نتيجة لتصاعد أزمة الواقع العربى والإسلامى، وصولا لقمتها مع سيطرة جماعات إرهابية وتطرف عنيف على مناطق واسعة فى بلاد شهدت فوضى وتخلخلا أمنيًا، بات من الضرورى النظر للخطابات الدينية المبنية على فكر موروث، أو مُسلَّمات متداولة تأخذ نفس مكانة المصادر الأولية فى الدين، كونها تحتل مكانة النص المقدس.
وحول إعادة النظر فيما تلقيناه عن الموروث، ومشروعية تحديث الفكر الإسلامى ليتناسب مع المعطيات الجديدة للعصر، وضرورة التخلص من التخلف والرجعية، وإعطاء الفكر الدينى وجهاته الإنسانية والحضارية، ومنح الفرصة للدارسين فى فحص ومراجعة الأفكار المصاحبة للنصوص الدينية الأساسية المقدسة، حتى اكتسبت تلك الأفكار صفات يقينية، وجرى تكريسها كى تطرح نفسها على أنها هى الدين ذاته، لذا اهتمت مشاريع المفكرين بدراسة مواطن استلاب العقل العربى والإسلامى، ومواطن قوته وقدرته على العودة، ليعود مُجددًا من أفوله واستقالته من الإبداع والعطاء الحضارى.
عملت فى هذا المجال نخبة من المفكرين العرب، طرحوا مشروعات تنويرية وتجديدية صادقة وجادة، نعرض لثلاثة كرسوا المزيد من الجهود لدراسة أزمة الواقع، وأزمة العقل، وضرورة التجديد، وهم المفكر السورى جورج طرابيشى الذى طرح مشروعا ضخمًا لنقد العقل العربى وإبراز أسباب استقالة العقل الإسلامى، والمفكر المصرى مراد وهبة الذى طرح مشروعا يهدف لاستعادة الأسس الفلسفية لابن رشد الأندلسى وإمكانية بعث رشدية عربية معاصرة، والمفكر التونسى عبدالمجيد الشرفى الذى ركز على الإسلام والحداثة ومحاربة البداهات الزائفة فى الفكر الإسلامى، ومشروعية تحديثه وأهمية ذلك.
تحديث الفكر الإسلامى
فى كتابه «تحديث الفكر الإسلامي» حدد المفكر التونسى الدكتور عبد المجيد الشرفى عدة ملاحظات حول الفكر الإسلامى قبل مناقشة قضايا التحديث والتجديد، من أجل استبعاد العوامل التى عملت على تعميق الفجوة بين الدين والحياة.
شدد «الشرفي» على ضرورة التمييز الصارم بين الفكر الإسلامى أو الخطاب الإسلامى من ناحية، وبين الإسلام ذاته من ناحية أخرى، فالدين لا يمكن أن نطالبه أن يتطور أو يتغير، ولكن فهمنا له، وتعاملنا معه يتغير ويتطور. مؤكدا على أن الفكر الدينى يخضع لقوانين عامة، يمكن أن تشترك فيها جميع الديانات وخصوصًا الديانات التوحيدية، لذا فالشرفى يطالب بانسحاب التحديث ليشمل الديانات الثلاثة، اليهودية والمسيحية والإسلام.
