حذف ما لا يقبله عقل أو علم أو واقع. 

وينتقل الكاتب إلى موضوع معقد بعض الشيء وهو ما أعلنه بعض المحكومين في قضية اغتيال السادات وما سبقها وما تلاها ما أسمى بـ "المراجعات"، ثم التراجع عن المراجعات أو محاولة إثبات بعض من حسن النيات انتهت عند البعض منهم بما يسفر عن سوء النيات. وتأتي الصعوبة من أن البعض أراد يقول بالتراجع دون تراجع متلاعبا بالألفاظ ومحاولا الإيحاء بفكر جديد بينما هو على الطريق القديم لم يزل، ويستخدم البعض المفردات ويتلاعب بها محاولا الإيهام بما هو وهمي في واقع الأمر.

"أوهام الخلافة".. عن النظرة الخاطئة للتراث والتمسك بالتفسير النصّي

في كتابه "أوهام الخلافة"، وهو عبارة عن مقالات وأبحاث نُشرت عامي 2006 و2007، يُلقي رفعت السعيد الضوء على تاريخ تطور نظرة علماء المسلمين وساستهم إلى مفهوم الخلافة/ الإمامة، ويبحث في علاقة الخلافة بالدولة من حيث كونها تنظيماً اجتماعياً. ويبدو واضحا في الكتاب ميله إلى رأي أبو الفتح الشهرستاني في كتابه «نهاية الإقدام» بأنّ "الإمامة ليست من أصول الاعتقاد"، وإلى رأي عبد القاهر الجرجاني في «شرح المواقف» بأنّ "الخلافة ليست من أصول الديانات والعقائد، بل هي من الفروع المتعلقة بأفعال المكلفين".

في الكتاب ذي الفصول الخمسة، يرى المؤلف أن السرّ وراء الفوضى التي تحكم الساحة الفكرية والسياسية في العالم العربي الإسلامي، هي فوضى تعزى إلى ثلاثة أسباب: النظرة الخاطئة للتراث، التمسك بالتفسير النصّي، وعدم الإصغاء إلى الملابسات والدواعي وأسباب النزول؛ وأخيراً إقحام ما هو ديني فيما هو سياسي. 

يعود المؤلف إلى بداية علاقة مصر بالعثمانيين وغزوها على يد السلطان سليم الأول. وكان سلطان مصر آنذاك هو قنصوه الغوري الذي كان يلقب نفسه بـ "خادم الحرمين الشريفين"، وكان يتكفّل بغسل الكعبة وكسائها كل عام، ويرعى الأماكن المقدسة في فلسطين. وبعد وفاته، وتولّى مكانه طومان باي، أصدر مفتي الآستانة فتوى تحلّل لسلطانه سليم غزو مصر. ويبعث سليم إلى طومان رسالة جاء فيها "إن الله قد أوحى إليّ بأن أملك الأرض والبلاد من الشرق إلى الغرب كما ملكها الإسكندر ذو القرنين، وأنا خليفة الله في أرضه، وأنا أولى منك بخدمة الحرمين الشريفين".

وبعد تولّي أسرة محمد علي حكم مصر عادى السلطان العثماني كل من نادى باستقلال مصر وعلى رأسهم أحمد عرابي، إلى أن انتهت الخلافة في تركيا على يد كمال أتاتورك. عندها، اجتمع عدد من علماء الأزهر ليصدروا بياناً يرفضون فيه قرارات أتاتورك، على اعتبار أن "من بويع من المسلمين لا يمكن خلعه". إلا أن منصب الخليفة الشاغر أسال لعاب العديد من الحكام العرب، وعلى رأسهم الحسين بن علي ملك الحجاز، وفؤاد ملك مصر. 

في الوقت نفسه نشبت حركة لرفض الخلافة، جناحها السياسي حزب الوفد، وجناحها الفكري عدد من المثقفين أهمهم حسين هيكل وعزيز ميرهم، والتي توّجت بكتاب الشيخ علي عبد الرازق الشهير "الإسلام وأصول الحكم". ومما جاء في الكتاب أنّ "الحكم والحكومة والقضاء والإدارة ومراكز الدولة جميعاً خطط دنيوية لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها ولم ينكرها.. فليس من حاجة إلى تلك الخلافة لأمور ديننا ولا لأمور دنيانا".

ويتخذ السعيد من مفهوم الخلافة، مفتاحا لتناول العديد من المسائل الخلافية المتعلقة بتماس الدين مع الحياة المدنية في العالم العربي، بدءاً من الفتاوى التي أصبحت تأتي من كل حدب وصوب، وصولاً إلى التقاء الدين بالسياسة في جهة المعارضة، خاصة لدى الإخوان المسلمين، وموقف الأنظمة الحاكمة منها؛ مروراً بالقضايا المتصلة بتعليم الدين في المدارس العامة، وحتى دعاوى التمييز الإيجابي للمرأة والأقباط في الحياة السياسية المصرية.

ويرى السعيد أن الخلافة تختصر كلّ هذه القضايا بوصفها نموذجاً لطريقة تفكير العديد من المنتمين إلى التيار الفكر السلفي. حيث تلخّص الرغبة في العودة إلى الماضي، وفق نموذج غير محدد سيرسم مستقبلاً مجهول الملامح، والرغبة الحادة في طرح الخلافة والمفاهيم المتعلقة بها من حيث مصدر الحاكمية. وأنها "رغبة في فرض طرق محددة للتفكير، وأسلوب وحيد في استنباط الفتوى يحولها إلى محنة للإسلام والمسلمين. وإذ يتخذ بعض السياسيين من المقدس أداةً في معاركهم السياسية، فإنهم يتجاهلون المقولة "الدين تسليم بالإيمان والرأي تسليم بالخصومة، فمن جعل الدين رأياً جعله خصومة، ومن جعل الرأي ديناً جعله شريعة".