ولفت «الشرفي» إلى أن «التفاسير القرآنية وتوظيفات الفقهاء والمتكلمين قد شكلت عبر التاريخ الإسلامى نصوصًا ثوانى، إذا لا يُفهم النص المقدس إلا عبر تلك النصوص الثوانى ومن خلالها، وهذا يعنى بوضوح أن ما يُحتج به فى كثير من الأحيان ليس هو النص القرآنى بقدر ما هو السنة التأويلية فى نطاق المذهب الفقهى وفى نطاق الفرقة الكلامية». ومن هنا يفتح الشرفى «مشكلة النص» ليفرق بين النص المقدس وبين الشروحات والتفاسير المصاحبة، محددا فى الوقت نفسه السياج الموضوع حول النص المقدس، الذى يفرض شكلا معينا لفهم النص أو الاختلاف فى فهمه، أى أن القدماء وضعوا سياجًا لفهم النص ولطريقة الاختلاف فى فهمه، كى يكون أى كلام خارج هذا الإطار هو نوع من الخروج خارج دائرة الإسلام، وهو منطق خطير ومزلق تراثى يجب الانتباه له. ويرى المفكر التونسى، أن الاحتجاج بالنص له حدوده وقواعده التى لابد من الاتفاق حولها لكى يكون للنص معنى، فنحن لا نقول إن الاحتجاج بالنص كان دائما مؤديًا إلى خلاف ما يمكن أن يدل عليه النص فهذا يكون تجنيًا على أسلافنا، ولكننا فى الآن نفسه نؤكد أن هؤلاء الأسلاف قد وقعوا مرات عديدة فى هذه المزالق التى يحق لنا ونحن نتحدث عن مشروعية هذا التحديث أن نفحصها عن قرب، كى نرى هل يؤدى النص نفس المعنى الذى انساق إليه الفقهاء والمفسرون وغيرهم أم لا؟
يضرب «الشرفي» مثالا لطريقة احتجاج القدماء بقوله تعالى «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون»، و«هم الظالمون»، و«هم الفاسقون» (سورة المائدة) إن هذه الآيات مقتطعة من سياقها وهى تتعلق فى النص ببنى إسرائيل، فيكفى فصلها عن السياق لكى توظف توظيفا مختلفا وتكون النتائج المترتبة على هذا التوظيف نتائج تضمر اختلافا كبيرا جدا.
ينحاز «الشرفي» لموطن قوة الرسالة المحمدية التى تمتاز بعزلها للوسائط بينها وبين المؤمنين بها، قائلا: «فى فهمنا للرسالة المحمدية ما يسمح لنا بأن نتجاوز كل هذه التأويلات التاريخية وما به نتجاوز هذه المنظومة المنغلقة لمجرد أن الإسلام لم يقر وسائط على خلاف الأمر فى ديانات أخرى، مجرد هذا الأمر من شأنه أن يؤكد مشروعية إعادة النظر فى هذا الموروث لأن الوسائط هم الذين فى نهاية الأمر قد وجهوا هذا الفكر الإسلامى وجهة معينة تخدم مصالحهم بصفتهم فئة مخصوصة، وهذه الفئة قد اجتهدت على كل حال بما يتلاءم وأوضاعها التاريخية، ولكنها ليست مؤهلة لكى تجيب مكاننا عن الأسئلة التى تطرحها علينا أوضاعنا».
تأثير الخرافة وإشاعة الوهم
استقر المفكر السورى جورج طرابيشى على قراءة الواقع العربى وأسباب تراجعه عن بقية الأمم، وتساءل بدوره، أهى أسباب خارجية قضت على العرب أم أسباب داخلية توفرت بيئتها فعملت على ضياعنا، هل هى أسباب تعود لعوامل خارجية من فعل «الآخر» كما يذهب المفكر المغربى محمد عابد الجابرى، أم هى أسباب تعود لعوامل داخلية من فعل الذات لا «الغير"! كما يرجح طرابيشى ذاته.
فى كتابه «المعجزة أو سُبات العقل فى الإسلام» حذَّر طرابيشى من تأثير شيوع الخرافة فى الفكر العربى والإسلامى، موجهًا سهام الإدانة والنقد للمؤلفات التى احتفت بمنطق المعجزة والخروج عن قوانين الطبيعة، بل توسعت فى الكتابة عنها وتسجيل المزيد منها بصورة مطردة مع الزمن، ومطالبًا فى الوقت نفسه بثورة علمية من داخل التراث، وليست عليه، ثورة تسعى لإعادة تفسيره، وفى زماننا المعاصر حيث يبدو العالم العربى والإسلامى بشكل أعم مهددا بالارتداد نحو قرون وسطى جديدة، فإن ثورة كوبرنيكية على صعيد العقل، وعلى صعيد عالم العقل الذى هو التراث والتأويل الموروث للتراث. وجه طرابيشى سهم الإدانة لمنطق المعجزة، لأن أدبيات المعجزة ومنطقها أسهم فى إذاعة الوهم فى الثقافة العربية والإسلامية الموروثة بإمكانية سيطرة سحرية على الطبيعة والكون والتحكم بقواهما من دون حاجة إلى معرفة قوانينهما. مطالبًا بـ"ثورة ذاتية ينتفض فيها العقل كما تكوَّن فى التراث على نفسه؛ ليعيد تأسيس ذاته فى عقل مكوِّن جديد يستطيع معه وبه أن يكتسب رهان الحداثة».
بعث الرشدية العربية
ركزت جهود المفكر المصرى الدكتور مراد وهبة طوال مشواره الفلسفى على استعادة الأفكار الخاصة بابن رشد الأندلسى لتأسيس تيار سماه «الرشدية العربية» فى مقابل «الرشدية اللاتينية»، بهدف بعث تنوير جديد، يجعل من مقولة الفيلسوف الألمانى إيمانويل كانط شعارا له وهى: «كن جريئا فى إعمال عقلك»، ويطرحها «وهبة» فى مقولة أخرى وهى: «التنوير يعنى ألا سلطان على العقل إلا العقل ذاته»، خاصة وأن مقولة كانط وردت فى مقال له بعنوان «جواب عن سؤال ما التنوير؟».
فى استعادة ابن رشد، ألح «وهبة» على دور السلطة السياسية فى إفساح المجال لذلك بل ودعم مثل هذه المسارات وتغذيتها، وذلك حينما يشير إلى قصة الإمبراطور الألمانى فريدريك الثانى، الذى استمع لنصيحة البعض بضرورة ترجمة مؤلفات الفيلسوف العربى أبى الوليد بن رشد، لأن بها فكرًا يسمح بالتطور، خاصة وأن الإمبراطور كان مشتبكًا آنذاك مع السلطة الدينية المتشددة.
انتبه «وهبة» إلى مقولة محورية فى فلسفة ابن رشد، وهى مقولة «التأويل»، أى تأويل ظاهر النص ليتوافق مع العقل، موضحًا أن التأويل منح ابن رشد مساحة كبيرة للقول باستحالة قيام «إجماع» حقيقى، وأن خرق الإجماع لا يقتضى التكفير، ونقلاً عن «وهبه» فإن «التأويل يخرق الإجماع، إذ لا يتصور فيه إجماع، ولهذا يمتنع تكفير المؤول، ولهذا فقد غلط أبو حامد الغزالى عندما كفر الفلاسفة من أهل الإسلام مثل الفارابى وابن سينا فى كتابه تهافت الفلاسفة».
يتساءل «وهبة»: «ماذا يعنى تكفير الفلاسفة؟ يعنى أن الذى يكفر هو الذى يتوهم أنه مالك الحقيقة المطلقة وهذا الوهم هو الذى يحد من سلطان العقل، وقد أراد ابن رشد إزالة سلطان هذا الوهم بحيث لا يبقى سوى سلطان العقل، وهذا هو جوهر التنوير. ومن هنا يمكن القول بأن ما حدث لابن رشد من إحراق كتبه ومحاكمته ونفيه مردود إلى دعوته إلى التأويل على نحو ما ارتآه».
وألقى «وهبة» اللوم على المثقفين والمفكرين الذين يخذلون التنوير بابتعادهم عن مواجهة فكر المتطرفين والجماعات التى تسحب الدين إلى سلطان الكهنة وأمراء الجماعات الإرهابية، قائلا إن «المثقف ليس لديه الجسارة فى إعمال العقل الناقد فى مجال الفكر، وإنما يستخدمه فى مجال السياسية اليومية الحياتية، ويتوهم أنه بذلك قد أدى وظيفته النقدية، إن المشكلة الأساسية ليست فى صدام المثقف مع السلطة وإنما فى صدام المثقف مع المجتمع، لأن المجتمع متخلف، وبالتالى فإن وظيفة المثقف هى الكشف عن جذور هذا التخلف، وجذور التخلف ليست قائمة فى الخارج، وإنما هى فى الداخل، وتوهم المثقف أن جرثومة التخلف مردودة إلى عوامل خارجية معناه أن هذا المثقف لا يعى حقيقة الموقف».